دراسات
صالح مبارك عصبان
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 103
رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا
تعرضت حضرموت خلال قرون لغزوات وحروب وهجرات وهجرات عكسية، وتكونت دول وكيانات وتجمعات خضعت لسنة التغيير والتداول والانحسار، وظهرت تحالفات وعلاقات ترسخت فيها أعراف وقوانين وعادات تنظم حياة المجتمع في المدن والأرياف والبادية، وبسيادة النظام الطبقي تكوَّن الهرم المجتمعي وفقًا والأنساب والقوة (ويتغلغل هذا التقسيم في كل مظاهر الحياة الاجتماعية)[1]، وفي ظل غياب سلطة مركزية استدعت الحاجة الى الاحتكام إلى تلك الأعراف وتوافق الناس على الاحتكام إليها، وتعددت وتنوعت، وأصبحت (سلطة الأمر الواقع).
وفي الشريعة الإسلامية تفصيل لحقوق كل مسلم وواجباته، كما أن الدولة ومؤسساتها وتشريعاتها الضامن لكل الناس؛ إذ تصان الحقوق وتحقق العدالة، ويلجأ المتخاصمون لأجهزتها القضائية والأمنية، وفي حال عدم وجودها أو ضعف مؤسساتها تكون الأعراف وأوعيتها ملاذًا للبحث عن سلطة للتحاكم إليها، وإيجاد نوع من التماسك الاجتماعي.
والحديث عن هذه الأوعية ينطلق من كونها وسائل أو أدوات تتناسب مع العصر الذي ظهرت فيه، وتحكمها ظروف ذلك الزمان، بما فيه من أوضاع سياسية واجتماعية، وجهل وتخلف، وقامت بدورها بناء على تلك الأوضاع.
في تحليلها لمفهوم (الهوية الحضرمية) قدمت د. ليندا بوكسبيرجر وصفًا للتفاعلات داخل الطبقة الواحدة وعلاقتها بالطبقات الأخرى، والأدوار التي تقوم بها كل طبقة في المجتمع، ويدل هذا التوصيف على أن نشوء المكونات الاجتماعية يرجع ضمن مؤثرات أخرى إلى توريث العمل فيها، كالحفاظ على الوجاهة الاجتماعية، والألقاب، والتصدر للوظائف، وحتى مع تغير المكان والعادات استمر هذه الطريقة تفعل فعلها مع تعديلات طفيفة في الطرق والوسائل[2].
وهذه محاولة للتعرف على نوع من أنواع المكونات الاجتماعية في حضرموت ألا وهي (المجالس القروية)، وتختلف عن غيرها من التكوينات الأخرى في أنها جاءت متأخرة، وذلك في أوائل خمسينيات القرن العشرين الميلادي، أي في بدايات تشكل الدولة المعاصرة في حضرموت.
المكونات الاجتماعية التي سبقت المجالس القروية:
تمر المجتمعات بمراحل تاريخية في مسارها السياسي والاجتماعي، وتنتابها عوامل الضعف والقوة، ويحتاج الناس إلى سلطة تنظم شؤون حياتهم وتدير أمورهم، وبظهور ملامح الدولة تتضاءل مظاهر الاعتماد في الشؤون العامة على الدوائر الضيقة المنحصرة في الأسرة أو القبيلة أو الجغرافيا، وتتوسع المشاركة المجتمعية في بناء الوطن وفقًا وهوية واحدة تجمعها، وتتحرر الشخصية من الانغلاق والتقوقع، وقبل محاولات التحديث في حضرموت (عاشت عزلة ثقافية حجبتها عن الاتصال أو التأثر بالحركات الإصلاحية والثقافية التي كانت مع الجهالة المتفشية، وكانت تتحكم فيها الأفكار القديمة والتقاليد البالية، الأمر الذي أشاع فيها روح اليأس والخنوع والاستسلام لمعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان)[3].
وتظهر تدخلات مكونات المجتمع في سياق تاريخي يرتبط بما قبل ظهور سلطة مركزية قوية، وحتى بعد تمدد السلطنتين القعيطية والكثيرية، وإجراءات البسط على الأراضي بالشراء أو المعاهدات، وحضور أدواتها الجديدة في الحكم، حافظت تلك المكونات الاجتماعية على وضعها، ودخلت بشكل أو بآخر في تحدٍّ مع السلطات الوافدة على محيطها الجغرافي والاجتماعي، ويمكن الاستئناس في هذا الأمر بحركات التمرد وإقلاق الأمن ومقاومة التطوير، كبناء المدارس، وفتح الطرق، غير أنها حاولت في وقت لاحق – كما سيأتي- التعاطي مع تطورات العصر؛ لتكون في قيادة الأوعية المدنية الجديدة، التي قلصت وظيفة القوى التقليدية، المتكئة على ما يسمى (بالشعور الجماعي) حسب نظرية ابن خلدون (العصبية)، فالفئة التي تقوى فيها (العصبية) تفرض نفوذها على الآخرين[4].
ظهرت (المنصبة) في القرن العاشر الهجري، ((والمناصب جمع منصب وهو المرجع في الأمور الهامة والمشاكل الاجتماعية كما يطلق في اللغة العربية على هذا، وعلى المقام وعلى الوجاهة والشرف والحسب))[5]، وتمثل المنصبة أداة روحية سياسية، تمارس وظائف الفصل بين المتنازعين ومعاقبة المخطئين، واستقبال الضيوف، والإشراف والتصرف في أراضي الأوقاف، وتعد رمزًا للمنطقة عبر (دار المقام)، التي تقام أمامها احتفالات المواطنين في الأعياد، وألعابهم الشعبية، وتنطلق منه (الطيالة) للمنصب في الأعياد والمناسبات، مع (أخدام السقاف) والرايات، وللمنصبة دور في الإصلاح بين القبائل المتناحرة، وإغاثة الملهوفين والتوفيق بين الحكام، كما حصل من قبل منصب آل الشيخ أبي بكر بن سالم في الصلح بين السلطانين عيسى بن بدر وعمر بن جعفر الكثيريين وغيرهما، ومن صور العقاب التي تفرضها المنصبة: الحبس والضرب والتهجير والتحريج، ولتأكيد حضور المنصبة روحيًّا يتم الحلف أمام أماكن رمزية، كالأضرحة والقباب، وعبر الأستاذ محمد بن هاشم عن هذا الدور بقوله: (عينات ملجأ السلاطين) في كتابه (تاريخ الدولة الكثيرية)، مما يدل على نفوذهم وقوتهم، ويتوارث الأبناء والأحفاد (المنصبة)، ويحصل أن يتولاها من لا دراية له ولا خبرة ولا علم، ووجَّه الفقيه عبدالله بن علوي الحداد نقدًا لهؤلاء بقوله: ((إنهم اتكلوا على وجاهة آبائهم بدون أن يتزوَّدوا من العلم والاستقامة كما تزود آباؤهم))[6].
وبالرغم من الهالة التي تحيط بالمناصب فإنها لم تسلم من المصادمات مع ذوي القوة والنفوذ؛ ففي القرن الثالث عشر الهجري حصلت مناوشات بين منصب آل الشيخ أبي بكر بعينات والسلطان جعفر بن عمر الكثيري، وأخرى بين المنصب ذاته والمقدم عبدالله بن أحمد بن يماني، وحين تأسست جمعية الحق بتريم وقف منصب آل العيدروس موقفًا عدائيا منها، وكان هذا الموقف أحد أسباب الحرب التي دارت بين المنصب وسلطان تريم عام 1345هـ.
ويرتبط بالمناصب ما يسمى (بالحوط) ، (جمع حوطة، وهي الموضع الذي يختطه المنصب أو أحد المعتقدين، ويحوطه ويعلن بأنه أصبح حرمًا آمنًا على الدوام، لا يمكن فيه قتل ولا قتال، ولا نهب ولا ظلم)[7]، ويمارس المنصب تصرفاته التي سبقت الإشارة إليها في حوطته، ويصبح المواطنون رعاياه، تسري عليهم سطوته وأحكامه، وربما بالغ في منع أشياء عنهم؛ حفاظًا – بزعمه – على قدسية حوطته، وعدم مسِّها بما يدنس مكانتها، ومن ذلك منع أنواع من الألعاب الشعبية، أو استحداث عادات في معيشتهم وحياتهم وأفراحهم. وانتشرت في القرون الماضية في حضرموت (الحوط)، وتختلف أهميتها ومكانتها و( قدسيتها) وسطوة مناصبها حسب النسب والقوَّة، وما يتمتعون به من صفات في التعامل مع الأحداث بمهادنة المعارضين والرفق بالرعايا.
والحوطة وحدة إدارية سياسية في مجتمع مغلق، ورمز روحي، والجمع بين هذين الأمرين جعلها تتحكم في حياة من يسكنها أو يعيش في ضواحيها، يقول المؤرخ محمد بن هاشم عن حوطة عينات: ((وعينات حوطة الشيخ أبي بكر بن سالم العلوي أصبحت كعبة مقصودة للمفاوضات السياسية… فكثر الواردون والصادرون إلى عينات من جميع الطبقات إما للاستشارة أو الاستغاثة))[8].
وللدكتور عبدالعزيز بن عقيل بحث بعنوان (حوطة في طور التأسيس)، وهو عبارة عن قراءة تحليلية لمخطوطة (المقصد في زبارة المشهد)، وللتعرف على نشأة الحوط ودلالاتها، يقول: ((إن هناك خيطًا عامًا، يلملم جميع الفكرة المتناثرة في المخطوطة لخدمة غرض وظيفي، فلقد وظفت جميع الرؤى والأحلام والمشاهدات، والكرامات والأشعار، وحكايات النهب والسلب، التي كانت تمارسها بعض المجموعات قبل وبعد إنشاء الحوطة، وخصائص المكان وسبب اختيار المنشآت التي بنيت في المشهد والعادية القديمة (ريبون)، ووصفها ووصف أول زيارة أقيمت، أقول، جميع هذه وظفت لإعطاء المشهد مكانته القدسية للقيام بدور الحرم التجاري الديني الآمن في المنطقة التي تشكل مخارج وادي دوعن والعين وعمد والكسر أي حضرموت الغربية))[9]. ومع هذا لم تمنع هذه المنزلة حالات الحروب والسلب والنهب.
ووجدت (القعيدة) أو (شرع القبولة) حسب تعبير الأستاذ محمد بن أحمد الشاطري، الذي حدد فيه الدور القبلي بحضرموت بين الأعوام (1130 – 1270هـ)، وجاءت عبر قرون من الكر والفر بين القوى المتطاحنة، التي تكبر وتصغر حسب مصادر القوة والتحالفات والأثر الخارجي، ((ولم تستطع أية قوة من تلكم القوى المتطاحنة أن تتغلب على نظيرتها في ذلك الجيل العصيب، ومن أجل هذا التكافؤ الرائع ظلت البلاد وأهلها عرضة للسلب والنهب والقتل والخوف والفقر والجوع وغير ذلك من الويلات التي تتولد عادة من الفتن والحروب))[10] والنفوذ والبقاء إيجاد نوع من استمرارية التعايش ومعاقبة الخارجين عن الأعراف، وضعت أسس يتم الاحتكام إليها واستندت إلى (أحكام ملفقة) وعادات سارية، وعهود قديمة، وظهرت منها إصطلاحات، مثل (الطارف غريم)، و(الشايم)، و(الدماء المهدورة)، و(البشعة)، و(اللوم والشوم)، و(المبدأ بالوجه)، و(البادي والتعاشير)، و(العربون)، و(الوثور)، ((والكلام يطول حول هذه التقاليد والتشريعات التي يرجع الكثير منها إلى القرون السالفة، ومنها ما هو من رواسب العصر الجاهلي ومعظمها مسجل في مضامين وفي تآليف بلغني بالتواتر عن ثقات شيوخ القبائل))[11]. ويوجد على رأس تلك المكونات من امتلك خبرة وتجربة وحكمة ويستعين في بعض القضايا بأهل العلم الذين يسعون للتخويف بالله وعدم الجور، وتحظى أحكام (المقادمة)، و(الحكمان) بالقبول غالبًا.
ووجدت في المناطق الحضرية ما يسمَّى (بالحويف)، ((ففي الوادي تجمعات سلالية، وعلى أساس طبقي، وفي الوادي تجمعات على أساس خدماتي (حويف)، فنظام الحويف في حضرموت قديم ومن قبل القرن السابع الهجري))[12]، وتعمل وفق ضوابط ونظم في تعيين المقدم ومستشاريه، ويلتزم رجال الحافة بأداء خدمات للطبقات الأخرى في أفراحها وأحزانها، ويقدِّمون خدمات لمحيطه الجغرافي، كإطفاء الحرائق، وإنقاذ الغرقى، وتجهيز الجنائز، وخدمات الأعراس والمناسبات الدينية بتقديم الأكل والقهوة والبخور وغسل الأيدي، بالإضافة إلى الألعاب الشعبية، كالرزيح، والخابة، والشبواني، التي لا يشاركهم فيها رجال حافة أخرى؛ إذ توضع حدود فاصلة بين الحويف؛ لمنع التعدي، وتجاوز المهام وتداخلها. والحويف كغيرها تتأثر بما يحيط بالمجتمع من عادات وتقاليد[13].
وتقوم بين الحويف عداءات تقليدية، كالتنافس على الزعامة، وأداء الخدمات، والألعاب الشعبية، وتتطور إلى عراك بالأيدي والعصي والسكاكين، وتبرز المنازعات على الجنائز، وتخطي الحدود، وفي ذروة الصراع يمنع تخطيها إلا في أوقات معينة، كحضور صلاة الجمعة، أو زيارة الأقارب[14].
وتعرضت (الحويف) في وقت لاحق لانتقادات من قبل طلائع المثقفين، الذين تأثروا بالحركات الإصلاحية والوطنية، وسمعوا أو قرأوا عن التغييرات في الوطن العربي، وتولت الصحافة الحضرمية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين الميلادي زمام هذه الرؤية، مبيِّنة المهازل التي تحصل، ومستوى التفكير، الذي لا يواكب تطورات العصر بالاحتكام، والتمسك بعادات بالية، معيقة للنمو والتحديث، ومسببة للانقسام بين أبناء القرية أو المدينة الواحدة، ومورثة للمشاحنات والأحقاد، ومقيدة لانطلاق الشباب نحو مجتمع حر، تسود فيه العدالة والمساواة، وينتشر فيه العلم والبناء، ففي العدد (400) من صحيفة الطليعة نشرت مقالًا بعنوان الحويف أو مملكة الشيطان)، ومما جاء فيه: (من الواقع الذي يشبه أسطورة خرافية في مجتمعنا، (الحويف)، ففي مدن حضرموت بدون استثناء عدة حويف، كل حافة لها حدودها العرفية داخل المدينة وتقاليدها (الحويفية ) الخاصة، وقانونها الذي هو أغرب الأساطير). ومن العناوين الأخرى (لصالح من هذه الإنشاءات وبماذا تعود على أصحابها؟)، و( العامل بكير يتعرض للإهانة والسجن من قبل شرطة تريم)، وفيه خبر عن سجن الشيخ سالم بن سعيد بكير باغيثان، رئيس مجلس الإفتاء بتريم في زمانه، وذلك بسبب نزاع بين الحويف إثر مخالفة الشيخ سالم لبعض عوائد الجنائز، والجدير ذكره أنه صدر في عام 1945م إعلان سلطاني بإلغاء نظام الحويف وحدودها، وعلل قرار الإلغاء بأن هذا النظام جر على الأهالي ويلات التفرق والشقاق، وهدد بعقوبات صارمة على أية تصرفات للإبقاء على هذا النظام، وحث الإعلان الشعب على المحبة والإخاء، وبث روح الوطنية والتكاتف لإصلاح بلادهم، وقال هادي أحمد السقاف في كلمة أمام السلطان الكثيري في احتفالات عيد الجلوس، مبينًا بعض صور التنازع: ((إن التفكك والحزازات والعنصريات والتشبث بها وعدم التضامن لأكبر دليل على تأخر الشعوب، وفي وحدة صفوفها وجمع كلمتها أعظم برهان على نجاحها وتقدمها))[15].
وعمومًا فالتشكيلات التي سبقت المجالس القروية يلاحظ عليها:
– أنها قائمة على أساس طبقي.
– اعتمادها على ممارسة الضغوط في أحكامها ويفرض القوي نفوذه على الآخر.
– بروز نظام (التبعية) في تشكلها الرأسي.
– توارث القيادة والزعامة.
– عدم وجود نظام مكتوب في أغلبها يحدد عملها.
– مثلت وسائل مناسبة في عصرها وفقا وظروف الحياة عامة.
وعندما بدأت ملامح الدولة والتحديث بدأ العد التنازلي لها، فظهرت تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية لا تتناسب مع تلك التكتلات، وحاول البعض الدخول في منافسة مع الوضع الجديد.
الحراك الوطني لتحديث المجتمع :
ونقصد به الجهود التي بذلت من قبل الأفراد والمؤسسات الناشئة لنقل حضرموت من عصور الجهل والتخلف إلى عصر جديد يكون للعلم فيه شأن، وللعمل الجماعي والتعاوني مشاركة، ولن يتم ذلك إلا بتطوير التعليم، وبث الوعي الوطني في المجتمع؛ لنبذ عوامل التقسيم والتمايز، والاتجاه صوب البناء، ومن الوسائل التي تبنت هذا العمل تشكيل الجمعيات الأهلية التي قامت على أسس تضامنية، هدفها تحسين أوضاع المجتمع، وشملت حواضر حضرموت، ومنها جمعية الحق بسيئون، التي أسسها المؤرخ والأديب عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف عام 1913م، وجمعية الحق بتريم 1915م، وجمعية الأخوة بتريم 1929م، وغيرها من الجمعيات التي هدفت إلى إصلاح الأوضاع، ((وبالنسبة لحضرموت كانت الحقبة من الزمن (عشرينيات القرن العشرين) فترة الإصلاح الاجتماعي، حاولت الجمعيات في حضرموت وخارجها (المهجر) الدفع بالتربية والتعليم إلى الأمام ومعالجة المشاكل الاقتصادية وكذلك إصلاح النظام السياسي… ولكن المصلحين واجهوا معارضة من العلماء المحافظين ورجال القبائل وكذلك الخصوم السياسيين))[16]، ولكنها مضت في طريقها تفتح المدارس والأندية الأدبية، بل وتبنى بعضها إدارة الشؤون المحلية بالمدن، وتنظيم حركة المجتمع، ووضع لوائح لعادات الزواج، وحصر المواليد والشؤون البلدية .
ومن عوائق التحديث المأمول اهتزاز حالة الأمن، ووضعت هدنة إنجرامز عام 1937م حدًا لهذا الانفلات، أو كما أسماه الدكتور صالح بن أبي بكر بن الشيخ أبي بكر أنه إحدى أدوات (كسر العظم) للرضوخ لسلطة الدولة، ووضع السلاح، والنزوع إلى الحالة المدنية، مع عدم الانتقاص من دور أهل الصلاح والحل والعقد[17]. وجاء تشكيل جيش البادية ليعزز هذا الأمر، ووضعت في القرى والمدن نقاط أمنية ترمز لحضور الدولة.
وأسهمت الأربطة العلمية والمعاهد في تخريج الفقهاء؛ لرفد المحاكم بالقضاة، وتناقص تدريجيا دور المحاكم العرفية والعادات، وطالبت مؤتمرات الاصلاح الحضرمية بإصلاح القضاء واستقلاله ليؤدي دوره في حل النزاعات، وصدر قانون إنشاء المحاكم في السلطنة القعيطية عام 1952م، وفي عهد الشيخ عبدالله عوض بكير (ت 1399هـ) تم تنفيذ إصلاحات عامة، أدت إلى إلغاء أحكام العادات والتقاليد البالية، ونشر المحاكم الشرعية في المقاطعات والألوية ومحكمة الاستئناف، وبتنظيم القضاء اتجه الناس إلى درجاته المختلفة[18].
ثالثًا: المجالس القروية ودورها الاجتماعي :
آلت الأوضاع بعد الصراع على الحكم إلى وجود السلطنتين القعيطية والكثيرية، وجاء المستعمر البريطاني عبر معاهداته وتدخلاته، وأنتجت هذه المعاهدات – حسب السياسة الاستعمارية وتطورات العصر – مؤسسات الحكم اللازمة؛ لإظهار هيبة السلطنتين، وخدمة المشروع الاستعماري، ووجه المستشارون البريطانيون السلاطين للبدء في ذلك في الجانبين العسكري والمدني، وساعد الحراك الوطني عبر الهيئات السياسية الناشئة، وما تموج به البلدان العربية من ثورات وتغييرات، على ظهور الهيئات المدنية من اتحادات ونقابات، (( وكانت الخطوة التي اتجهت إليها الحكومة بعد استتاب الأمن وتأمين المواصلات هي تحسين الإدارة ))[19]، وتم تقسيم السلطنات إلى ألوية ومقاطعات، ويترأس السلطان مجلس الدولة مع استحداث منصب الوزير والإدارات المتخصصة في الأوقاف والمالية والتعليم والصحة وغيرها، وأصبح الأمر ضروريًا لوجود شكل من أشكال الدولة في المدن والقرى فصدر قانون إنشاء المجالس المحلية عام 1950م، وقانون المجالس البلدية والقروية عام 1952م في السلطنة القعيطية، فتم ((إدخال نظام عمل المجالس المحلية نتيجة للتطور الحكومي القائم على أساس توزيع السلطات ومعه لوائح تنظيم المجالس سواء كانت المجالس القروية أم البلدية التي أسست في المدن والقرى))[20]، وفي السلطنة الكثيرية صدر قانون المجالس المحلية المنتخبة في نوفمبر عام 1965م، وقاومت المكونات التقليدية التوجهات الجديدة، واعتبرتها منافسًا أو بديلًا عنها، وسحبًا للبساط من تحت أرجلها، وتدخلًا في مواضع وأماكن تدَّعي الوصاية عليها، وجادلت عن أحقيتها في إدارة شؤونها، ولكنها اتجهت فيما بعد إلى المهادنة، والبحث عن موطئ قدم في المجالس البلدية والقروية، ويناقش الدكتور عبدالله بجرة في كتابه (سياسة النظام الطبقي في حضرموت) هذه الإشكالية من خلال تأكيده على أن رموز المنظومات التقليدية شعرت بتقلص دورها، فبحثت لها عن دور جديد ونافست (القوى المثقفة الناشئة)، واستطاع المناصب وغيرهم من ذوي النفوذ الحصول على أدوار قوية في المجالس، فتمكنوا من التأثير على قراراتها، وأصبح الولاء للسلطان، وإقامة علاقات مع ممثليه كالوزير والنائب والقائم، جسرًا للوصول إلى الإدارات الجديدة[21].
وهذه التجربة خطوة جريئة للمشاركة الشعبية المحدودة قياسًا على تعقيدات المجتمع الذي لم يتعاف بعد من ندوب قرون من الصراعات والانقسامات، كما أنها أحدثت وعيًا في الانتماء الوطني ومعنى الدولة.
تفاعلت الصحافة المحلية مع هذه المؤسسات، وعدَّتها صحيفة الطليعة عملًا نبيلًا وخدمة إنسانية، وأنها ((قامت من أجل الجميع ولصالح الجميع، ولترسل بأنوارها الهادية لكل بلد؛ لتبدد الظلمات وتنير لأهله الطرقات، قامت لتنادي بالإخاء بين الجميع ونبذ التفرقة والتمييز، قامت لتنظيم العدالة والإنصاف وتدفن الظلم والإجحاف))[22]. وأشارت صحيفة الرائد إلى أن الغرض من إنشائها التخفيف على المحاكم بحل المشاكل الخفيفة، والقيام بإصلاح ومشاريع تحتاجها القرى، وأوردت المادة الثالثة من قانون المجالس التي تنص على حقوق المواطنين بتقديم النقد والمقترحات والتوجيه الهادف للمصلحة العامة، وألزمت المجالس بأن تعير تلك المقترحات اهتمامًا كافيًا لتطبيقها[23]، ويمكن إيراد بعض مهام وأهداف تلك المجالس، في الآتي:
– تمثيل السلطات العليا في القرى.
– فرض وجود الدولة.
– إيجاد شعور وطني لدى السكان.
– جباية الضرائب.
– حل النزاعات.
– تطوير المناطق عبر مشاريع أهلية في الجوانب الخدمية، كالمياه والصحة والتعليم.
وتقوم لجان مركزية بالإشراف الدوري والرقابة على أعمال المجالس وأرشيفها وميزانياتها، ورصدت (جريدة الأخبار الحكومية) الصادرة عن السلطنة القعيطية في عامي ١٩٥٣م / ١٩٥٤م أنشطة المجالس.
ولم تسلم المجالس من الانتقادات في محاولة لإصلاح مسارها بعد أن ظهرت على السطح بعض الشوائب ، ولعل المحافظة على جزء من الأدوات القديمة وحداثة التجربة في مجتمع لازال يعيش رواسب الماضي، أسهم في ظهور الشوائب ((ففي الحالات التي تستبدل فيها حكومات استعمارية – أو حتى وطنية – نظامًا سياسيًا تقليديًا مستغلًا في المناطق الريفية فإن الحكومة الجديدة عادة ما تميل نحو الجماعة التقليدية الحاكمة وتستخدمها من أجل أن تساعدها في تسيير دفة الحكم الجديد في المنطقة))[24] .
ومن صور الانتقادات الموجهة إليها داء الأنانية لدى بعض الأعضاء، تقول صحيفة الطليعة مخاطبة أعضاء المجلس: ((إن واجبكم نحو مجتمعكم ووطنكم يناديكم، بل ويناشدكم أن تتحرروا من حب الذات وسيل المجاملات والميول الشخصية، كونوا مخلصين))[25]، وكذلك مطالبتها بعدم الاقتصار على جمع الضرائب، والتخلص من الإفراط في التحكم والسيطرة، والصراع بين الأعضاء؛ إذ ((تحولت هذه المجالس إلى هيئات ذات نفوذ وأمر ونهي، فتعدت صلاحيتها، وتناست واجبها الحقيقي الذي أنشئت من أجله))[26]، ومن النقد أيضًا أنها كانت قائمة على التعيين والتدخل في شؤونها من قبل السلطات العليا.
لقد أتت المجالس القروية في ظروف سياسية وأمنية مستقرة، بل ووجود سلطة، لكنها غير مكتملة البنيان، وضعيفة في نواح عدَّة، مع معارضة لتلك المجالس من قبل ممن يرون فيها تضررًا لمصالحهم، كما أنها تختلف عن المكنونات التقليدية الأخرى من حيث أسسها القانونية؛ إذْ صدرت قوانين تنظم عملها محددة الحقوق والواجبات والأهداف، وتعد ثمرة من ثمار نضال الوطنيين في حضرموت منذ بدايات القرن العشرين في مجال المطالبة بحق الشعب في المشاركة الشعبية في إدارة السلطة، والتي أخذت مسارات عدة في تكوين النقابات والجمعيات، وتعيين موظفين من أبناء البلد، وتكوين المجالس المحلية ومجلس الشورى، وهي جزء من النضال الحقوقي في فترة الخمسينيات والستينيات برموزه الفردية والمؤسساتية، والمكتسبات التي تحققت في تلك الفترة، وحريٌّ بنا اليوم تجذير الوعي الشعبي بأهمية الدولة ومؤسساتها في كل عصر، والمحافظة عليها من الانهيار باعتبارها الضامن الحقيقي لحقوق المواطنين وواجباته في ظل عدالة ومساواة منشودة، والتحذير من كل دعاوى العودة ومحاولاتها إلى عهود ما قبل الدولة، ووسائلها غير المناسبة للعصر وحركة الزمن .
وعلى كل حال فإن التجربة لم تنل حقها من البحث؛ وذلك لفقدان غالب (أرشيف) تلك المجالس بفعل التغيرات والإجراءات التي حدثت بعد يونيو1969م، وظهرت بديلًا عنها، أولًا اللجان الشعبية، ثم لجان الدفاع الشعبي، واستولت على ملفاتها، ووضعت في أماكن غير صالحة للحفظ، فتعرضت للعبث، وعوامل طبيعية أخرى، كالأتربة والأرضة، وخسر التاريخ الحضرمي تراثًا يمكن الغوص فيه واستخراج الكثير من العبر والدروس.
الهوامش:
[1] – د. عبد الله بجرة ، سياسة النظام الطبقي في حضرموت /8
[2] – ينظر، د. ليندا بوكسبيرجر ، على حافة امبراطورية /24
[3] – أحمد عوض با وزير ، حضرموت ،الواقع السياسي السياسي والاجتماعي والاقنصادي والثقافي مابين الحربين العالميتين ، أوراق الندوة العلمية كلية التربية المكلا /
[4] – ينظر: بحث السيد فريد العطاس ، حضرموت والشتات الحضرمي في كتاب الشتات الحضرمي /46
[5] – محمد أحمد الشاطري ، أدوار التاريخ الحضرمي2/ 265
[6] – كرامه مبارك با مؤمن ، الفكر والمجتمع في حضرموت /265
[7] – الشاطري ، مصدر سابق 2/ 291
[8] – محمد بن هاشم ، تاريخ الدولة الكثيرية ، /125
[9] – د. عبد العزيز بن عقيل ، حوطة في طور النأسيس، مجلة آفاق العدد10، مارس 1987م
[10] – ابن هاشم ، مصدر سابق /27
[11] – للمزيد انظر الشاطري ، مصدر سابق ، 2/ 232- 213
[12] – عبد القادر الصبان، نشؤ الحركة العمالية وتطورها ، مجلة الحكمة ،العدد 102 نوفمبر 1982م ،عدن
[13] – صحيفة الطليعة ،العدد151 مايو 1962م المكلا
[14] – ينظر الشتات الحضرمي لمجموعة باحثين ، وعلى حافة امبراطورية ، مصدر سابق
[15] الطليعة ، مصدر سابق ، الأعداد 400 ، 240 ، 182، 106
[16] – الشتات الحضرمي ، مصدر سابق 161
[17] – صالح أبوبكر بن الشيخ أبوبكر ،تريم بوابة الفكر القومي العربي إلى اليمن ، 223
[18] – للمزيد من المعلومات عن تطور القضاء في حضرموت انظر بامؤمن ، مصدر سابق ، ، عهد السلطان صالح بن غالب القعيطي ، محمد عبد القادر بامطرف ، حسين بن علي باسمير، السلطنة القعيطية في حضرموت، محمد سعيد عبد الله بن علي الحاج ، عمر بن عوض القعيطي حياته وعهده،
[19] – سعيد عوض باوزير ، صفحات من التارخ الحضرمي ، 326
[20] – باحمدان ، مصدر سابق ،92
[21] – د. عبد الله بجرة ، مصدر سابق 29- 31
[22] – الطليعة ،مصدر سابق العدد60 أغسطس 1960م
[23] – صحيفة الرائد ، المكلا ، العدد 76أبريل 1962م
[24] – د . بجرة ، مصدر سابق 50
[25] – الطليعة ، مصدر سابق العدد 60 أغسطس 1960م
[26] – الطليعة ، مصدر سابق