عمر عبدالله بامطرف
[تحل علينا الذكرى الثانية لوفاة فقيدنا المغفور له بإذن الله تعالى سالم بامؤمن في السابع عشر من شوال سنة 1441هـ، سالم الذي كان ملء أفئدة طلابه ومحبيه وصدورهم، ومصدر هنيء، ومنبع مريء لدارس ومستفهم، صديق صدوق مع الصاحب والقريب، إن افتقدنا جسمه فروحه خفاقة ترفرف في سماء معارفنا كطلبة ومريدين، لن ننساه وابتسامته تشع من عالم الملكوت، لتجلو الذهن من آفات الزمن ومنغصاته.
في الذكرى الثانية لوفاته، كهامة مجتمعية وتربوية … افتقدناه في ذروة العطاء بعزيمة وحيوية الصادق المخلص لمجتمعه وتلاميذه .. أسطر سيرته كما عرفته].
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 129
رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا
التبس علي الأمر وحرت وأنا أحمل قلمي لأسطر سيرة شخص عزيز علي، قريب من جوانحي، أصيل في تواصله، شهم في تواده! أأترجم سيرة شخصية لمحب وصديق، أم أترجم سيرة نابغة في مجتمعه؟! تريثت حتى أبدِّد الالتباس والحيرة، فمهما كانت الصداقة أو المحبة أو الصلات والروابط الخاصة مع الآخر، إذا لم يعضدها سبب وجيه قد لا تجد الحافز أو المسوّغ لتسويد صفحة من سيرته.
سيرة سالم – رحمه الله – كصديق ومحب، ونابغة في مجال تخصصه العلمي وأديب .. مهذب في سيرته الشخصية، إضافة إلى النبوغ مع حسن الخلق، إلى الصداقة والمحبة، كل ذلك دافع قوي وحافز متماسك وثيق للترجمة.
وكتابة السير أو التراجم ليست بالأمر السهل أو الهيّن، أيًّا كان القرب من صاحب السيرة، فإبراز الوقائع من حياة الشخص، أو الإحاطة بها كاملة، قد لا يفقهها أقرب الأقرباء المقربين لصاحب السيرة، لأكثر من سبب، وأهمها عندي هي تلك التي تظهر بمظهر السلوك الاعتيادي المألوف أو البديهي في حياة الشخص، بدون تكلف أو حذلقة، وهي في جوهرها وخلاصة موقفها الأصالة والشهامة والتفرد فيما لازم سيرته الروحية والنفسية، التي يستمد منها مفاهيمه الفكرية والعملية، ورؤيته للواقع والوقائع دون ادعاء وتبجح.
قد لا ندرك ما وراء بعض العلاقات أو التعاملات في ظاهرها غير المألوف أو البديهي الذي يربطنا بالآخر، وقد تتوارى وراء المألوف أو البديهي عبقرية مستكنَّة، تتجلى في المواقف الحرجة، التي تداهم الشخص من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، فإذا المألوف يفصح عن موقف غريب جديد في التعامل أو العلاقة، متمكن بحذق في مفاهيمه ورؤاه وسيرته، فلا تثنيه أو تحوله عن موقف من مواقفه الثابتة في سلوكه أو تصرفاته الخاصة أو العامة، مهما صعب واستعصى، أو استغلق وغمض؛ لأنه لم يسلك طرق المداهنة أو المخاتلة، التي تزين القبيح، و تستهجن الحسن.
صاحب السيرة، ينصت لمحدثه إنصات من يجهل ما خفي عليه، متعجِّبًا مندهشًا، لا يقطع حديثًا، ولا يمل منه، أو عنه، وهو أعرف بما حدثه به محدثه:
وتراه يصغي للحديث بقلبه ** ويسمعه ولعلــــــــــــــــــه أدرى به
صاحب السيرة، قد يكرر سؤالًا من التقى به أكثر من مرة، سواءً اقتنع بالرد أو لم يقتنع منذ البداية، فهو ممتحن أكثر مما هو متسائل، لكي يبني فهمه على يقين دون أن يعيب محدثه بتناقضه مع الوقائع، أو تناقضه مع رد أو ردود سابقة، أو يصدمه بفعل من أفعاله المشينة، وهذه من فضائل صاحب السيرة التي يجهلها الكثير مِمَّنْ عاشره.
ولا يعني ذلك تعارضًا أو تناقضًا في موقفه، إنما هو قبول خصوصية الآخر في فكره أو ولائه، سواء كان ذلك عن قناعة أو عن تقليد أو عن مكر وخداع.
لقد ابتلينا في مرحلة من مراحلنا المستجدة بتغيير النظم والأوضاع، بحيث نقلت الفرد نقلة كبيرة، فكان من نتائجها تباعد بين المستجد وما كان عليه من نظام ووضع، وتباعد بين الأفراد والأسر، وتباعد بين التكتلات والفرق، وذلك باستحداث أعراف ومفاهيم، أكانت حسنة أو غير حسنة، إنما هي أشبه بالإعارة لمجتمع تسيّره عوائده واعرافه ومفاهيمه، التي توارثها جيل من بعد أجيال، والتكيف مع المستجد إن قبِله من قبله، فإن المتروِّيَ في قبوله يتطلب الوقت الكافي لقبوله، من هنا تعددت الولاءات والانتماءات.. اختلاف في الفهم والقصد، اختلاف في الرؤى والرغبة، اختلاف في السيرة والسلوك، وهو مما لا يحجب – في الواقع – تذبذبًا محبطًا لبعض ذوي الولاءات أو الانتماءات المستجدة.
صاحب السيرة، بحسن خلقه، ورهافة حدسه، قد أعد نفسه وشكلها بفهمه وعلمه.. سار بخطى مرسومة لا يضار ولا يجابه غيره، ممن سار على نهج أو طريقة بدون ركيزة من علم أو معرفة، أو متخبط في متاهة دون هدف محدد، فمن الصعب، إقناعه أو تغيير مساره لوجهة غير ما ارتادها لنفسه، فليكن كما هو دون تدخل من أي نوع.
بهذه الموهبة حصل على ود الكثير إن لم أقل الكل، مع أن البعض يضيق بتلك الموهبة، التي لا تجامل ولا تداهن، بمعاني المجاملة والمداهنة المبتذلة المعروفة، بخاصية التملُّق والنفاق.
لأن صاحب السيرة عامَلَ الكُلَّ بنُبلِهِ، وحُسنِ خُلُقِه، وخدم الكل بمصداقية ونزاهة، لا برؤى الآخر وفهمه، فكان له الفضل الذي ساد في مفهوم أوساط مجتمعه بكل طبقاته ومشاربه.
وإذا كنا نستمد من سيرة الأفاضل العبرة والعظة في قول وفعل، فالترجمة لسيرة الفاضل اعتبار واعتراف بفضل أسداه لمجتمعه وذويه.
سطرت – مع اعترافي بقصر باعي- ما عن لي من سيرته، مع يقيني أن غيري أقدر مني على بسط الترجمة، وإظهار ما خفي من سيرته كنابغة في بيئته، و متميّز في تخصصه، سواء العلمي أو العملي. على أنني لم أسطر إلا الحقائق التي أعرفها عنه، ولم أبالغ في الوصف، أو اختلاق صفة لم تكن فيه، أو إخفاء خصلة عرفتها من خصاله الحميدة.
غير أنني – على وفق اجتهادي – لمعرفتي بصاحب السيرة، لست منزَّهًا من غفلة أو نسيان، مع يقيني أنني أجهل الكثير من خفايا صاحب السيرة، وإنما أنا أدون ما عرفت؛ لأنه في ظل كل مجتمع، رابطة تربط الفرد بآخر .. روابط متنوعة.. بخصائص اتفقت أو اختلفت، ومفاهيم ورؤى اتحدت أو تجزأت، إنما تظل الرابطة.. رابطة تحددها نوعية العلاقة مع الآخر، وتربطني بصاحب السيرة رابطة قوية من الود والإخاء، ومن الرضا والصفاء.. رابطة إن تراءت بالعلاقة الشخصية، فهي مرتبطة بالعلاقة العامة، ولعلي الحق بهذه الرابطة ما هو جدير بربطه، فقد كان أستاذًا لي بحكم تخصصه في تصحيح مفردات اللغة، وربما أرشدني إلى تناول موضوع لم أكن أفكِّر فيه، رغم اختلافنا في بعض منهجية المواضيع ومقاصدها، وهو اختلاف أوجبه فارق السن، وفارق المعرفة.
ومع أن لقاءاتنا في الفترة الأخيرة بعد أن تبوَّأ منصب نائب عميد كلية التربية للدراسات العليا والبحث العلمي (جامعة سيئون) تضاءلت واختصرت، ربما لاستحواذ المنصب على جل وقته، إضافة إلى طلبات العون والمساعدة من بعض الطلبة والطالبات في الجامعة، وقبوله بمهام أخرى ليست من مهامه الوظيفية، ومن طبعه وطبيعته لا يرفض مهمة موكولة له من زميل أو من مسؤول وهو قادر على أدائها، سواء كان في تخصصه أو من غير تخصصه، ثم علاقاته الاجتماعية المميزة مع غيره في فرح أو ترح، وأفراحنا وأتراحنا تأخذ الكثير من الوقت، لهذا تجده مشغولًا ومنشغلًا مع غيره بليل ونهار، سواء في وقت إجازة، أو وقت راحة، فإن تمت لقاءات معه فهي أقصر مما كانت عليه من طول وشمول.
*****
من أين أبدأ
لا أدري من أين أبدأ، وكيف أبدأ؛ فسيرة الشخص مرتبطة بالبيئة الاجتماعية، التي تؤثر في سلوك الفرد وطموحه وقيمه، والاختلاف في المجتمعات ناشئ عن أسس العوائد وعوائدها، التي تسيّر تلك المجتمعات، وفي مجتمعنا وجود الفوارق الطبقية بين شريحة وشريحة أخرى.. أي بين طبقة وطبقة على وفق التقسيم الطبقي الموجود، غير أنَّ الغالب على هذه الطبقات الوئام والتناسب، مع أنه لا يخلو من استعلاء، وما يرافق الاستعلاء من ظلم وبغي.
والمجتمع الذي عاش فيه الأب بالتقسيم الطبقي هو من أسفل السلم الاجتماعي من الطبقة الكادحة، التي تعمل بالأجر اليومي، وهو أدنى أجر إن وجد في تلك المرحلة، بحيث أن مرددوه لا يفي بمتطلبات الأسرة على تواضعها وتقشفها.
وفيظل هذا الوضع، هناك من فكّر ونزح إلى مواقع أخرى من الوطن، لعله يجد مالم يجده في موطنه، غير أن فكرة التحول من منطقة في نطاق البلد إلى أخرى محفوفة بالمخاطر، مخيبة للآمال، فمن نزح غيّب، ولا يعرف سبب تغييبه، ومن عاد عاد بائسًا قانطًا يجر قدميه الدامية، من طول تسكُّع في شوارع تلك المدن والقرى النائية، لهذا آثر الكثير من شباب الأسر الخنوع لواقع هو منه وفيه على علاته، ومنهم الأب.. أب سالم.
ووجود الصراع في تلك الفترة بين الشرائح الطبقية .. صراع تحتِّمه الظروف المعيشية في ظل هيمنة القوي، وصاحب المال، والضحايا هم مَنْ لا يملك قوة ولا مال، أو بمعنى أكثر وضوحًا من هم في آخر السلم الطبقي الاجتماعي بعوائده.
واقع هذه الطبقة، لا يمكنها من الانتساب حتى إلى “عُلْمَهْ” (كُتَّاب) من “العلم”، التي تدرِّس مبادئ القراءة وأركان الصلاة والصيام، وما تعلق أو انتسب لذلك من أمور الدين؛ لأن سد الرمق أهم من تلقِّي ما يمكن معرفته بالمتابعة والاقتداء بإمام المسجد، والإنصات إلى الموعظة، فكان الجهل المسيطر في ظل هيمنة، رسخَّتْها ظروف الواقع من فقر وظلم واستعلاء.
نشأ الأب في كنف هذا الواقع في عائلة من شرائح المجتمع الأكثر فقرًا ومعاناة في سبيل تحصيل لقمة عيش لا تكاد تسد الرمق.. تعسرت سبل المعيشة، وتفاقمت المصائب فيما حل في البلد، من فوضى عارمة بانعدام الأمن، وشبه مجاعة تطال تلك الشريحة في فترات معينة، وربما اجتاحت عامة المجتمع في وقت آخر، فلا يكاد الإخوة الأربعة بعملهم المتقطِّع يوفون بمتطلبات الأسرة على تواضع تلك المتطلبات في أدناها.. هاجر مع إخوة له هو أصغرهم، وهو في سن اليفاعة إلى شرق أفريقيا.. تقلَّبَ في الأعمال في “مغتربه”.. أعمال متنوعة بمردود محدود، ومع تنوع الأعمال لم يوفِّرْ شيئًا من المال يختصر به غربته التي دامت حوالي ثلاثة عقود، فعلى قول المثل العامي: (ما جابته بقرة دحباج كلته)؛ إذْ لم تكن شرق أفريقيا إلا موقعًا لسدِّ الرمق بأفضل مما يسد الرمق في بلده.
عاد بعد تلك العقود من مهجره.. لم يوفر من اغترابه شيئًا يذكر، إلا التحدث “بالرطنة” السواحلية، – كما أخبر كاتب السيرة بذلك -.. رجل بسماحته وصفاء طويَّته.. مرح بشوش قنوع، نقي السريرة، واضح العلانية، لا المال ولا الثروة همُّه، ولا همه رغد عيش، ولا رفاهية جانب.. يكفيه الكفاف وراحة البال.. تزوَّج بعد أن باشر مهنته العضلية مع العمال، وطلَّق، ثم تزوج واستقل بأسرته، في بيت الأسرة الكبير (أي: بيت أبيه).
ومع أن التقسيم الطبقي وعوائده ما زال بمفهومه، فإن حياة الناس تتغير وتتلون، وتتكيف مع ما استجد في المجتمعات من مفاهيم وأعراف وتقلبات مندرجة تحت آنية الظروف المعيشة، فقد استجد في المجتمع منحى آخر غير ما كان في مراحله السابقة.. ساد الأمن والأمان في ظل نظام مدنيٍّ، يحتكم لقانون السلطة التي ساوت كل الطبقات الاجتماعية في الاحتكام إليه.
انتظم الأب مع العمال بأجرة يومية، ومن بعد، التحق بإدارة الاشغال العامة بالأجر اليومي أيضًا، ومن ثم توظف براتب شهري.
كان زواجه الثاني من أم صاحب السيرة، وقد شارف على الخمسين من عمره.. بداية رحلة أو طور من حياة هي الأجمل، فالزوجة هبة ونعمة من المولى عز وجل.. زوجة من طبقته، ومن أسرة عريقة في الفضل والتقوى والكرم، على وفق الإمكانيات المتاحة، على شحتها في ذلك الوقت، فكانت له نعم المعين في تخطي الكثير من متاعب الحياة ومطالبها.. عملت في مزارع أسرتها لتشارك وتعاون الزوج أعباء نفقات البيت، وتوفر الكثير من متطلباته.. وفرت له الراحة والسكون، في جو من الألفة والحنان، لاتكدر رسوخه وحشة، ولا تقلق استقراره ضغينة، وذلك قوام الأسرة السعيدة.. عاش الأبوان في وئام تام، وتمم ذلك الوئام أنْ رزقهما الله ابنًا يحمل ملامح الأب وسمته.. أولياه كل عنايتهما ورعايتهما، خاصة أنهما لم يرزقا غيره.
هذا الولد هو الدكتور سالم..
هي البداية.. بداية مسيرة صاحب السيرة، والمسيرة مرتبطة بالكيفية التي اكتنفت الشخص وأحاطت به ووجهته الوجهة التي تريد لمستقبله .. ربما هو من التجاوز الذي لا يجد الكاتب ما يعينه على مفردات تفي بالغرض الذي يريد؛ لأن التخطيط للمستقبل أي مستقبل للطفل في واقعنا في تلك الفترة لا يوجد؛ لعدم وجود التأهيل للآباء لرسم الخطط المستقبلية، سواء لمسيرة الطفل، أو هيكلة الأسرة، لكن التوجيه يجيء عفويًا أو تلقائيًا من قاعدة “وينشأ ناشئ الفتيان مِنَّا ** على ما كان عوده أبوه”.. الأبوان غرسا في جوانح الطفل المحبة، والصدق والعفة، والأدب، والطاعة، والالتزام بالواجب، فكانا هما من أنار له الطريق لأن يسير بخطى حثيثة مطمئنة نحو ما يصبو إليه.
تولاه أبواه ..ولم يكونا ذا علم أو جاه من مال أو مركز يشار إليه، إنما هي القناعة والرضا، بما قسم الله وقدر.. عاشا في مجتمع، فلئن ساد فيه الجهل، فقد طما على الجهل في البيت مشاعر الحب والود، ودماثة الخلق، وحسن المعشر، ولين العريكة، ومن هنا استروح الابن السعادة والاطمئنان والاستقرار، أي الثقة بالنفس، وراحة البال.
فعامل الثقة بالنفس الذي أولته إيَّاه أسرته، لازمته طفلًا ويافعًا، ودفعته للنجاح المتواصل في كل مراحل حياته.
المراحل الدراسية:
– التحق بالتعليم الأساسي في مدرسة دمون من عام 72-1980م.
– حصل على دبلوم دار المعلمين والمعلمات عام 1984م.
– بكالوريوس آداب تخصص اللغة العربية في جامعة عدن عام 1993م.
– ماجستير في الأدب تخصص الأدب الأموي في جامعة حضرموت عام 2008م.
– الدكتوراه في الأدب والنقد تخصص الأدب الأموي في جامعة الملك سعود – الرياض عام 2016م.
عبقرية مبكرة:
في عام 1984م -1989م وهو في العقد الثاني من عمره، كانت له تجربة متميزة في السلك التدريسي، أعتقد أنه لم يسبقه غيره في مدارسنا الحديثة، ولم يخلفه أحد في تجربته، ونجح نجاحًا باهرًا في إبراز موهبته الفذة، وبرزت عبقريته وتميزه الذي رافق تلك التجربة، والتي هي أقرب للمستحيل فيإنجازها في تلك الفترة الزمنية، أي مما لا يمكن النجاح فيه.
أخذ على عاتقه فصلًا من فصول مدرسة الأُخُوَّة (بتريم) من السنة الأولى إلى السنة الرابعة بكل المناهج والحصص، كتجربة تعليمية لن يقوم بها إلا ذو كفاءة عالية من خلق ورحابة صدر وتفهم لنفسية الطالب ومشاعره.
حالة الطفل أو الطالب في فصل.. طلبة وطالبات، في فصل مختلفين اختلافًا كبيرًا في التنشئة.. اختلاف في نوعية التوجيه الأسري وانتمائه الطبقي.. مختلفين في الذكاء والفهم، مختلفين في المسار الاجتماعي باختلاف الموقع، بمعنى آخر كل طفل – طالب وطالبة – له شخصيته المستقلة الخاصة به، بحيث يجب أن يعامل كل طالب بما يوائم رغباته أو مفاهيمه، على وفق تنشئته الأسرية .
لنلقي نظرة إلى طلبة فصول المدارس.. كل المدارس، من الصعب أن تجد طلبة الفصل في مستوى واحد في التلقي والفهم، ولا في الخلُق والطوية،لاختلاف المشارب والتنشئة، ومن الصعب أيضًا أن يتفوَّق طلبة الفصل جميعًا تفوُّقًا لا رسوب فيه.. بمعنى لا تجد الراسب في درس من دروسه، من الصف الأول إلى الرابع.. طلبة جمعهم الفصل في المدرسة، وفرّقتهم التنشئة، سواءً المكتسبة من الأهل، أو من الفطرة، فأي قوة خارقة لمعلم يأخذ بمجاميع هؤلاء الطلبة في فصله إلى النجاح.
وإن استثنينا من طلبة وطالبات الفصل (46 طالبًا وطالبة)، ثلاث حالات رسوب لطالب واحد وطالبتين في فصل دراسي، فلا يؤثر على النتيجة العامة للتفوق الحاصل.
للأسف الكثير من المعلمين اعتبروا التعليم مهنة أو حرفة.. عليه أن يلقي دروسه مقابل المرتب، والجيّد في المعلمين من استطاع تلقين الطالب فكرته وأوصل المعلومة إلى عقله، سواءً كان الطالب ذكيًا أو متوسط الذكاء، غير أنه لا يجهد نفسه في إيصال المعلومة للامبالي أو متدني الذكاء في الفصل.. صاحب السيرة اعتبر التعليم رسالة.. رسالة انسانية بكل معاني الإنسانية وفحواها.. يجب أن تصل المعلومة لكل طالب من طلبته.. يجب أن يستوعبها الذكي والغبي؛ لأن للغباء أو اللامبالاة أسبابًاتتوارى وراء الدافع، فكان منه التحرِّي عن الأسباب لإيجاد الحلول بعد اكتشافها؛ لغرس بذرة المبالاة في الوجد، واقتلاع فهم مغلوط في نفسية الطالب، ليحل محله فهم آخر من الثقة، وليس ذاك بالأمر الهين، فلا يقدر عليه إلا ذو موهبة وطاقة كبيرة من جهد وعناء وصبر.
كان هذا المعلم، بشخصية مكتملة، وبكفاءته الخلقية والنفسية والعلمية، استطاع أن يسبر غور كل طالب في الصف، وفهم خصائصه ورغائبه ومشاكله.
لم تكن له دراية أو رؤية خاصة أو عامة مسبقة عن الطلبة والطالبات على وفق انتمائهم وتنشئتهم، إنما لديه قوة الإرادة والمثابرة المتأنيةليجعل منهم نموذجًا يحتذى به في المدارس رغم فروقات الانتماءات للطلبة وتباينها.
من أوليات مهامه مع طلبته، أنه لم يحسس أحدهم بما درج عليه بعض المعلمين إن لم أقل أكثرهم، بأن هذا الطالب غبي، وذاك أبله، وآخر ذكي، بما يستشعر البعض منهم الشعور بالنقص، أو الإحساس بالدونية.. أحسَّ الجميع.. جميع الطلبة أنهم توَّاقون للمعرفة، وأنهم متساوون في التلقي والفهم مساواتهم في الصف.. غرس الثقة في جوانح الطلبة.. كل طالب على حده بمتابعته وتنمية مداركه.. بذل محاولات مخلصة جمة، لا يكلُّ ولا يملُّ ولا يتضجر، سواء في قاعة الفصل أو في غير قاعة الفصل.. تحرَّى عن الطالب السرحان وقت الدرس.. عن رغباته.. عن مشاكله الأسرية.. اعتبره زميلًا أو صديقًا عزيزًا عليه.. تم تشويقه للمعرفة، ليفهم الدرس بعيدًا عن القسوة، أو السخرية، أو النقد الجارح، فضلًا عن الضرب.
توثقت العلاقة بين المعلم والطالب.. علاقة ثقة ورابطة من أوثق الروابط النفسية والروحية.. علاقة تتراوح بين مساعدة الطالب في الدرس، واعتماده على فهمه من ناحية، وعلاقة السلوك العام للمعلم ورؤاه في سلوك الطالب، الذي يهيئه للمحاكاة أو التقليد بل النهج العام للطالب.
هي العبقرية الفذة التي جانبت سلوك الكثير من المعلمين.. هي العبقرية التي أرست للتاريخ.. نعم أقول للتاريخ.. لتاريخ مدارسنا في تبني فصل من الفصول الدراسية أربع سنوات لأربع مراحل، رافق النجاح لكل الطلبة.
من أسباب فشل بعض الأسر في التربية، المفاضلة بين الأولاد.. التزكية والتمجيد لولد والذم والتحقير لآخر، وترديد صفات التفاضل لولد، وصفات الخسة والنقيصة للآخر، مما يسبب الإحباط للطفل، بتجسد حالة أو حالات من الهلع والخوف في مسيرته الدراسية، والخوف مصدر الكثير من العلل، والطفل في كل الأحوال بحاجة إلى العطف والمودة، والمدح والثناء من والديه وذويه والمقربين إليه، ولذلك فإن وراء الخلل في رؤى الابن ومسيرته، والموسوم بالنقيصة، تكرار ما يسمع بأنه سلبي فاشل، فيقنع نفسه بالفشل، ومن ثم لا يبالي نجح أو رسب في فصله، لاقتناعه بالوصف أو المفهوم الذي عرفه في موقع نشأته.
ألمَّ المعلم بحاجة الطالب لنوع من التكريم محاط بعاطفة صادقة، ومودَّة مخلصة؛ لتجلية ما علق بذهن الطالب وفؤاده من انكسار ونقيصة.. فانجلت الغمة، وشعر الطالب بذاته، فكان لمستواه التعليمي النجاح، بفضل معلم نذر نفسه لجلاء ما علق بذهنه.
صاحب السيرة، من الأقليات في الهيئات التعليمية؛ إذ اعتبر التعليم رسالة، في تلك المرحلة وفي غيرها من المراحل، فحالفه التوفيق.
هو التبرير المنطقي لنجاح صاحب السيرة في مسيرته مع الصف من أولى إلى رابعة.
بعد تخرج الصف الرابع.. الصف النموذجي الذي رعاه وهيأه للنجاح معلم واحد، اقترح هذا المعلم على مدير المدرسة.. مدرسة الأخوة (حينها كان الاستاذ القدير خميس عوض حمدون).. مقترحًا بفعاليات عيد الصف النموذجي بعد التخرج.. المقترح كان من 11 صفحة، وتجنبًا للإطالة اخترنا
نموذجًا لتلك المقترحات، تفي بالغرض؛ لنفهم حصافة المعلم ونظرته لأهمية المشاركة العملية للطالب؛ لتكون بمثابة شهادة نجاح لطلاب الصف فيما أُسند لكل طالب أو مجموعة من طلبة الصف عمليًا ونظريًا بكفاءة ونبوغ، يجسد للحاضرين جهد معلم واحد في كل حصص المنهج العلمي والعملي.
بعض المقترحات :
– إقامة معرض مدرسي في المواد والجوانب كافَّة، يحتوي على اللغة العربية – الرياضيات – التربية الطبيعية – التربية الدينية – الرسم..
– إعداد جلسة أدبية وإدارتها وتقديمها من قبل تلامذة الصف.
– إعداد مسابقة مدرسية في الدروس في نطاق مجموعات الصف.
– إصدار نشرة محررة من قبل تلامذة الصف.
– توثيق عيد الصف للذكرى والاستشهاد بذلك في نموذجيته.
– عرض نشاطات لا صفية للتلاميذ في التجليد – النجارة.
– كتابة أبيات شعرية – كتابة مقالات.
– كتابة بعض التعاريف والمصطلحات العلمية التي توصل إليها التلاميذ.
-عرض لجان الصف.. مجموعات الصف – هيئة رئاسة الصف – نشاطات الصف – كيفية سير العمل اليومي والأسبوعي والشهري في الصف.
– الحث والإشراف المباشر والمستمر من قبل إدارة المدرسة حتى يحس التلاميذ بأهمية الحدث؛ لرفع الجانب المعنوي للتلاميذ.
هذا جزء من مقترحات المعلم لمدير المدرسة، وبما تعنيه جميع المقترحات، التي لم نأتِ على أكثرها (11 صفحة من القطع الصغير)، إن نجاح الفصل النموذجي ليس تسويقًا أو ادِّعاءً، أو زعمًا.
قوبل الاقتراح بالقبول، وتم تنفيذه بكل فقراته تقريبًا.
هي مرحلة أبرزت عبقرية معلم، وريادته في تخصصه، ومع الارتياح الشديد من قبل الآباء، وكل من حضر حفل عيد الصف النموذجي بعد التخرج، أو سمع عنه، فكانت الإشادة والثناء من مدير عام إدارة التربية والتعليم بالمحافظة (الدكتور صالح عرم)، كما تمت الإشادة بنجاح التجربة من قبل وزير التربية والتعليم بالجمهورية (جمهورية اليمن الديمقراطية) برسالة خطية إلى صاحب السيرة، قلَّما يحصل عليها معلم في الفصول الأساسية.
كرَّمتْه الدولة في عدن بجائزة الدولة التقديرية للمعلم في عيد العلم، كرائد متفوق في تجربته النوعية، في قيادة الفصل النموذجي.
كان لنجاح الفصل النموذجي صدى في كل الأوساط التعليمية، مما سهل للمعلم صاحب التجربة النموذجية الالتحاق بجامعة عدن، وحصل على البكالوريوس آداب وتربية (تخصص اللغة العربية).
اكتساب خبرة ومعرفة:
كان لتحصيله العلمي، قد فتح آفاقًا جديدة، اكتسبها من خلال التعرف على الكثير من الزملاء، والمدرسين، بل والكثير من الأسر والشخصيات المثقفة ثقافة عالية، وإن تكن النشأة لبعض الأسر في الأغلب من موطنه، والتواصل في حد ذاته ثروة اجتماعية وفكرية وتربوية أيضًا، ومع تخرجه في جامعة عدن، استقبلته جامعة حضرموت، معيدًا في كلية الآداب والعلوم والتربية، ومدرسًا في كلية الآداب.
وفي المكلا كانت آصرة الصداقة القوية بكل معانيها وعلائقها الإنسانية والفكرية، وبما أن صاحب السيرة بنبل شمائله ودماثة أخلاقه، وتواضعه وتمسكنه في غير ضعف، مع من يعرف ومن لا يعرف.. يندمج مع الكل، وتبدو سعادته بالحديث معهم والاستماع منهم، يستهل حديثه بابتسامة مودة، منصتًا لمحدِّثه، أيًّا كان الحديث في غير المواضيع المبتذلة.. لا تفارق الابتسامة شفتيه.. استحوذ على المجاميع من طلبته وزملائه، ومن تعامل معه في إدارة أو في قاعة محاضرة، أو في سوق وفي غيره، وربما زمالة رحلة تنقل في مركوب تعارفا لساعة أو ساعات، فكل من عرفه، ادَّعى صداقته عن قرب، وله ذاكرة قوية لمن التقى به ولو لفترة قصيرة، فلقيه بعد فترة طالت أو قصرت، أو لقي أحدًا من معارفه بالنسب، أو بالمواطنة، فهو قد حفظ له وُدَّ المزاملة ورفقة الطريق.
لم يجادل أو يخاصم في غير تخصصه، يقبل بما يسمع دون تأفف أو تبرم.. لم يتهور أو ينحرف مع من يحاور، اقتنع بما سمع أو لم يقتنع، يظل محتفظًا بنبله وحصافته واحترامه لغيره، بلطفه وحرصه وبشاشة وجهه.
كان وجوده في المكلا – مقر عملي حينها – قد هيأ لي معه لقاءات كثيرة رغم انشغالي، أتشوق للقائه، تشوق مريد لشيخه، ففي كل لقاء يتحف كلٌّ منَّا صاحبه بمعلومة من صفحات كتاب، أو من عمود في صفحة من صحافة، أو سرد حدث من الأحداث المستجدة – حينها – أو مناقشتها، لغرابتها على مفاهيمنا، وقد اطمأن الواحد منا في موقعه، وربما احترز في التفاصيل رغم انفرادنا أو بمعيتنا ممن نثق فيه، لترسبات فهم لمرحلة أو طور سابق ما زال في المخيلة.
توثقت الصلة التي كانت بيننا ورسخت بأكثر مما كانت عليه من ود واحترام موصول بمعرفة الأب، وفي أكثر من اتجاه، وخاصة الاتجاه المعرفي أو الذهني، سواء كان ذلك في حاضرنا، أو ماضينا القريب والبعيد.
سعى الدكتور صالح عرم لدى الشيخ المهندس عبد الله أحمد بقشان، فكانت المنحة الدراسية من جامعة الملك سعود بالرياض، وعرَض قبول جامعة الملك سعود (1429/1430هـ) على إدارة جامعة حضرموت (كلية التربية بالمكلا) للموافقة على سفره لدراسة الدكتوراه في تخصصه (الأدب الأموي)، غير أن رئيس الجامعة تلكأ في السماح له بالسفر، ومن بعد طلب من صاحب السيرة تعهد والتزام من قبل ضامن بسجل تجاري معمَّد من قبل الغرفة التجارية، يتحمل كافة الرسوم الدراسية في المملكة.
وبتاريخ 22/2/2009م كان توقيعه على التعهد والالتزام، وتم تعميده من قبل الغرفة التجارية والصناعية م/حضرموت.
التحق بجامعة الملك سعود بالرياض، وحصل على الدكتوراه عام 2016م.
سماحة صاحب السيرة ونبله وموهبته التي امتاز بها على غيره وتفوق بها على مَنْ سواه من طلبة صنوه، تتجلى وتبرز في جامعة الملك سعود بالرياض، فقد حاز القبولوالرضى من قبل المسؤولين والزملاء في الجامعة، فأسند إليه أثناء تحصيله للدكتوراه مهام إدارية ووظيفية، هي كالآتي:
المؤتمرات والندوات:
وفي أثناء تحصيله العلمي في جامعة الملك سعود كانت له مشاركة (حضور) في:
مشاركة في الندوات:
لصاحب السيرة مشاركة أيضًا أثناء دراسته في جامعة الملك سعود وهي على النحو الآتي:
من الناحية الأخرى في المجال الاجتماعي كان له أثناء وجوده في المملكة صلات وارتباطات أخرى تعدَّت ارتباطه بالزملاء والمشرفين والأساتذة في الجامعة إلى نخب المجتمع السعودي في الرياض وجدَّة من مثقفين، ورجال أعمال، وغيرهم، فكان اسمه يتردد في أروقةالمكتبات، وقاعة المحاضرات، وفي لقاءات خاصة، دون معرفة سابقة، أو بمعرفة سطحية، وبنبل شمائله، استحوذ على كثير من الأصدقاء والأصحاب من غير ممن ارتبطوا به في الجامعة.. ثلة مهدت له سبل التعرف، ويسرت له مصادر المعرفة، بل وأثرت مكتبته بكثير من المطبوعات القيمة، وكان لي منها نصيب بما اعتقَد أنه من تخصصي. وكنت أرفض بعض طلباتي منها إلا بقيمتها، فكان يحلف أن الكتب أُعطِيَتْ له مجانيَّة كهدايا، وليس في حاجة لها.
تجاربه وخبراته في مجال تخصصه:
سبق وأن أشرنا إلى التجربة النوعية في قيادة وتدريس فصل من سنة أولى إلى رابعة، ولعلها مرتكز تجاربه، وهيأته لانطلاقه المعرفي والتربوي، وأساس خبراته في تخصصه التعليمي فهو:
مهام إدارية ووظيفية :
الإنتاج العلمي:
مهام أخرى في غير تخصصه :
تفاعل مع مجتمعه:
تجارب وخبرات معرفية وعملية، ابتدأت بتجربة نوعية، فتكشفت أمامها آفاق للفهم العلمي والعملي، بمحصلات نوعية لارتباطه واحتكاكه بمجتمعه والتفاعل معه في كل أطواره.
شيء لا يختلف فيه، إن حياة الناس تتغير وتتلون تبعًا لما يستجد في المجتمعات من مفاهيم وأعراف وتقلبات في السياسة أو الثقافة العامة أو الرؤى المندرجة في ظل تلك التغيرات والتقلبات، وهو مما يمكن أن تؤثر تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر في حياة الأشخاص، غير أن البعض يحتفظ بخاصيته المثالية في السلوك الذي يوجهه الوجهة التي من طبعه وسليقته، حتى وإن أبدى التظاهر بقبول بعض المستجدات التي لم يقتنع بها فكره وطبعه.
صاحب السيرة، عرف نفسه وعرف من حوله.. تفهم الواقع الذي يعيش فيه، في كل طور أو مرحلة.. أعطى كل مرحلة من المراحل المتقلِّبة في الفهم الاجتماعي والسياسي بما يليق، مما لا يجانب المثالية في السلوك.
لهذا احتفظ بخاصيته في كل مرحلة، واحتفظ بمحبة كل من عاشره، مما يعني أنه وفيٌّ لولائه ومفاهيمه المستقاة من عقيدته.
متانة العلاقة مع صاحب السيرة في المرحلتين من المراحل الثلاث التي عاصرْتها معه، فهي مع تقلباتها السياسية والاجتماعية والرؤى المذهبية الدينية، قد طمت على كل مرحلة سابقة في تاريخ مجتمعنا، للتنوع الشكلي والنوعي، فقد كان يربأ بنفسه أن ينتسب لفريق أو تكتل أو تجمع تحت أي شعار أو انتماء .. ظل محتفظًا بود واحترام للكل، حتى ليُخَيَّل لكل فريق أو تجمع أنه معه، أو من المنتمين لأنصاره، ولا يعني هذا أنه كان صاحب وجهين، إنما هو محتفظ بخاصيته في فكره ورُؤَاه، مع احترامه لكل صاحب مذهب أو رؤية أو انتماء سياسي أو عشائري.
نجتمع معًا منفردين لساعات، يتطرق اجتماعنا لنقاش حول بعض المستجدات .. له رؤية خاصة، يعقبها استياء وتضجر من بعض التصرفات لذوي الولاءات أو الانتماءات التي تصب في قالب الفتنة والشحناء، والزهو والتفاخر بالأجداد والآباء دون أن تكون لهم مفخرة الآباء والأجداد بين أفراد المجتمع، لا يستطيع أن يبرزها علانية، وبما أنها من خصوصيات ذوي الانتماءات المتعددة، فهو إن أسر لي بتضجره وتبرمه من سلوكيات البعض، فقد اعتبرها نتوءات في مرحلة يمكن تجاوزها في مرحلة أخرى، لأنها هشَّة في مكوناتها، لا تمتلك مكونات بقائها، فلِمَ يحشر نفسه في ولاء أو عداء مع من تجاوز مفاهيم عصره، ولم يستوعب التطور القائم بين العلاقات الاجتماعية بين شرائح المجتمع وقيمه.
مواقف معه لا تنسى:
لي معه موقف أو مواقف لا تبارح مخيلتي في حياته وبعد مماته، فقد كان يشعرني بشيء من مخصصات المحاضرات في جامعة الملك سعود، وأشعرني بموعد الامتحان لمناقشة الرسالة، وقديمًا قالوا: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وبما أنني قليل المعرفة في علم البلاغة وما تفرع منها وما انتسب إليها، فإني في حالة من الارتباك من رسالة الدكتوراه في مبحث السخرية في الشعر الأموي، أراها بمعارفي عَصِيَّةً مستعصية، قد تخذله ذاكرته، أو تبهره قاعة المناقشة ومن يتولَّاها، ومع أنني من جانب آخر أطمئن نفسي أنه تخصص في ذلك وهو أهلا لذلك، وكنت قلقًا منتظرًا النتيجة بفارغ الصبر، وما أن اتَّصل بي مبشرًا بنجاحه انهمرت الدموع مدرارة تهمي في الخدود، وترتبد الكلمات في الحلق فرحة جذلة، وكنت أردِّد: ما تمنيت رد ميِّت إلا رد والدك لأهنئه بنيل وحيده للدكتوراه.
وموقف آخر، وقد شرعت في تسويد كتابي [دمون قراءة في ماضيها والحاضر] وكان همي أن أختصر القراءة، بعد أن أربكت أبحاثي عدم المراجع التي يمكن بها أن أستكمل بحثًا ما من عناوين القراءة، والمراجع التي أردت الحصول عليها .. البعض منها مخطوطة مع الضنين بها، وهي لمؤلف مؤرخ وأديب وفقيه حضرمي، أرى الإشارة إليها كمصدر في كثير من المطبوعات التي تتحدث عن تاريخنا، والبعض مراجع عامة لم أستطع الحصول عليها. وفي عودته لمواصلة دراسته أو تحضيره للدكتوراه في المملكة العربية السعودية، سأل عن تلك المخطوطة، فوجدها بمعية أحد الزملاء من الدكاترة من ساحل حضرموت، ولم أطمح حينها في امتلاكها بقدر تصفحها لأكمل بها بحثي من مصادره، لكنه استأذن زميله ليصوِّر تلك المخطوطات، ولم يمانع، بادر زميله بإشعار ذويه في الساحل – المكلا – ليتسلمها صديقنا أحمد عابد مقرم، وتم تصويرها.
النسختان (ج2وج 3 من كتاب بضائع التابوت للعلامة عبد الرحمن بن عبيد اللاه السقاف) المخطوطة، والتي تم تصويرها من قبل الأخ مقرم، وجدت فيها اسمًا أعرفه من مؤلفاته ومن تحقيقاته ولم أقابله، فما إن عاد إلى البلد قلت: إن عليها اسم الدكتور محمد يسلم عبدالنور، ربما يكون عنده الجزء الأول، فقال زميل وصديق ومعرفة، فاتفقنا على مقابلة عبد النور، وهي أول معرفتي به، وربما كان عبد النور مرتابًا في معرفتي بمؤلفاته وتحقيقاته فذكرت له مؤلفه: “الحياة العلمية في حضرموت”، وتحقيق الجزء الثالث من كتاب “قلادة النحر” لبامخرمة، وقلت شوّه التحقيق الأغلاط الشنيعة المطبعية في الهوامش، فانزاح ارتيابه.
معرفتي بالدكتور عبدالنور من ضمن فضائل الدكتور سالم، وأنا اسطر هذه السيرة وقد حصل عبد النور على الأستاذية (بروفيسور) ولمثل هؤلاء يفتخر ويزهو من تعرف بهم.
في شهر رمضان1441هـ ضمَّنا لقاءٌ في نهاية النصف الأول منه، وتطرقنا للعرس الجماعي، ثم إلى الفقيد سليم باشامخة، وكانت الفكرة منه أن يمتدح دوره في اللجنة الاستشارية للعرس الجماعي، وبعد أيام أرسل لي صورة من مقال له لمجلة فرحة التي تصدرها لجنة العرس الجماعي ويرأس تحريرها، وكعادته، اختصر إيجابيات سليم رحمه الله، ولكن بإسهاب قد لا تقبله المجلة لمحدودية أبوابها وصغر حجمها، حسب معرفتي، وقلت: المقال طويل لن تقبله مجلة فرح كاملًا، فقال: بل كان إصراري على نشره كاملًا دون حذف كلمة منه، وبعد موته سألت الأخ لطفي بامطرف وهو إعلامي اللجنة للزواج الجماعي عن مقال الدكتور سالم، فقال: نشر كاملًا.
في اجتماعنا في اللجنة الاستشارية للزواج الجماعي، هو الأخير معه ( لمهرجان العرس التاسع) وجائحة كورونا قد أربك برنامج الزواج، كما اختل نظام التجمعات عامة في البلاد، وكانت للدكتور رحمه الله، وجهة نظر، أن مهرجانات الزواج الجماعي لم تعد احتفالًا بزواج، وإنما قاعدة تهيء الموهوبين في الأداء للأدوار الثقافية والاعلامية سواءً في التمثيل أو الأناشيد أو الشعر وغيره، وهي لفتة منه جديرة بالتأمل لبروز كوادر ما كان لها أن تبرز مواهبها في غير مهرجانات الزواج الجماعي بآليته تلك، ولهذا كان يحبذ تأجيل الزواج عن موعده، تضامنًا مع غيره، حتى انحسار كورونا. لكن سؤال طُرِح، لم نستطع الرد عليه.. متى سينحسر الوباء؟ وهو في ازدياد مرعب عالميًا، وبتهويل إعلامي محلي.
غفر الله لسالم، وصدرت مجلة فرحة، وفيها مقال الدكتور عن المغفور له بإذن الله سليم باشامخة بعنوان (المستشار الناصح)، وشرعت في القراءة، فإذا بي بالدموع تنحدر حارة مدرارة من عيني بتلقائية.. لم أستطع قراءة المقالة كاملة من المجلة، وهي في هاتفي، قبل أن تكون في المجلة.
لأن الدكتور سالم قد توفاه الله.
قبل وفاته، طلب مني ثلاث نسخ من كتابي (دمون/ قراءة في حاضرها والماضي) لإهدائها للبعض من رفاقه، وأرسلت النسخ مع ابني حسب طلبه، وأشعرني أنه تم تسليم نسخة لأحدهم، وباقي النسخ لزملاء في المكلا، وأخبرني بأسمائهم.
بعد وفاته بأيام، زارني ابنه محمد (حفظه الله) حاملًا النسخ المتبقية قائًلا: لا يدري لمن كان سيهديها، وبما أنني أدري، فقد أرسلت النسخ لمن أراد إلى المكلا حسب رغبته.
زيارتي لبيته في أواخر شهر رمضان للتهنئة بحلول الشهر حسب العوائد المتبعة في البلدة ليلة ختم مسجد النور ليلة 21 من شهر رمضان.. أطلعني – عليه رحمة الله – بما تم من إضافة من ضمن أرضية بيته.. غرفة استقبال رائعة بذوق فني رفيع في اختيار التشكيلات والنقوش، ودار بي في ملحقات الغرفة، وبجانبها غرفة المكتبة التي خلَت حينها من الأبواب ومن رفوف الكتب فضلًا عن الكتب، هي في نهاية التشطيب، وأعجبت بها، وأمنيتي كانت أن أجدها قد استوفت معنى المكتبة بما حوته من كتب.
وفي يوم وفاته كنت في تلك الغرفة.. غرفة الاستقبال، وكنت أنظر إلى غرفة المكتبة بحسرة، حيث بقيت كما رأيتها.. اغرورقت عيني بالدموع، مع أن دموعي حينها متواصلة كلما تذكرت سالمًا وهو على يميني في تلك الغرفة، بابتسامته الودودة، وكلما رأيت طفليه، خاصة ابنه أحمد الذي ظل بابتسامة والده، وببراءة الطفولة، وأدب الأسرة ، يقبل أيدي المعزِّين في وفاة والده.
هذا جزء من سيرة نابغة من نوابغ بلدنا.. صديق صدوق، برؤية محب، ولم تكن صداقتي معه صداقة مميّزة من نوعها لشخصي، إنما هي صداقة وصلة ورابطة حميمية لكل من عاشر وزامل وصاحب ورافق هذه الشخصية المميّزة والودودة في صلاتها مع غيره، وإن كان لبعض الصداقات أو الصلات سمة أو صفة خاصة.
ربما يتساءل غيري كما تساءلت من قبل عن كتّاب السير، أنهم يتجنبون ذكر السلبيات للشخص، نعم إنه بشر وارد عليه الخطأ والنسيان، لكنه الخطأ الذي لا ضرر ولا أذية فيه لغيره، غير أنه لم يبرأ من حاسد وشانئ، أظهر حسده وشنآنه أو أسرّه، ولقد كنت أستبعد ذلك من أن يكون له مبغض، وهو الذي لم يبغض أحدًا، ولم يسئْ لغيره في قول أو فعل، لكنني اكتشفت بعد صدور كتابي دمون قراءة في تاريخها…، بمقدمة للدكتور – غفر الله له – أسهب في التقديم، وقد راجعته في الاختصار ، إلا أنه أصر على ما كتب لقناعته، ففوجئت بمن أضمر في مكنونه البغض والحسد، بشتيمته للكتاب وكاتبه وخص بأقذع الشتائم لمن أشاد به، وهو يعني كاتب المقدمة.
لم أجسر وأجرؤ على أن أنقل إليه ما سمعت، فبادرني هو بعد مداراة ولطف، بابتسامته المعهودة، ولباقته الواضحة الميمونة، لينقل ما سمع بتورية وتخفيف، فأشعرته بكل ما سمعت، والتقت معًا ضحكتان تبررما تم حجبه عن الآخر من الطرفين.
غير أن ما قيل من مذام صدر ممن لا يؤبه له، ولا وزن له في أوساط المجتمع العلمي أو الفكري، إلا في مراتب التعصب الأجوف الذي يخطو بخطوات ضد الزمن، أو جاهل متهور في ميوله وتلقيه، بطغيان أهوائه وولاءاته.
وفاته:
قبل يوم من وفاته اتصلت به هاتفيًا أسأل عن صحته من حمى لازمته، فطمأنني، وقال إنه ذهب إلى مستشفى سيئون لعمل أشعة – خوفًا من كرونا – وإن الأشعة سليمة من المخاوف، وفي مركز الحميات “بعيديد” (تريم) طمأنوه أن كل التحاليل إيجابية، إلا أنه اشتكى من عدم الشهية لأي أكل أو مشروب، وفي الواقع إنني لم أشك مطلقًا في أنها حمى من الحميات العابرة التي تطال الكثير، وإن تنوعت في تلك الفترة، ولم يدر في خلدي أنها آخر مكالمة.
في صباح اليوم الثاني فاجأني زوج ابنتي صالح العبد باشامخة هاتفيًا بوفاة صديقه الدكتور سالم منتحبًا باكيًا، وأنا أستوثق منه الخبر الذي باغتني وأفقدني اتزاني، واستسلمت لقضاء الله وقدره.. ذرفت الدموع.. لا أدري كيف أصل إلى بيت الفقيد وأوصال جسمي ترتجف.. زاغ البصر.. جمد دمع العين، لم أميّز بين مفتاح السيارة من غيرها، ناديت الأولاد .. الكلمات تختنق في الحلق.. لا أستطيع أن أستجمع قواي وأرد على التساؤل المرتعب من الابن.. بعد جهد جهيد بكلمات متقطعة، أقول: إلى بيت سالم بامؤمن.. سالم توفاه الله، وانسابت الدموع.
صباح هذا اليوم أدى صلاة الفجر إمامًا بأسرته في بيته، صافح وقبَّل يد أمه كعادته صباح كل يوم، واستسلم لغفوة بعد صلاةٍ وذِكر، ولم يصحُ بعدها.
رحل عنا سالم.. رحل عن أهله وذويه.. رحل عن أصدقائه ومحبيه.. رحل عن البلد ومن فيه.. رحل عن الجامعة.. رحل عن طلبة هم في أمس الحاجة إليه.
وُورِيَ جثمانه الطاهر في مقبرة العشيرة ضمن مقابر “بشار” ( الشرقية) عصر يوم الثلاثاء بتاريخ 17 شوال سنة 1441هـ، الموافق 9/6/2020م، عن عمر ناف عن السبعة والخمسين عامًا، وخلف من الأولاد محمدًا وأحمد وعبد الله، وصالحًا الذي وُلِدَ بعد وفاته، وبنتين.
رغم جائحة كورونا، والتخوف من التجمعات، وتهويل الإعلام المروِّع من التحشيد، وجزع الناس وخشيتهم من عدوى هذا الوباء المرعب، فإن المجاميع الغفيرة التي شيعت جنازته، جسَّدت المحبة والوفاء لهذا الفقيد الذي ترك بصماته ولمساته في جيل مثقف ثقافة عليا بين أوساط المجتمع بكل أطيافه.
قيل إن سبب الوفاة كان كرونا أو كوفيد 19، وقيل غير ذلك، إنما عمر الإنسان محدود بزمن معيّن منذ خلق، وربك يخلق ما يشاء ويختار، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، هي هذه الدنيا التي لا خيار لنا في الخلق ولا خيار لنا في الموت.
كُرِّم بعد وفاته بوقف شرعي كصدقة جارية لروحه ببرادة ماء بجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، إلى جانب تسمية إحدى قاعات الجامعة باسمه وفاءً وعرفانًا للفقيد بإسهامه اللامحدود في خدمة الجامعة وطلاب العلم.
سيظل سالم نبراسًا يشع بنوره في أفئدة طلاب مُمْتَنِيِّنَ له بما غرس في جوانحهم من المعرفة، وربط المعرفة بسلوك مثالي بمسيرة جادة مثمرة، ثمراتها ثبات وتناغم بين المعرفة والسلوك، هي الذخيرة التي سبقته لآخرته، لا أقول من طلبته فقط، وإنما كل من عاشره وعرفه واستفاد منه، فما أعظمها وأجلَّها، جملة تتراءى لنا على بساطتها من يقول جزاك الله خيرًا، فكم من الألسن ردَّدتْها للفقيد عليه رحمة الله.