د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 150
رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا
(1)
ذات عام، كنت مع ثلة من الطلاب والطالبات نتجاذب أطراف الحديث خارج إطار المحاضرة، فخطرت ببالي فكرة أن استكشف شواغلهم المهيمنة، بأسئلة عن كلمات، قد تبدو في ظاهرها أشبه بما يزجي به بعضهم وقت الفراغ.
– ليذكر كل منكم اسم حيوان مبدوءًا بحرف الحاء.
فسارع كل منهم إلى الإجابة:
– حمار، حصان، حرباء، حية، حوت، حلزون.
ثم أطرقوا يستذكرون، حتى ظن كل منهم أن لا كلمات غيرها.
– لقد نسيتم واحدة مثلاً: حمامة. لكن، حسناً، ليذكر كل منكم كلمة، أي كلمة مبدوءة بحرف الحاء، فسارعوا:
حبل، حديد، حَر، حوض، حمّص، حادث، حزام.
– هل من مزيد؟
– حائط، حصة، حظيرة، حسد، حقد، حماس، حجِل، حبر، حرب، حبوب، حور العين، حريم، حرمة، حرص، حكم….
– جميل! دعونا الآن نفكر معاً: لماذا تبادرت إلى ذهن كل منكم الكلمة التي قدمها؟
تفاوتت إجاباتهم ما بين أخذ الكلمة بلا اختيار، أو إلقائها بلا قصد، أو الحرص على السرعة في الإجابة.
– حسناً. أتظنون أن هذه الكلمات مجرد كلمات قيلت هكذا أم أن تأملها منفردة أو مجتمعة قد يشير إلى شيء ما أو أشياء؟
– كيف، يا أستاذ؟ تساءل أحدهم.
– سأذكر الآن كلمات لم تذكروها. على سبيل المثال: حب، حرية، حوار، حنان….. هل أضيف؟
(….) ثم انهمكنا في نقاش حول الكلمات التي ذكروها، وكيف يهيمن معجم ما على الذاكرة والوعي؟ وكيف تبدو الكلمات التي ذكرتها مهمشة في الذاكرة والوعي، والواقع أيضاً؟
(2)
لو أخذنا كلمة (الحب) مثالاً، فمما يستوقف المتأمل في نظرة المجتمع إليه، تلك النظرة الدونية، والتعبير عن تسفيهه بخطاب مباشر أو غير مباشر، حتى لكأن الثقافة المهيمنة تقدم الكراهية على الحب، في ارتباط ما بمصاحبات مماثلة، كالحسد، والحقد على من ينشرح صدره بالحب ويتنفس مشاعر حرة. حتى ليبدو من مهيمنات معجم الأغنية، كما تمثله دواوين شعرائها كلمات من مثل: العواذل، والشواني، الحساد، أهل السبب، وما شابهها أو أدى معناها في سياقات متماثلة، حتى ليبدو الحب – بما هو علاقة إنسانية سامية – منظوراً إليه باعتباره قلة أدب، وخروجًا أو مروقًا على القيم، أو عملاً غير أخلاقي يترصده أولئك كل مرصد، ليحبطوا أي تقارب بين إلفَين اجتمعا على خفقات تتصادى.
و في بيئة اجتماعية لا تحض على الحب، كيف يكون الحال؟ ليس من المستغرب، ربما، أن تشيع بدلاً عنه الكراهية والتباغض والتحاقد والتحاسد، لتتجاوز الجناية على العلاقة الإنسانية، إلى كونها مهيمنات في العلاقات الاجتماعية، وربما السياسية أيضاً، من منظور أن العملية، في علاقة كل ذلك بعضه ببعض، أشبه بقطع الدومينو، التي يسقط بعضها بعضًا.
(3)
ولعل الناظر في الأمثال الشعبية يرى أن الحب يكنى به عن المرأة، فيقال: “ما بدا حب زمّر”. أي إن المرأة ليست بمستطيعة فعل الرجال. ولو كانت التكنية تقف عند هذا المستوى الأفقي في فهم المثل، لكانت إيجابية، لكن الحب هنا في اللهجة الحضرمية يعني “فرج المرأة”، فتكون التكنية بالفرج عن المرأة في سياق الانتقاص. لكن لماذا سُمّي الفَرج بالحب؟
أ من باب الإعلاء والتوقير أم من نافذة التسفيه والتحقير، للحب، كعلاقة روحية سامية؟ وهل تسمية الفرج بالحب تعني في ما تعنيه التنفير من الحب، بالإحالة المباشرة إلى الجنس، بحيث تبدو أي علاقة حب بين إلفين منسجمين هي علاقة جنسية (محرمة)، فيكون الحب بالتبعية محرمًا أو مؤثمًا، منفرًا منه؟ فهل تراهم لذلك يكثرون استعمال كلمة “المحبة” أو الهوى وأحياناً العشق أو العشقة، بدلاً عن “الحب”، لإزالة اللبس السياقي في المفهوم الشعبي؟ وهل من استباقياتهم وصف الحب أو العشق بأنه “بلوى” أو قولهم “تالي العشقة نذقة”؟ بل إن من طريف الشعر ما يتداوله العامة من توصيف حسي يتجاوز أنواع الحب كعلاقة شعورية، يتجاوز عنه المتلقي والمجتمع باعتبار طرافة التعبير من جهة، وباعتباره يعزر من يعلي عاطفة الحب بمعنى من المعاني من جهة أخرى.
(4)
ولعل من اللافت الذي يتجاوز الحب إلى الحرية مثلاً – والعلاقة بينهما تكاملية – أن الحب هو مما ينبغي السماع عنه عن بعد، كالحرية، فهناك من يقرؤون عن الحب ويسمعون وقلما يحبون أو يحققون ذواتهم بالحب، في بلاد الحب المحرم، وبتحريم الحب تُنفى الحرية من حيث هي تحقيق فردانية الفرد كذات مسؤولة عن اختياراتها في المجتمع. لذا فالحب لا يتعدى كونه كلامًا في الأغاني، بغض النظر عن جواز الغناء من عدمه، فمثلاً “الحب كله” وليس بعضه يستمعون إليه بشغف في أغنية أم كلثوم، ويستمتعون معها بتحولات “سيرة الحب”، ويمتد نهر الاستماع والاستمتاع بالحب من أم كلثوم ووردة وميادة إلى لطيفة وأصالة ونانسي، ما دام الحب حب أولئك، لا حب هؤلاء الذين تظلنا وإياهم سماء واحدة، وتخفق قلوبهم بأجمل ما في الإنسان: الحب.