د. عبدالباسط سعيد الغرابي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 152
رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا
الهبيش أو الحفة تُعَدُّ من أجمل الرقصات وأروعها، والتي ابتكرها وتميز بها الإنسان الحضرمي عن غيره وخصوصًا في مديريات الديس الشرقية والشحر والريدة وقصيعر منذ عشرات السنين. عُرِفَت الحفة بألحانها الشجية وكلماتها الشذية الرصينة، التي استهوت كبار شعراء حضرموت من الرعيل الأول، من أمثال عوض عبدالله بن السبيتي، وعبدالله عمر سواد، وعلوي عبدالله المقدي، وسعيد حمود، وأبي بكر بن العكضة، وأحمد معلاق، وسيد سلوم، بالإضافة إلى شعراء الجيل الثاني والمعاصرين من أمثال حسين أبي بكر المحضار، وسعيد سالم باجعالة، وعبيد عمر باجراد، ومحمد عبدالله الحداد، وعبدالله محسن الوحيري، وسالم عمرو الغرابي، وسعيد عمرو الغرابي، و الشعراء الشباب من أمثال سعيد سالم بلكديش، وسعيد عبدالله سبيتي، ومحمد حسن الشنيني، وغيرهم الكثير. كما أن مبدعي أصواتها ومؤلفي ألحانها الرائعة من محبي هذه الرقصة من أمثال سواد، وابن عسيمة، وعبيد عمر باجراد، وسعيد القبيلي، وابن زقر، وغيرهم صاغوا أجمل الألحان وأروعها، فأصبحت روائع غنائية اشتهر بها غيرهم، في حينٍ هم ظلوا في الظل لا يعرف عنهم إلا اليسير وبقيتْ ألحانهم تغنَّى بها كبار الفنانين داخل الوطن وخارجه.
من منَّا لا تطربه رائعة المحضار (باشل حبك معي)، أو رائعة سالم جبران (ريتنا ماعرفنا بعضنا)، وأغنية صالح عبد الرحمن المفلح (بلجيك ما يصلح إلا)، ورائعة السري (بالغواني) والقائمة تطول بهذه الروائع.
يرجع الفضل الكبير لنقل أصوات الهبيش وألحانه إلى أنغام الوتر وحناجر فناني الطرب إلى الشاعر الكبير حسين أبي بكر المحضار رحمه الله، ولكنْ سبقت التجربة المحضارية الناجحة محاولات بعض الفنانين، مثل كوكب حضرموت العملاق محمد جمعة خان في أغنيته الشهيرة (أنا وخلي تراضينا)، وكلماتها عبارة عن مساجلة بين شعراء الحفة، من أمثال ابن السبيتي، و سواد، وينطبق ذلك على أغنية (يا رعى الله ليالي)، وكذلك محاولة يسلم دحي في رائعة ابن السبيتي (سبحان لي خلق)، وسعيد عبد المعين، وسالم سعيد جبران، غير أن محاولة جبران جاءت متأخرة.
أما تجربة المحضار فتعدُّ فريدة من نوعها؛ إذ قلبت هذه التجربة هذه الأصوات من صبغتها البدوية (الشطية) التقليدية إلى لحن عصري، وبشَّرت بمولود جديد للأغنية الحضرمية، يستطيع هذا المولود أن يجد لنفسه مكانًا في عالم الفن، وينمو حتى يصبح عملاقًا ينافس كل ألوان الغناء العربي، وبالفعل كانتْ هذه التجربة الرائعة قد جعلت من المحضار المطوّر والواضع الحقيقي لأسس الأغنية الحضرمية الحديثة.
ولكنْ كيف كانت هذه الولادة المحضارية؟! فالولادة الحقيقية عن طريق جلسة عفوية في إحدى قاعات نادي الكوكب بمدينة الشحر بحضور الفنان المخضرم (سعيد عبد المعين) أطال الله في عمره عندما اقترح على شاعرنا تزويده ببعض الكلمات حتى يستطيع أن يكمل أو ينتج شريطه أو ألبومه الجديد، فالمحضار أمام هذا الطلب بدا أوَّلًا متردِّدًا ومستغربًا من كلام فناننا الكبير؛ لكونه شاعر مساجلات حفة وليس شاعرًا غنائيًا، ولكن شيخ الفنانين أدرك استغراب المحضار وتعجبه من هذا الطلب، وبدأ يعدِّد أبو نعيم تجاربه السابقة مع شعراء الهبيش، مثل ابن السبيتي، وعبدالله سعيد باعمرو، وغيرهم الذين تغنَّى بكلماتهم على ألحان الحفة.
فبدأ المحضار استجابته لأبي نعيم مفتِّشًا في ذاكرته عن بعض ألحان هذه الرقصة أو أصواتها، التي أحبَّها كثيرًا ليختار من كنوزها البديعة أجملها، فتسلل إلى ذهنه لحن الشاعر والملحن الكبير عمرعوض العوش، الذي يقول عنه صديقه المغني والشاعر علوي محفوظ مول الدويلة :
ذا خرج فصل بتغنم وقاتي بالسلى يوم لي قلب سالي
بالسلى باعمر قلبي وباسلي على ناس ياكمين مغبون
فجاءت الولادة المحضارية مميزة تبشر عن شاعر غنائي متمكن مسترسلًا بالكلمات الآتية:
يا رسولي توجه باسلامة زر صحابي وبلغهم سلامي
قلهم عاد شي للوصل حيلة ليش لأوعدوا خلفوا المواعيد
و لم ينتظر شيخ الفنانين كثيرًا حتى أتته الأغنية المحضارية الآتية :
بلحن سعيد حمود والبعض ينسبه لعبدالله سواد الذي يقول عليه الشاعر أحمد معلاق :
ومن مات في القبر با يقبر وفيه العظام الصم تتفالت
وما من قضى ربنا مهلة والنفس ماشي لها غير عزرائيل
لقد قيلت هذه الكلمات في العشرينيات من القرن الماضي في حين أنَّ أغنية المحضار قيلت في بداية الخمسينات من القرن المنصرم على وجه التقريب و التي يقول فيها :
على ضوء ذا الكوكب الساري ** باقضي الليل خبة و سيرة
و لاحد بما أقصده داري ** غير الذي يعلم الأســـــرار
و هكذا كانت بداية المحضار ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل المحضار ترك ألحان الهبيش أو الشرح الساحلي؟ كما يحلو للبعض تسميته، وصاغ ألحان أخرى، فالواقع يقول غير ذلك، لقد ظل المحضار مخلصًا للشرح الساحلي، وينهل من ينابيعه المتدفقه، فغالب روائع المحضار إنْ لم نقل مجملها مصبوغة بألوان الحفة، وتنعبث منها روائح الحفة ونكهتها الممزوجة بروائح البادية النقية.
لقد اعتمد المحضار بشكلٍ كبيرٍ على ألحان الهبيش وخصوصًا على أصوات الملحن الفذ (عبدالله عمر سواد) رحمه الله، الذي يعدُّ بحق وحقيقة ملحن حضرموت الأول، وملكَ ألحانها غير المُتَوَّج إنْ لمْ نقل ملحِّن الجزيرة العربية، كيف لا؟! وروائع أغاني المحضار غالبها من ألحان (سواد).
أما بالنسبة لبدايات المحضار مع سواد فكانت من خلال اللحن الذي يقول عليه سواد:
قنع و أيس الخاطر ** إذا شرب العسل بيجـــــــــــيك منية
و الآدمي لأبطى صابر ** ينكرونه صحابة يوم رك الحال
لقد استطاع المحضار بعبقريته الشاعرية وحسه المرهف وصوته الجميل أن يسخر ذلك في تجديد ألحان (سواد) وهندستها، ويضع عليها مونتاجه، ويخرجها إلى جمهوره بقالب جديد منمق بالدرر المحضارية النفيسة، كأنها جاءت من موسيقار، عالم بفنون علم الموسيقى وأصولها، فالكلمات السابقة ما قيلت إلا على اللحن الشهير والتحفة المحضارية (يا زارعين العنب). ومن اشهر أغاني المحضار ذات النغمات السوادية الروائع الآتية:
( باشل حبك معي، خضر الوادي، بداية الهجران، شلنا يا أبوجناحين، بعد الوفاء، يلقي عسل، سلم ولو حتى بكف الإشارة، وغيرها الكثير)
لقد ظل المحضار حتى آخر أيامه يبحث عن ألحان دان الهبيش المميزة، ولا يتردد عندما يجد اللحن حتى من صديق بالصدفة، ومن أمثلة لحن الشاعر سعيد حمود الذي يقول عليه سالم سعيد باسباع (قريشن):
ياسعيد خبر عن كل واحد سأل عني
قل له السباعي لي يعرف الييك والرانه
بعض البضائع لدخلت السوق تتغرب
قدها مقالة الزين مايتعب الدلال
ونختم ذلك بلحن للشاعر سعيد عمرو الغرابي الشهير بابن عسيمة؛ إذْ وضع عليه المحضار أغنيته المعروفة (الهوى يخرب مصانع)، وقد جاءت المساجلة الآتية على اللحن المذكور حين يقول ابن عسيمة:
حتى المعلم ضار نافع يخرب السترة ويبنيـــها
منقضي في حاجته ماله سنع في خضر ويباس
فأجابه ابن السبيتي:
دخل شاب قلب في البضائع من بغى نفسه يمنيها
لدراهـــم واجــدة خذ لك بريثـــم من القرطـــاس
فأجابه المحضار:
جاءنا مهد ويقول فارع يعصب أصوابه ويخفيها
كــل شعــرة نابتــة تشهــد بدم تحتهـــا ودحــاس
وخلاصة الموضوع رقصة الهبيش حُبْلَى وغَنِيَّة بالألحان الجميلة والكلمات العذبة، وتحتاج لمن يستثمرها من الفنانين والشعراء والملحنين والمبدعين؛ لإخراجها من صورتها التقليدية إلى قوالب غنائية أجمل؛ حتى تنتشر، وتلاقي نصيبها من الشهرة، وقد أعجبني كثيرًا الفنان المبدع محفوظ محمد بن بريك في محاولته الناجحة عندما تغنَّى بلحن سواد، وقد اختار المساجلة التي يقول فيها المحضار.
خذتنا المحبة قال بن هاشم نا ما علي في العتب والملامة
كلين مع مــال يسرح ويضــوي له وأنا مالي المحبـــوب
ويقول عليه ابن السبيتي:
جليلة عضاء خطفت كما البارق بالسرج والمرشحة والصرامة
فيـــها التقــاطيـــع الجميـــــــلــة خيّــر مـــن مئـــة مزهـــــوب