توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 161
رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا
يؤشر نص هذه المقولة في ظاهره إلى الدعوة للقتل من خلال فعل الأمر (قَتِل) المحذوف عنه حرف الألف للتخفيف، وأحيانًا تتردد المقولة ذاتها بنص محايد “مُت تحت حصن”، وهو أقرب إلى روح المقولة التي تحثُّ في جوهرها على أن يضع المرء نفسه في أماكن الشرف، والبطولة، ويبعدها عن أماكن الشبهة والخنوع، والتحديد المكاني للنص (تحت حصن) – غالبًا – افتراضيٌّ، وسواء مات المرء أو قتل داخل الحصن أو تحته فالأصل دلالة الفعل، ورمزية المكان بوصفه قلعة حربية، وساحة من ساحات الوغى، ترتبط بقواعد الاشتباك في البر قبل ظهور قواعد الاشتباك في الجو الذي أنهى كبرياء الحصون عبر التاريخ، لكنها حافظت على ثباتها في المأثورات الشعبية.
وفي الثقافات المحلية للشعوب تتزاحم الأمثلة، والحِكم، والمقولات لتقديم الإضاءات المفيدة، التي تدعم السلوك القويم، ومنها ما يشتغل بالانهزامية والمواقف السلبية، ولا يمثل هذا حالة تناقض في شخصية المجتمعات لاسيما إذا قرأت في سياقاتها وأبعادها الاجتماعية فمثلا يقول الحضارمة: “مُت تحت حصن” مقابلها يقولون: “من خاف سلم”، النص الأول يدعو إلى الصمود، والثاني يلمح إلى الفرار، وهناك صيغة تلطيفية موازية أو مقاربة بقولهم: “الحذر ولا الشجاعة”، ولكل مقال مقام يختار توقيته الأفراد بحسب مشاعرهم اللحظية، وتقديراتهم الخاصة، وهناك عشرات النماذج على ما فيها من التضاد، والتنافر فإنها في مجملها تمثل حالة واحدة لمجتمع يختزل تجاربه فيها، وهو يبحث في ذاته للخروج من سبيل.
لكن ما في داخل حضرموت ليس كما في خارجها، ففي مواطن الهجرة يتزوَّد الحضارمة على اختلاف فئاتهم الاجتماعية بمجموعة من النصائح الاستسلامية أو المهادنة، التي تدخل ضمن ثقافة الهجرة، مثل: “يا غريب قع أديب”، و”كل قرصك وادخل خلصك”، و”قع نملة تأكل سكر”، ولتفاعل الحضارمة المرن مع هذه المقولات في مواطن مهاجرهم شكلوا ما يشبه الظاهرة السلوكية الوديعة المميزة، لهذا تكوَّنت لدى الآخر صورة نمطية بأنهم مخلوقات مسالمة، ولعلهم أنفسهم سوَّقوا هذه الصورة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث يتمكنون من العيش بسلاسة في بلاد الناس.
ولو مضينا مع مقاربات التاريخ بصحبة هذه المقولة (قتِل تحت حصن)، التي تشتغل في بعض أبعادها على ثنائية (الصمود – الموت) مهما كانت كفة المعادلة، والخسائر المتوقعة سنجد – على سبيل المثال – في مواجهة جيش سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) مع الجيش الأموي مقاربة تستحق الإشارة، فكانت الكفة بين الطرفين ليست لصالح الحسين، خاصة بعد أن تخلى عنه ممَّن تعهدوا له بالنصرة، لهذا خَيّر من بقي من أنصاره بواقعية سياسية بين البقاء، أو الانسحاب دون تثريب ، وثبت معه فقط أهل بيته، وقله من مؤيديه، الذين تجاوزوا معه بموقفهم معايير المواجهة المرتبطة عادة بثنائية ( نصر – هزيمة) إلى رفض الاسستسلام المذل، والانحياز مع القيم الخلقية الرفيعة وما تستحقه من تضحية، فكانت الهزيمة المتوقعة، لكن التاريخ خلّد قصة صمود الحسين، وكتب له في الأضابير نصرًا معنويًا مؤزَّرًا مستمرًا مقابل خسارة في معركة عابرة.
هذه الأمثلة التاريخية التي نوردها في هذا المقال تركز على رمزيات المواقف لا على تفاصيل التاريخ التي يتفق الناس حولها، ويختلفون، وإذا ضربنا مثلًا ببغداد المعاصرة نجدها خُيِّرت في عهد الرئيس الراحل صدام حسين في 2003م بين الصمود والاستسلام، كان العراق وحده في الميدان يقابله تحالف دولي من دول عربية، ودول شرقية، وغربية، بعتاد وعدة لا قبل للعراق المحاصر التصدي لها، لكن الرئيس صدام حسين اختار المقاومة وقال مقولته الشهيرة: “إن بغداد مصممة على هزيمة الأعداء على أسوارها”، وما لم يكن في حسابه أو لعله هوّن من خطورته هو أن بغداد تفكَّكت حصونها، واهتزت أركانها، وتكسرت أسوارها، بمغامراته العسكرية التي لم يفكر في تبعاتها برويّة، وكانت حصيلتها ثماني سنوات حرب ضد إيران، وثلاث عشرة سنة حصار دولي خانق، وفي تقديري كانت هذه المغامرات خطيئة الرئيس العراقي التاريخية الكبرى، وإذا كان الحسين في معركة كربلاء دخل ملحمته وهو يرى جدَّه خلفه، والنصر المستقبلي أمامه، فإن الرئيس العراقي الذي خسر مساندة الصديق القريب قبل البعيد خاض غمار (الهزيمة) بأمل أن يخفف عن نفسه (لوم التاريخ)، وربما استحضر في مخيَّلته قصة تسليم بغداد للتتار سنة 1258م، وكيف فعلوا فيها الأفاعيل.
ومن الشواهد التاريخية لمن اختاروا عدم الصمود، وفتحوا الحصون للغزاة نجدها في حاكم مدينة غرناطة (الأندلسية)، الذي وافق على تسليم مدينته عام 1492م (للأسبان) مقابل الأمان له، وللرعية لكن الغزاة أو الفاتحين نكثوا بالعهود، وارتكبوا أبشع المجازر بحق المسلمين فيها، وكان حاكمها (محمد بن علي بني الأحمر) قد غادر مملكته بحسرة وندم، ودموع خلّدتها والدته بعبارتها الشهيرة: “ابْكِ كالنساء ملكًا لم تحافظ عليه كالرجال”، وعند المقاربة التاريخية بين مدينتي (بغداد وغرناطة) نجدهما كانتا على موعد مع السقوط، لكن بغداد حصلت على شرف المحاولة، وحصدت غرناطة الدموع المستمرة.
في عام 1659م خُيِّر السلطان بدر بن عبدا لله الكثيري بين المقاومة أو الاستسلام عندما تواجه جيشه في منطقة بحران (بوادي حضرموت) مع جيش الدولة القاسمية اليمنية فاختار الصمود، على خلاف نصيحة الناصحين له، وفي مثل هذه المواقف عادة تسجل مصادر التاريخ المعاصرة كلمات اللوم لمن حاول الثبات في معركة تبدو خاسرة، لكنِ (الصامدون تحت الحصون) غالبًا ما تنصفهم الأدبيات التاريخية اللاحقة، وتُعلِي من شأنهم.
في الصراع الدموي بين البشر لا مكانَ عزيزَ للضعفاء، لهذا يتفق (المقاومون) على إنتاج المقولات التي تشجع على الثبات، وتمجد المواقف البطولية، فتتناقلها الأجيال بفخر، وهي تبحث عن ذاتها، وكبريائها الذي تجد بعضه مكنونًا تحت حصونها.