مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

فن الرسائل في حضرموت في القرن الثالث عشر الهجري .. مكاتبات الحبيب حسن بن صالح البحر أنموذجا (2 – 2)

أ.د. مسعود سعيد عمشوش


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 82

رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا


(ب)الأبعاد التاريخية والعامة في رسائل الحضارم:

ذكرنا أن رسائل البحر تتوزع بين الرسائل الإخوانية ذات الموضوعات الشخصية والاجتماعية والدينية (أو غير الرسمية وفق تصنيف أدريان غللي)، وبين الرسائل السياسية (أو الرسمية)، التي تتضمن أبعادًا عامة وتاريخية واسعة. وفي الحقيقة لم يكن الحبيب صالح بن حسن البحر رجل دين فقط، بل كان كذلك رجل سياسة؛ فهو لم يتردَّد في اتخاذ العديد من المواقف السياسية تجاه كثيرٍ من الأحداث المهمَّة، التي شهدتها حضرموت في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي). ونعثر في بعض رسائله على تفاصيل دقيقة لا نجدها في التاريخ، أو أن مؤرِّخي القرن الثالث عشر قد عادوا إليها عند تناولهم لحوادث ذلك القرن كما فعل معاصره سالم بن حميد في كتابه (العدة المفيدة في تواريخ قديمة وحديثة). ويؤكد ذلك أحمد عبد الله السقاف الذي كتب في موسوعته (تاريخ الأدباء الحضارم): “مع ما هو فيه من روح دينية، ومشاغل علمية وتعبدية، وتلاوات قرآنية، وأذكار مستديمة، فلم يكن متواريا عن المجتمع العام، وكما له رئاسته الاجتماعية والدينية والصوفية، فإن له زعامته السياسية الروحية على طوائف من العشائر السلاحية، كمعتقدٍ لهم، ذي إشراف على حالاتهم الاجتماعية والسياسية. وقد تندهش حين تعلم أنه من أركان الثورة الوطنية عام 1265هـ على الفئة اليافعية المتغلبة على سياسة تريم وسيؤن وتريس ولواحقها، من جراء استفحال مظالمهم، حتى لم يبق في قوس التصبر منزع، فكان في مقدمة الصفوف الثائرة، إلى أن كانت النتيجة: جلاء أولئك اليافعيين عن تلك البقاع، وزوال كابوسهم الجاثم على أنفاسها وسيادتها. كما نشاهد في (تاريخ ابن حميد) مناظر من تدبيراته ومجهوداته ومساعداته المادية والمعنوية، واستعمال نفوذه”. المجلد الثالث، ص122-123

ولأهمية الرسائل ذات الطابع العام والسياسي اضطر جامع مكاتبات البحر، الذي لم يحاول ترتيب الرسائل وفق تاريخ كتابتها، إلى فرز تلك الرسائل وتكريس الجزء الثالث من المجموع لها تحت مسمَّى: (ما كتبه لولاة الأمور وأرباب الدولة وغيرهم). ومن الواضح أن معظم (لا جميع) تلك الرسائل يتركز حول التعبير عن مناصرة الأطراف العلوية ومن تسانده ضد عدد من القادة والحكام اليافعيين في وادي حضرموت في القرن الثالث عشر.

ففي الرسالة السادسة بعد المئة، المؤرخة في 6 رجب سنة 1253هـ، يؤكد الحبيب حسن البحر لصديقه عمر بن زين الحبشي مساندته لانقلاب العلويين ضد الحاكم اليافعي في تريم، عبد الله غرامة، بقيادة أحمد بن علي الجنيد في تلك الفترة. وقد تناول الموضوع على النحو الآتي: “وقد وصل إلينا كتاب وللحبيب محمد من الأخ أحمد بن علي الجنيد، أن الرجل الباغي وقعت فيه هسفة، كما علمتم، وذلك إن شاء الله طالع أول السعد والانتصار، من الجبار القهار، وقد وددنا من أهل البيت خصوصًا، وسائر المؤمنين، أن يشنوا غارة على دين الله، ونصر شريعة رسول الله، وإقامة ما وضعت من حدود الله، والحبائب آل جنيد قد أدخلهم الله في هذا الأمر وفيهم أهلية من جهة الدين ومعرفة الشريعة المحمدية، وقد اجتمع الجند عندهم، وبذلوا لهم، وإن كانوا مكتفين، شر هذا الباغي وغيره. فيحق للجميع، من أهل البيت وغيرهم، أن يعقدوا البيعة للأخ أحمد بن علي، لأنه أعرف بدين الله وأحكامه، والسلطان المبارك يكون أعلى نوابه، والجند من وفقه الله وهداه، ومن بغا أن يكون من حزب الله يساعد على ذلك، ويرى ما يسره من كل خير ونصر وعاقبة حسنة”. ص729

وفي الرسالة السابعة والخمسين بعد المئة لا يتردَّد حسن بن صالح البحر في تهديد حاكم تريم اليافعي عبد الله بن عوض غرامة، الذي قام بقمع تحركات علي بن أحمد الجنيد وحبسه مع بعض زملائه، وكتب له بتحدٍّ ولهجة شديدة الغضب: “من حسن بن صالح البحر إلى عبد الله بن عوض غرامة. السلام عليك إن كنت مجيبًا للحق، وسامعًا للنصيح في الدين، وإلا فلا سلام إلا على المؤمنين المهتدين، الذين لم يلبّسوا في الدين، ولم يسلكوا سبيل المعتدين الظالمين. وبعد، فهذه تذكرة وتبصرة لمن أجاب لبارئه بما أمر، وحجة قائمة على من طغى ومعذرة… وهذه نصيحة حق وكلمة صدق، ممن لا يرى في الوجود غير مولاه، ولا يركن إلى أحد سواه، ولا يرفع إلى غيره سراءه ولا ضراه، وإن لم تقبلها فقد قامت عليك، وبلغت المعذرة. وسترى إن شاء الله ما في صمت مخالفتها من العطب، وسوء المنقلب، وإن كنت مطيع وللنصيحة مجيب، فبادر إلى إخراج هؤلاء الأشراف الذين أهنتهم، وخوفتهم وروعتهم، وروعت أهاليهم واطفالهم، ويذلك تسلم من العقوبة، وشر المثوبة، ونحضيك بدعوة مستجابة، يصلح بها شأنك، ويحفظ بها إيمانك، وإلا رميناك بالسهام الصائبات، وبالدعوات المستجابات عند المجيب لخاصته وأحبابه، وما أهونك وما أقلك، وما أصغرك، وما أذلك، على جبار السماء. والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الردى، وهذا لك ولمن ساعدك على الظلم، وأجراك عليه، بل موعظة لنا ولك ولسائر المؤمنين والمؤمنات”. ص873-874

وعندما توفي عبد الله غرامة تولى حكم تريم ابنه عبد القوي، الذي قام هو أيضًا بحبس علي الجنيد وزملائه، فوجه له حسن بن صالح البحر رسالة لا تختلف لهجتها عن أسلوبه في الرسالة التي كتبها لأبيه، وقال فيها: “من حسن بن صالح البحر، إلى عبد القوي بن عوض غرامة، فإن كنت عبد القوي حق لك أن تسمع الموعظة، وتتقي وأنت عبده وترعوي، وإلا فأنت مطيع ومتبع للشيطان الغوي، وقد بلغنا أنك قبضت السادة الفضلاء أولاد السيد أبي بكر المشهور والسيد العلامة الفاضل أحمد بن علي الجنيد. وقد تقدم من أبيك مثل هذا الأمر، وقد حاق به الله من المكر، وأنت في ابتداء أمرك أظهرت من الخير ما الله أعلم بما في سرك، وقد أعلنا بذلك شكرك، فإن أكنت ذا قلب سليم وخفت من العلي العظيم، أطلقت هؤلاء الصبيان، وكذلك السيد الحليم، وسمعت نصيحة من يدعوك إلى الصراط المستقيم، ورفعت بنفسك من هذا المرتع الوخيم، لتفوز بالسلامة والغنيمة ممن هو بالمرصاد على عباده وبهم خبير، وأصغ إلى قول من يشفق عليك، ويحب لك أن ترجع إلى ريك وتستقيم، وإن أبيت وأردت إلا العصيان، وتلبست بالظلم والطغيان، وأهنت أهل بيت المصطفى من عدنان، سوف إن شاء الله تأتيك النقم، وعاجل العقوبة، وتبوء بالخزي والخسران. وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وأبرز للطغيان، هذا الفرس وهذا الميدان، نقول ذلك معتمدين على الملك الديان، الذي لا يقوم لغضبه أرض ولا سماء ولا جان”. ص868-869

وقد لفت أسلوب البحر في رسائله إلى آل غرامة انتباه المؤرِّخين، ومنهم عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف الذي كتب في (إدام القوت): “كان سيدنا الحسن البحر لا يقر على كظة ظالم، ولا على سغب مظلوم… وكان لا يقوم أحد لغضبه إذا انتهكت حرمة الله، واعتديَ على من لا ناصر له سواه. وكلن لا يخاطب عبد الله عوض غرامة ومن دونه من الرؤساء في المعتبة إلا باسمه مجرّدًا من كل صفة. يسكت لغرامة على آرائه الوهابية لأن بعضها يوافق ما عنده من تجريد التوحيد، ولكن لا هوادة له عنده متى انبسطت يده في ظلم من لا ناصر له إلا الله. فهو ركن الإسلام وموئل الأنام”.

وبالنسبة لعلاقة الحبيب حسن بن صالح البحر بآل كثير والشنافر بشكل عام، فقد كانت في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري متأرجحة؛ ويؤكد البحر أنه قد بذل جهودًا كبيرة وغير موفقة لإرساء الصلح بين مختلف الفخائذ الشنفرية. ويذكر ذلك في الرسالة الرابعة والثلاثين بعد المئة، الموجهة إلى السيد سالم بن علوي العيدروس، التي كتب فيها: “صدر هذا الكتاب بعد وصول كتابكم، وتذكرون أنكم واصلين للدخول بين آل كثير، وصلاح شأنهم. وقد علمتم أنا دعوناهم إلى دين الله وشريعة رسوله، ونشر حالهم في الآفاق، وقدموا على ذلك محابيس، ثم إنهم بعد ذلك هدموا ما شيدوا، وضيعوا ما به سعدوا، واستحوذ عليهم الشيطان، فركض عليهم بخيله والفرسان، ليكونوا معه في حزب أهل الخزي والخسران. وذكرت أنك واصل إليهم، فإن كنت داعيًا لهم ومشفقا عليهم، وعاد لهم من عناية الله نصيب، استقالوا العثرات، وخشوا عقوبة جبار الأرض والسموات، وهو يقبل التائبين ويغفر الخطيئات. وإن بقوا على تمردهم وعصيانهم، فقد حقت بهم الندامات، ووقع بهم ما وقع في الأمم السالفات، لأنها قامت عليهم الحجة ووضحت لهم المحجة، بإذعانهم لدين الله، وحق فيهم ما قال جلا وعلا (وأما ثمود فهدينهم فاستحبوا العمى على الهدى)”. ص789

لكن، حينما يئس حسن بن صالح البحر وبقية العلويين من إقامة علاقات ودية مع الحكّام اليافعيين في وادي حضرموت، وأيقنوا بعدم قدرتهم على مواجهتهم بمفردهم أو إقامة سلطة خاصة بهم في تريم، قرروا أن يساندوا أمراء آل كثير الذين، بقيادة غالب بن محسن، شرعوا سنة 1261هـ في تأسيس السلطنة الكثيرية الثالثة انطلاقًا من حيدرأباد وبلدة الغرف التي اشتراها غالب بن محسن من القرامصة التميميين. وقد دفع العلويون ثمنًا غاليًا لمناصرتهم لآل كثير في تريم وتريس، وبشكل خاص في سيؤن خلال الأحداث المرعبة التي شهدتها مدن الوادي في سنتي 1264 و1265هـ.  والتي ذكر حسن البحر بعضًا منها بالتفصيل في الرسالة الطويلة التي بعثها إلى علي بن ناجي بن بريك مطالبًا إياه بفك الحصار عن الوادي وآل كثير، وقد ضمَّنها ابن حميد كتابه (العدة المفيدة، مجلد1، ص428-431). وجاء فيها: “ولابدّ ما بلغكم ما وقع من يافع من ظلم وعدوان وفسوق وعصيان، ولم يبالوا بسخط الرحمن، حتى أنهم أهانوا أهل البيت وظلموهم، وكشفوا عوراتهم، حتى أنهم بلغوا نساءهم إلى حصونهم، وأخذوا أموالهم قهرًا، ودخلوا بيوتهم بدون استئذان منهم، ولم يبالوا لفعل الجرائم والآثام، ولا بنسبة جدهم خير الأنام، حتى بلغ من أولئك القتل والأسر، ثم أذن الله بمن قوّى عزيمته، وأصلح في ذلك سريرته، ببذل أموال في دفع تلك المنكرات، حتى غلبت على من غلبت عليه الشقاوة والحرمان، وأضمروا في نفوسهم المكر والعدوان، حتى عجل الله النصر لأهل الإيمان، وشتت أهل الظلم والعدوان، ولم تحزم بهم قوتهم ولا نفعتهم أعوان الشيطان، وقد بذلنا النصيحة لهم، فلم يرفعوا لها رأسا. وقد اختلفت إلينا كتب من الماس أن عمر بن عوض مراده إقامة الشريعة، ولم يوافق منه العمل بذلك”. ص429-430

وكان حسن البحر قد استبشر خيرًا بتراجع هيمنة يافع على مدن الوادي، لكن تلك الأحداث كانت في الحقيقة العامل الحاسم لقيام عمر بن عوض القعيطي بتأسيس السلطنة القعيطية استجابة لليافعيين الذين طلبوا منه الانتقام مما فعله بهم آل كثير في شبام ومدن الوادي الأخرى. وقد أدرك حسن بن صالح البحر مدى خطورة تلك السلطنة الناشئة على ما حققه عمر بن منصور وغالب بن محسن، وسارع إلى القيام بحملة كبيرة لدعم السلطان غالب بن محسن ومناصرته ضد آل يافع وعلى رأسهم عمر بن عوض القعيطي. وامتدت تلك الحملة إلى خارج حضرموت؛ إذ كتب البحر، في الأول من ذي الحجة 1264هـ، رسالة طويلة (إلى أعيان الحضارمة المهاجرين في بلاد جاوة)، يحثهم فيها بتقديم الدعم المعنوي والمادي وجزءٍ من الزكاة للسلطان غال بن محسن، وكتب فيها: “وهذه تذكرة لنا ولإخواننا، خصوصًا من شطّ به البعد عن الوادي الميمون، كما اقتضاه أمر الذي لا يسأل عما يفعل وهم يفعلون، بما طغا في البلاد من الطاغين، الذين هم عن أمر الله ساهون، وغيّروا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وألجأوا العباد إلى الغربة عن أوطانهم والأولاد، والآن جلا الله تلك الفئة الباغية، التي أضلها بما بدا منها من البغي والنكاد، وأصبح الوادي في مسرة بفضل الكريم الجواد، وأيد الله أولى النيات الصالحة بالتأييد والسداد، وبقي أهل الطغيان بعد إبعادهم في محاربة وعناد، وأمرهم إن شاء الله إلى تبديد، ولا تحصلوا قصد السوء بمراد. فوجب منا، خصوصا أهل البيت، المعاضدة والإسناد، وسلوك سبيل الإرشاد، وإعانة من قام بهذا الأمر بالجد الاجتهاد، لنيتهم الصالحة، ومحبتهم للطيبين الطاهرين الذين هم للمصطفى أحفاد، ومرادهم الحق ونصر دين الله وشريعة صفوة خير العباد، وهم الدولة آل عبد الله كافة. ولا بد أنه بلغكم ما ينفقه على العصبية وحمية الجاهلية، عمر بن عوض القعيطي، على تلك الفئة الباغية، بإرجاعهم إلى المرتع الوخيم، وقد أظهروا في ذلك الوادي كل طغيان عظيم. وعزم بالهمة العالية، بما خصه ذو الفضل العظيم، السلطان غالب بن محسن بن أحمد، بهمة صادقة، ونية صالحة، وقلب سليم، مع أنه شفيق بالمؤمنين وبهم رؤوف رحيم، حتى بذل أمواله في صلاح البلاد والعباد… فانهضوا انهضوا معاشر الإخوان، إلى الأوطان، الذي منّ الله على أهلها باليمن والأمان، واغتنموا ما بقي من الأعمار في عمارة فراديس الجنان، واسلكوا مسلك أهل التقوى والإحسان، تغشاكم النوار وتنتفي عنكم الأكدار، برضوان مولاكم العزيز القهار… وقد مست الحاجة، بعد ما أنفقه السلطان من الأموال، ودعت الضرورة إلى المعاونة من مياسير المسلمين، في ردع تلك الفئة الباغية بإعانة من  قام بهذا الشأن ورغب فيه، وشن الغارة عليه، مع عفتهم وعلو همتهم، ورحمتهم بالعباد، حتى أنهم، ما احتاجوا إليه يقترضونه ويستدينونه على جود الله، وما وقع في أيديهم، أرجعوه إلى كل ذي حق حقه، بلا مماطلة، والنفوس مطمئنة بما اقترضوه واخذوه ممن بذل فيذلك، لما في قلوبهم من الرأفة. غير أن ميسور الدولة كما تعلمون، بحال الساعة، قليل والناس في ضنك معاشهم وإلا فلله الحمد، ما وقع بهم قحط ولا شدة من يوم ما أقام الله السلطان في هذا الوادي، في ميسرة ومسرة، من فضل من الخلق خلقه، والأمر أمره. فنرجو من الله أن تقوموا بالعزائم، وتظفروا بالغنائم، بإعانة هؤلاء أولي الهمم العلية، بالمبادرة بإخراج ما سمحت يه نفوسكم الزكية، بما يعينهم على نصر دين الله والشريعة المحمدية، فبذلك إن شاء الله تحوزون الحسنيين وتفوزون بسعادة الدارين، وقد تعيّن ذلك. ولا يخفاكم، حماكم الله، أن المذكورين لهم سهم من الزكاة، إذ هم الغارمون، والغارم يعطي منها حقه كما أمر الله”. ص814-815

وقد حظيت تلك الرسالة بانتشار واسع، وعقّب عليها، مساندةً، عدد من زملاء حسن البحر، وأبرزهم عبد الله بن حسين بن طاهر وعبد الله عمر بن يحيى. وقد تمّ تضمين مجموع مكاتبات البحر اثنين من تلك التعقيبات، وضمنها ابن حميد في كتابه (العدة المفيدة) مجلد1ص143.

ولمناصرة السلطان غالب بن محسن الكثيري والحصول على الدعم اللازم له لم يكتف الحبيب حسن بن صالح البحر بالتوجه إلى المهاجرين الحضارم في جاوة، بل خاطب أيضًا الحاكم الهندي الأجنبي، سلطان حيدرأباد، وطلب منه التدخل في وادي حضرموت والوقوف لصالح السلطان غالب بن محسن ضد عمر بن عوض القعيطي، وذلك في رسالة طويلة (رقم 144)، كتبها له في الأول من ربيع الأول سنة 1265، وحمَّله فيها مسؤولية ما يقوم به عمر بن عوض القعيطي من تخريب في حضرموت، وقال فيها: “ثم أن الحاصل لهذا التعريف، بعد إهداء السلام، وبذل الدعاء الخاص والعام، رفع الشكوى، على الله العالم بالسر والنجوى، ثم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، ثم إلى كل مؤمن من أهل التقوى، سيما استخلفه الله على عباده في بلاده، وأمدهم بجزيل الإمداد. وأنتم منهم معدودون، وفي سلك عقدهم داخلون، لما يبلغنا عنكم على ألسنة الواصلين من عندكم، من حب أهل الإسلام، وإعزازهم من بين الأنام، والشكاية مما نزل بوادينا ونادينا، من البلوى والفتن، والأسواء والمحن، التي عمت الصالح والطالح، والغدي والرايح، وزيادةً أهل التقوى والصلاح، والعلم والفلاح، وغيرهم من ضعفاء العباد، ومساكين البلاد، مما لا ناصر له إلا البر الجواد. فقد ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا، وضعفت أحوالهم، وقلت أموالهم، وخابت آمالهم، وقطعت سبلهم، وتعطلت أسبابهم، وصاروا كالحوت الذي نشف بحره، وغار نهره، فحار الحكيم، وسكت العليم، وصرخ اليتيم، وبكى العديم. وكل ذلك بواسطة عوض بن عمر القعيطي، القاطن الآن في ملككم، وتحت سيطرتكم، وقهركم، يصرف الأموال الكثيرة والذخائر الخطيرة، على جند الفساد والعناد، المولعين بإيذاء العباد، وخراب البلاد، وأثار بذلك نار الفتنة، بعد أن خمدت، وهيّج ريحها بعد أن ركدت، وقطع السبل والمفاوز، على كل مسكين وعاوز وعاجز، ولم يأل جهدًا في إيذاء أهل الجهة الحضرمية، لا سيما السادة العلوية، والعترة النبوية، التي أمر الله باحترامها، ومودتها وإكرامها، كما في كتابه العزيز. وحاصله، أنه ينفق ويمون خلف السوء والفساد، ويغريهم على العباد، ومن جملة ذلك إخراجه الطنبشية والمدفع، فآذى يه المساكين وروّع، وجرا به المعتدين وشجّع، وإن كان عمله مبتور، وعمله هباء منثور، وشيطانه خاسر ومدحور، بعون من إليه تصير الأمور… حتى قام من جهته السلطان غالب وجلاهم، وأخرجهم من مدن حضرموت، بما لهم من فراش، وأسلاب وقراش، واستوطنوا بذلك الوادي وتركهم نائب السلطان خوفا من شر عمر بن عوض ودنياه، وحمية جاهلية وهواه، واطمأنت الأرض بعد بعدهم، وحصل الأمن عند فقدهم، وسكنت الخواطر، وانشرحت الصدور، وخمدت الفتن وانزاحت الشرور. حتى وصل القيام من عمر بن عوض ونوابه، يجمعون الأقوام ليطفئوا نور الله بأفواههم ويؤذوا الأنام، ويأبى الله إلا أن يتم نوره التام، ولقد هم بما لم ينل، بحول الله عز وجل، هذا وما الحامل والمعين له على ذلك إلا ما يحصل له من المال الذي يأتي من عندكم، وعلى يديكم، ويستعين بذلك، على محاربة الله، وإيذاء أولياه وأصفياه، وإخافة مساكين الله، وضعفاه، ليحق عليهم ما قال الله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. الخ. فالمطلوب من الله ثم منكم زجره، ومنعه وقهره، عن فعل القبائح والسيئات الذي يغضب لها رب الأرض والسموات بمنع الجرايات، وزجره عن هذه الجراءات، فها هو يصدّر من الأموال لإثارة الشرور من ملككم، شيء كثير، ومال كبير. وأنتم لكم اليد الطولى والقدرة على المنع من هذا الأمر الوخيم والفعل اللئيم… وكذلك نطلب من الله ثم منكم، إعانة السلطان غالب بالمدد والعدد والأخذ باليد، ليقيم شرع الله بالبلد، ولقد سكنت بقومته الفتن والإرجاف، والشرور والإجحاف، في بلاد الأحقاف، وسكنت الثائرة واجتمعت الكلمة، ليكون لكم بذلك من الله المدد الحسي والمعنوي، والثواب الدنيوي والأخروي”. ص223-824

 ومن اللافت أن المواقف السياسية للحبيب حسن البحر لم تنحصر في الشأن الحضرمي، بل تجاوزته إلى خارج حضرموت، فهو، في الرسالة السادسة والثلاثين بعد المئة مثلًا، يتواصل مع فريد بن ناصر بالرواس؛ ليعبِّر له عن استنكاره الاحتلال البريطاني لعدن ومساندته له وللسلطان الفضلي الذي شرع في مقاومتهم، ويقول فيها: “صدر هذا الكتاب بعد أن بلغنا أنكم شانين الغارة على دين الله، ومعاداة من كفر بالله، فذلك سعد عظيم لمن أحبه الله وارتضاه، فبعثنا بهذا الكتاب تهنئة لكم بما خصكم به من لا إله غيره، ولا رب سواه، أسعد الله عزائمكم بهذا الفعل العظيم، وقطع بكم كل طاغ من أتباع الشيطان الرجيم. وقد وصل إلينا كتاب من السلطان المسعود أحمد بن عبد الله الفضلي، ومعه همة عالية ونفس زكية، على من كفر بالله من الإفرنج الذين دخلوا عدن وهم محادين لله، وقد ضعفت شوكة الإسلام، على أن يجمعوا همهم وقلوبهم وقوالبهم على هذا العدو اللعين، وصار عندهم هذا الأمر العظيم أضغاث أحلام، وقد كادت أن تخلع رقابهم عهدة الإسلام، وصاروا منها في أجنة الظلام، حتى مالوا إلى الكفار بطمعهم بما يدخلون به في جحر الكافرين، ويمحق عليهم دنياهم مع ضياع الدين، فيا ويلهم من غضب وعذاب القوي المتين، وسوف يلقون الخزي والعذاب المهين. وقد أرسلنا جوابا للسلطان المذكور المنصور إن شاء الله، أحببنا أن تنظرونه طي هذا الكتاب، فكونوا بالله منتصرين، وعلى حوله وقوته معتمدين”. ص793

 كما لا يتردد حسن البحر عن التعبير عن دعمه المعنوي للحاكم العثماني في ظفار عبد الرحمن بن عقيل السقاف، فقد كتب إليه رسالة بتاريخ 28 ربيع الأول 1245هـ (رسالة رقم 128) يدعوه فيها إلى الالتزام بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، وكتب فيها: “قد علمنا أنكم واصلين إلى جهة ظفار، ونرجو أن الله يؤيدكم وينصركم، فكونوا معتصمين، ولطاعته وتقواه ممتثلين، وشنوا الغارة على إقامة شرع الله على الخاص والعام، والقوي والضعيف، ولا تسامحوا أحدًا في حدود الشريعة، ومن هاهنا تهون عليكم كل عسير، ويسهل كل صعب، قال تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم). وقال تعالى: (الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). ومن جاء مذعنًا لكم، معطي حكم الله، نابذا لحكم الطاغوت، وعرفتم صدقه في الآن، لا بأس إن سامحتوه في الأمور الماضية لكن خذوا عليه بإقامة الحدود والقصاص في جميع الأحكام الشرعية، هذا إذا انشرح الخاطر بقيامكم مقام الحبيب محمد وقويت الهمة واستخرتم الله فيه، وصلحت النية لله ولدينه”. ص774 ويكتب رسالة مشابهة (رقم 129) إلى فضل بن علوي مولى الدويلة الذي عينه الباب العالي حاكما عثمانيا لظفار بين سنة ١٨٧٤و سنة ١٨٧٩م.

وبوصفه علامة ورجل دين يتواصل الحبيب حسن بن صالح البحر كذلك مع والي مكة، في الرسالة الخمسين بعد المئة، وينبهه فيها إلى ما يحدث من منكرات وتجاوزات لحدود الله في مكة وجدة. وقد نشر الباحث الدكتور محمد أبوبكر باذيب تلك الرسالة، مرجحا أن الشريف محمد بن عبد المعين بن عون الحسني النموي (ت 1273هـ) كان والي مكة الذي وجهت إليه الرسالة التي جاء فيها: ” وقد بلغَنا من المنكراتِ الفظيعة ما يوجب زوال النعم، وحلول النقم، وقد أقام السلطان عبد المجيد بن محمود بن عبدالحميد، خليفةً في إقامَة حدود الدين، وشريعة سيد المرسلين، وخلفائه الهداة المهتدين، الذين جعلهم الله سيفه على الجاحدين والكافرين.

وبلغنا أن جندهم تزيَّوا بزي الكافرين الملحدين، من النصارَى المحادين لله، إذ كانوا لما أنزله من كتابه وما جاء به الرسول الأمين مكذبين، وما ذلك إلا أن استحسنوا دينهم وخلا الإيمان في قلوبهم، وخافوا أعداء الله المعتدين، ولم يشفقوا من عذاب الله المهين، وينتصروا بقوّة الله القوي المتين، قال جل وعلا: ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾، حتى استحوذ عليهم الشيطان اللعين، وأنساهم قيوميته من لم يقم لغضبه أهل السموات والأرضين أجمعين. حتى غفل هؤلاء النوابُ والحكام من المسلمين، فكأنهم لم يؤمنوا باليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، فإن كانوا بوعد الله مصدقين، ولأمره ممتثلين، فليخرجوا هذا الذي شبهوا به وشاركوا فيه الكافرين الملحدين، وليقوموا بأمر الله، وليغاروا على دين الله، إن كانوا مؤمنين، وليعلُوا كلمةَ الله عنوةً ويعزوا المسلمين ويذلوا الكافرين، إن كانوا للنصيحة سامعين، ولهدي رسوله متبعين، ويبشرون بحوله وقوته بالفتح المبين، ويهزَمُ بهم جند الشيطان، وحزبه الخاسرين، وليزيلوا هذا الزيَّ الذي هو زيّ الكفار، ويأمروا بزي المتقين الأبرار، قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾. وعليهم أن يزيلوا من دهليز الحرمين الشريفين، جدة، ومن يسكنها من الفرنج والنصارى، بل ومن غيرها من بلدان المسلمين، وقد بلغنا أنها تقبل شفاعتهم، ومسامحتهم في عشورهم وجناياتهم، وتعزيزهم وتوقيرهم، وظهورهم بشرب الخمر، وتعاطي الكفار وغيرهم، ممن لا يخاف الله من المسلمين. وبلغَنا أيضا مزاحمة النساءِ بالرجال في المطاف، فليميزوهن بأن يكن في حاشيةِ المطاف، كما ذكره العلماءُ، لأن اختلاط الرجال بالنساء موجبٌ للفتنة ووقوع الفاحشة، ولو من النظر، تحت بيت الله العظيم. ومن ذلك توقير أهل الدنيا، وإهانة الضعفاء والمساكين من عباد الله، وإخراجهم من الصفوف، ويجعلون مكانهم أهل الجِدَة، وربما يكون منهم من يستجاب دعوته، ويغضب لغضبه جبار السموات والأرض، فيحرق الوالي والمولى عليه بسطوات عدله. ومن المنكرات أخذهم الأجر الكثير على الطائفين، يعجز عنه الفقراء، ويتعب فيه الأغنياء، وإذا لم يعطوهم ذلك سبّوهم وشتموهم. على الولاة والعلماءِ أن يزيلوا هذه المنكرات، ليحظون برضَا رب الأرضين والسموات، فيسلموا من غضبه بأعظم السطوات، فإنه إذا غضب لا تقوم له جميع البريات وسائر الكائنات. وعليهم أن يتفقّدوا ما في الحرَم، من داخله وخارجه، طائفه ومصليه، على ما مضى عليه السلفُ السالكون على سنة سيد المرسلين، وقد حججنا في زمن قبلَ هذا، ولم نر تلك المنكرات، وصار هذا من غربة الدين والأمور المستقبحات. وقد بلغَنا ذلك ممن نثقُ بقوله ويخاف الله ويتقيه، فبعثنا بهذه النصيحة لكم حذراً وإشفاقاً من غضبِ الله، وغارةً على دين الله، وتضييع حدوده وأحكامه، وهذه النصيحةُ إن شاء الله جديرةٌ بالقبول، لمن كان له قلب حي وحياءٌ، ومن لم تنفعه النصيحة فإنه ميتٌ، والشجر الصالبُ العرقِ لا ينفعُه سقيُ الماء، والذي في عروقه بقايا حياةٍ يحيى ويرتعِش. والمؤمنون الذين بذر فيهم الإيمان، قال فيهم جلّ وعلا: ﴿وبشر الذين آمنوا أنّ لهم قدم صدق عند ربهم﴾.

الجزء الثالث- الأبعاد الفنية في رسائل الحضارم في القرن الثالث عشر:

(أ) السجع والبديع في رسائل الحضارم في القرن الثالث عشر الهجري:

لا شك في أن نهضة الأدب قد تأخرت في حضرموت، ففيها ظلت أساليب الكتابة في القرن الثالث عشر الهجري (القرن التاسع عشر الميلادي) متأثرة كثيرًا بأساليب عصور الانحطاط التي اتّسَمت، في الغالب، باستخدام واسع لأسلوب السجع، والمحسنات البديعية، والأحاجي اللغوية، والمفردات العامية والأعجمية، وكذلك بالمزج بين اللغة الفصحى واللهجات العامية.

ومن المعلوم أن أسلوب السجع الذي ارتبط أساسًا بفنَّيِ الخطابة والرسائل الديوانية والإخوانية والأجناس النثرية الأخرى يجعل من إيقاع الكلام وسيلة للإقناع. وفي اعتقادنا أن الطبيعة التواصلية لرسائل الأدباء ورجال الدين تميل في كثير من الأحيان إلى توظيف السجع والمحسنات البديعية الأخرى للتأثير في المتلقي.

لهذا حرص معظم كتاب الرسائل في حضرموت على الاعتناء بديباجتها ودعموها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأمثال والأشعار، واستخدموا فيها ضروبا مختلفة من مرتكزات البيان والبلاغة العربية التي التصقت بالنثر العربي قبل تحوله إلى الأسلوب المرسل في العصر الحديث.

ومن المؤكد أن مؤلف (سمط الدرر)، الحبيب علي بن محمد الحبشي، قد بزّ فنيًّا، في مكاتباته جميعَ كُتَّاب الرسائل الحضارم في القرن الثالث عشر الهجري. ففي رسائله، كما هو الحال في إجازاته ووصاياه، بلغ الحبشي درجة من التأنق لم يبلغها غيره من كتاب القرن الثالث عشر الهجري؛ إذ إنَّه التزم غي جميع مكاتباته أسلوب السجع والتوازن واستخدم مختلف أنواع المحسنات البديعية، اللفظية والمعنوية، كالتطابق والجناس والتشبيه. نلمس ذلك مثلًا في هذه الرسالة التي بعثها في الأول من صفر 1287هـ إلى الحبيب علي بن سالم بن الشيخ أبي بكر بن سالم، والتي كتب فيها:

“بسم الله الرحمن الرحيم. دهرنا أضحى ضنينا * باللقاء حتى ضنينا/ يا ليالي الوصل عودي* اجمعينا اجمعينا. (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم. وأنهارًا وسبلًا لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون) [النحل، 16-16]. الحمد لله الذي أبرز من خزائن الكرم والجود، ما ألحق المطرود بالمسعود. وفّق وذوّق، وحبّب وشوّق، وأصحى وأسكر، وأنسى وذكّر. في تعريفه تعريف عين المعرفة، وأنّى للواصف أن يدرك حقيقة الصفة. أوضح مناهج السير للسائرين فساروا، وكشف سبحات وجهه للعارفين فساروا، إلى حيث يتضح المعمى، ويقع الاسم على المسمى، وفي سرائر تقلبات التقليب، والمعنى الغريب، والسر العجيب، والنهار الذي ليس لشمسه مغيب… صدور المسطور، والدور لا تزال تدور، والكتاب الذي أرسلتموه، والقريض الذي نظمتوه، وصلًا إلينا. وكانا من نعم الله علينا، وما أبدعتم به في الفريدة النونية، هو فيض مواهبكم اللدنية، ولقد سرحت طرفي فيما أبديتم من المعنى الغزير، فرجع خاسئا وهو حسير… وقد وصلت إلى تريم، لزيارة من بها مقيم، وحضور اجتماع المسلمين، والدخول في زمرة المؤمنين، والمطلب الأكبر هو الاجتماع بكم، لكوني ظانا وصولكم، ووددت الوصول إلى طرفكم، ولكني خفت طول المدة، فأسأل الله أن يزلفني بلقياكم عن قريب في لطف وعافية. شعراً: كتبت ولي دمعة جارية* ولي في اللقاء همة عالية/ وشوقي إليكم وحق الإله* كشوق المريض إلى العافية. غيره: شوقي لذاتك شوق لا أزال أرى/ أجدّه يا إمام العصر أقدمه. ولي فمٌ كاد ذكر الشوق يحرقه* لو كان من قال نارا أحرقه. هذا وما في الفؤاد لا يحصره البياض والمداد. فعسى الله يمن باللقاء، ويجمع اللذين تفرقا، والدعاء الدعاء الدعاء، والسلام مني ومن جميع إخواني، لا سيما الخاصة، وولدي عبد الله، ووالدتي، عليكم وعلى من لاذ بكم، لاسيما جميع أهل حضرتكم، والسلام. والكتاب على كاهل العجل، وإلا فالخطاب معكم لا يمل، والسلام ختام. الباسط ذراعيه بالوصيد، أٌقل العبيد، الفقير إلى الله علي بن محمد بن حسين بن شيخ الحبشي. علوي عفا الله عنه”. مجلد1، ص23-24

وحرص الحبيب حسن بن صالح البحر هو أيضًا على إضفاء أبعادٍ فنية على معظم رسائله، لا سيما تلك التي وجهها على القادة والحكام والولاة. لكنه، على الرغم من كونه شاعرًا، فإنَّه لم يمزج النثر بالشعر في رسائله، ولم يصدِّر أيًّا منها ببيت شعر كما فعل الحبيب علي الحبشي، ولم يبالغ مثله في البحث عن الطباق والجناس والكلمات الجزلة والغريبة. واعتمد في الغالب سجعًا سهلًا ذا فواصل قصيرة.

وقد اعتنى حسن البحر بشكل رئيس بصياغة افتتاحيات (أو تصديرات رسائله)، التي يضيف إليها عادة عددًا من الآيات القرآنية، ويجعلها بساطًا أو مقدمة يمهّد فيها، بالموعظة الحسنة، للموضوع الذي سيتناوله في الرسالة، وذلك اتباعا للتقليد السائد عند كبار مؤلفي الرسائل الإخوانية في التراث العربي قبل القرن العشرين الميلادي. ففي مفتتح الرسالة الثالثة بعد المئة، التي وجَّهها إلى عبد الله وعبد الرحمن أبناء أبي بكر المشهور ويشرح لهم فيها كيفية العلاج باستخدام الماء المقروء عليه القرآن، يبدأ قائلًا: “بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله مزيل الآلام بلطفه، وكاشف الأسقام برحمته وعطفه، وصلى وسلم على سيدنا محمد الذي شمله الله بركته وكنفه، وعلى آله وصحبه الذين جعلهم الله لكل كافر مصيبته وحتفه”. ص720

أمَّا رسالة العتاب (الرابعة والعشرون)، التي بعثها حسن البحر لأحد محبيه بعد أن طلب منه أخوه التدخل لإنهاء خصام حدث بين الأخ وأهله، فقد صدرها على النحو الآتي: “بسم الله الرحمن الرحيم. وعد الله الصابرين المخرج مما يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون. والحمد لله الذي جعل الألفة والمواصلة بين المؤمنين من أعظم شعائر الدين، خصوصًا الأهلين والأقربين، وجعل ذلك شعار المؤمنين والمنيبين إلى رب العالمين، وجعل القطيعة والتحاسد والتباغض بين حزب الشياطين الخاسرين، فليس ذلك من شأن المتقين المفلحين، بل يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، كما نص على ذلك في كتابه المبين. وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين”. ص556

ومن اللافت للانتباه في رسائل حسن البحر والمميّز لها: توظيف كاتبها للسجع بهدف كسب ودّ المتلقي والتأثير فيه، وذلك من خلال جعل قافية اسمه تتكرر في جميع الفواصل التي تتكوّن منها (فقرة المتلقي). ففي الرسالة السابعة والأربعين، مثلًا، توجّه البحر إلى متلقِّيه قائلًا: “إلى حضرة الحبيب الأمجد عبد الله بن علوي بن المقدم بن الحبيب الإمام علي بن حسن العطاس، حفظه الله البر الرحيم من كل بأس، وأسعد به مدار الساعات والأنفاس، وسلك به مسلك أسلافه الذين أحكموا في طاعة ربهم أمكن الأساس، حتى سادوا بفضل مولاهم على جميع الأجناس”. ص601

ويبدأ الرسالة الثامنة والعشرين على النحو الآتي: “من حسن صالح البحر إلى محبه أنيس الفؤاد وخلاصة الوداد محمد بن المؤمن الصالح سالم بلجون، حفظه الله ورعاه الذي يقول للشيء كن فيكون، وبلغه في الدنيا والآخرة المرغوب والمسهون، فإن فضله غير مكنون، بل لم يزل إحسانه وفضله ممنون”. ص564

وفي الرسالة الثالثة والثلاثين توجه حسن البحر إلى محبه عبد الله باسلامة قائلًا: “إلى المحب الأنور الملحوظ بعين العناية، عبد الله بن زين باسلامة، حلاه الله بحلية الاستقامة، وحفظة من كل أذية وملامة”. ص574

(ب)- اللهجة العامية واللغة الفصحى في رسائل الحضارم:

 ومن أبرز السمات الفنية لرسائل الحضارم في القرن الثالث عشر الهجري: ظاهرة المزج بين اللهجة العامية الحضرمية واللغة الفصحى. وفي الحقيقة، من السهل العثور على مفردات وتراكيب عامية في جميع المكاتبات الحضرمية، حتى في تلك الرسائل التي خطّها كبار الأدباء ورجال الدين. وهذه الظاهرة كانت – كما ذكرنا- سائدة في مختلف الأجناس النثرية العربية قبل القرن العشرين (وقد تحدثنا عنها بشيءٍ من التفصيل عندما تناولنا الأبعاد الفنية في السيرة الذاتية للحبيب حسن بن علي العطاس).

وفي الحقيقة، نلمس هيمنةً كبيرةً للهجة الحضرمية في بعض المكاتبات الحضرمية، وانحسارًا واضحًا في بعضها الآخر. نلاحظ، مثلًا، أن الحبيب طاهر بن حسين بن طاهر يستخدم بشكل مطرد اللهجة العامية، بعكس أخيه عبد الله بن حسين. ففي رسالته القصيرة التي سبق أن أوردناها في الجزء الثاني من هذه الدراسة، رصدنا التراكيب والمفردات العامية الآتية: “والكثافة إلى غاية”، “وأن شملهم بايتبدد”، “حسبما عرّفناكم في عدة خطوط”، “ما هناك مُشوِّش”، “في لحيه الأيمن”، “أهل التدبيرة، “والخطوط مبعاد وصلت”، “الخريف هذه السنة قليل”، “رطب من العجايب”، “والشارة على الرأس”، “والأسعار شاحية قليل”، “والزرايع موافقة”.

وعلى الرغم من أن الحبيب علي بن محمد الحبشي كان يسعى إلى الارتقاء بلغته إلى مستوى كامل الفصاحة، فقد تسربت في رسائله بعض الانزياحات العامية، في المستويين الشكلي (أو الصوتي) والمعنوي، لكثير من الكلمات العربية الفصحى.  فهو استخدم الفعل (زحف) بمعنى (تَعِب، أو أُنْهِك)، وكلمة (المثار) بمعنى النهوض او الاستيقاظ، وكلمة (السترة) التي استخدمت معنى الجدار، وكلمة (عارضته) بمعنى قابلته، وكلمة (عبرت) بمعنى مضت أو مرت، و(الخلاء) بمعنى المكان الواسع الخالي من العمران.

وكذلك الحال بالنسبة للحبيب حسن بن صالح البحر؛ فمن الوضح أنه كان يتوق إلى استخدام لغةٍ عربية فصحى وجميلة ومرصعة بالسجع والمحسنات البديعية، في مختلف رسائله: تلك التي أرسلها إلى محبيه وأصدقائه، أو تلك التي أرسلها إلى الحكام والقادة والسلاطين. ومع ذلك لا يخلو كثير من رسائله من التراكيب والمفردات العامية الحضرمية. ففي الرسائل التي اقتبسناها في الجزء الثاني وردت، مثلا، كلمة (هسفة) العامية بمعنى خيبة، وكلمة (علقتكم) بمعنى تعلقكم، وكلمة (المسهون) بمعنى المنتظر، وكلمة (كحال) في مكان كحل، وكلمة (قراش) بمعنى متاع، وكلمة (تكثيف) بمعنى صداع. وكلمة (الطنبشية) بمعنى العساكر المسلحين بالبنادق، وعبارة (الدرس إلى زيادة) بمعنى يكثر عدد الحاضرين في حلقة الدرس بالمسجد.