مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

قصة قصيرة .. انطفاء

صابر عبدالله بارشيد


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 156

رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا


على سطح أحد المنازل الصغيرة في أطراف مدينة المكلا، تجلس سيدة شابة في عقدها الثالث، وفي حِجرها طفلها الرضيع، أجبرها انقطاع التيار الكهربائي المستمر على الصعود للسطح، وعادة ما تفعل ذلك عند كل انقطاع، حرارة مرتفعة تجاوزت الأربعين درجة ورطوبة عالية، تغمرها الكآبة والحزن، صراخ طفلها يزيد الأمر سوءًا، تغني له وتناغيه أحيانًا ليسكت، وترضعه أحيانًا أخرى.

وحيدة لا أنيس لها سوى طفلها والذكريات، تنظر للأفق، تتذكر زوجها الشهيد، زوجها الذي أحبها كثيرًا وأحبَّته، والذي غادرها إلى الدار الأخرى بعد عام واحد من زواجهما.

تنسدل دمعتان على وجنتيها، تحتضن الطفل بشدة، يكاد قلبها ينفجر حزنًا وشوقًا، ماذا تفعل؟! إنها مشيئة الله؛ فقد اختاره من بين كتيبة كاملة، كتيبة ذهبت لأداء الواجب، واجتثاث الإرهاب من جذوره في وادٍ ما.

– آهٍ ليته لم يذهب “تقول السيدة وهي تنظر للسماء”، ليته استمع إلى كلامي ولم يتركني “تنهمر دموع كثيرة على خديها، تمسح دموعها بوشاح طفلها الذي يغطيه، تنظر إلى الطفل بنظرات الرأفة والشفقة.

– لقد مات أبوك شهيدًا، أصابته رصاصة في قلبه، كان في الصف الأول يقاتل الإرهابيين بضراوة، أخبروني أنه مات ببسالة وشجاعة بالغتين” يصرخ الطفل مجدَّدًا، تلقمُه ثديها علَّهُ يسكت، تعلم أنه ليس جائعًا، ولكن ما الحيلة؟! هي وحيدة ولا تستطيع أخذه إلى المستشفى، الوقت متأخر جدًا، وحرارة الطفل تزداد.

كما أنها لا تملك المال الكافي لعلاجه، فراتب زوجها الشهيد انقطع منذ ستة أشهر، ذهبت إلى مركز القيادة مرات عدَّة تسألهم عن سبب عدم صرف مرتب زوجها الشهيد الذي مات ببسالة بالغة – في حد قولهم – ولكنهم وككل مرة يخبرونها أنه مجرد خلل في النظام، وسيتم إصلاحه قريبًا، المرة الأخيرة كانت عدوانية أكثر حين رمت منظفة السجائر على رأس أحد العساكر بعد أن نهرها وأخبرها أن راتبه مات أيضًا بموته، انهالت عليه بالدعوات، ووجهت كلماتها لمن لا تضيع عنده الحقوق وانصرفت باكية.

على بعد كيلومترين منها وبالتحديد في منتصف المدينة، يقيم أحد أفراد المنطقة الأثرياء زفاف ابنه، الألعاب النارية بألوانها المتعدِّدة تأخذ مساحة من السماء، العيارات النارية تخترق الأجواء، وتزيد من صخب المكان، وتذعر طفلها المسكين عند كل طلقة رصاص.

تراءى لها زفافها قبل عامين، وغاصت في تفاصيل تلك الليالي، كيف أتى عامر ليخطبها، وهي تنظر له من شرفة صغيرة أعلى المنزل، يستقبله والدها العجوز، ويدخله غرفة الضيوف، ارتسمت على محياها ابتسامة خفيفة وهي تتذكر أباها يسألها عما إذا كانت موافقة على الزواج من عامر، الذي يكبرها بخمس سنوات، فأجهشت بالبكاء، واحتضنته وسألته كيف سيعيش وليس له في الدنيا غيرها، لقد مات أبوها بعد أيام من زواجها، وبقيت يتيمة لا أحد لها سوى زوجها.

أضاءت الألعاب النارية السماء مرة أخرى كما لو أن الليل تحول نهارًا، تبادر إلى مخيلتها ليلة الدخلة وزوجها يزفها إلى بيته، كيف أمسك يديها بإحكام وقام يرقص معها، قامت لا شعوريًا تراقص الظلام، والطفل بين أحضانها، تتخيل الرقصة الأولى لها مع زوجها في تلك الليلة، يقطع صفو تلك اللحظات صراخ الطفل، فتعود إلى رشدها، وتجلس على ذلك الحصير المقدد المهترئ.

إنها الثانية بعد منتصف الليل، يصل العريس إلى بيته متوشِّحًا خنجرًا في خصره وبندقية على ظهره، ممسكًا يد عروسه، وكعادة هذه العائلة الثرية، يصعد العروس إلى سطح المنزل، ويطلق سراح ثلاثين رصاصة أسيرة من بندقيته، معتقًا رقابهن ومعطيًا لهن الحرية المطلقة، ثم يقفل راجعًا إلى عروسه بخيلاء كمن حقق انتصارًا عظيمًا في معركة، مغلقًا على نفسه وزوجته القفص الذهبي.

حلَّقت تلك الرصاصات المنتشية بالحرية في الفضاء الواسع لفترة وجيزة كما هو مقدَّر لهن، يتفحصن الأرض بأعين متَّقدة يتطاير منها الشرر، ويبحثن عن مكان دافئ يُؤيهن، كانت المرأة هناك على السطح، صامدة كالجبل الذي أمامها، يتسرَّب الوسن إلى جفنيها، تقاوم النعاس بشدة، أما طفلها فقد غط في نوم عميق.

وضعته بجوارها بينما كانت تنتظر مجيءَ الكهرباء التي طال غيابها، وظلت كما هي، تدفع الحَرَّ والرطوبة عن طفلها بمروحة يدوية صغيرة تحركها يمنة ويسرة، إلى أن عادت الكهرباء أخيرًا بعد وقت امتد لأربع ساعات، منكسرة ذليلة لا تملك أعذارًا تبرِّر غيابها.

لم تتحرَّك الأم من مكانها، ولم تهرع إلى النزول بمجرد مجيءِ الكهرباء كما جرت العادة، حتى صار الليل كهلًا، ومر من الوقت ما يكفي ليستيقظ الطفل متعرّقًا، ويعلو بكاؤه ويزداد نحيبه ولا مجيب.