أحمد بن محمد بن عوض
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 26 .. ص 51
رابط العدد 26 : اضغط هنا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن والاه وبعد:
فـ (كنت في بغداد) مخطوط للعلامة عبدالرحمن بن عبدالله بكير رحمه الله تعالى، يقع الكتاب في (63) صفحة، وقد ألَّفه الشيخ في المدة من (31/ 1 إلى 20/ 5/1980م عندما كان مرافقًا لأهله بأرض العراق.
وموضوع الكتاب الرئيس هو: مشاهدات المؤلف وزياراته للمناطق المشهورة بالعراق، والاطلاع عن قرب على أهم الأماكن الأثرية، والمعالم والمشاهد والجوامع والمساجد والمتاحف، مع تفصيلٍ مختصر عن كل معلم أو مشهد أو منطقة زارها.
وكان الهدف من وراء كل هذه الزيارات التي قام بها الكاتب هو الترفيه عن الأهل وتسليتهم؛ لأن الغرض الأساسي من الرحلة هو علاجهم.
وقد قمت بوضع وصفٍ وعرضٍ مختصرين لمحتويات الكتاب وتفاصيله، بغير إخلال بالنص أو النقل. إنني قمت باختصار الكتاب، وذلك فيما يتعلق بمشاهدات الشيخ وزياراته في شقه الأول، وأعرضت عن الشق الآخر؛ لعدم تعلقه بالمشاهدات، وإنما هو تحدث عن حالة العراق السياسية، وعن حزب البعث الاشتراكي، واشتماله على حوار دار بينه وبين عالم آخر فيما يتعلق بالأوضاع الراهنة في تلك الحقبة.
والنص يمثل – بحق – تحفة أدبية رائعة، صاغها الكاتب – عليه رحمة الله – بعبارات شيقة، وأسلوب متناغم، وسجع غير متكلف، كما سيجدها القارئ عند قراءته لهذه الصفحات، ولندخل الآن فيما نحن بصدده فقد زار الكاتب من الجوامع والمساجد والمشاهد الآتية:
أولاً: المشهد الكاظمي:
وهو من المراقد المشهورة ببغداد، ويقع في موضع يقال له مقابر (قريش) كما كان يسمى في زمن العباسيين.
ثانياً: جامع الإمام الأعظم:
للإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وقد سميت المنطقة كلها: الأعظمية، تخليدًا لذكرى الإمام الأعظم أبي حنيفة، وبما أن الإمام أبا حنيفة دفن في مقابر الخيزران عام 105ه- 767م فقد أنشئت حول ضريحه بلدة صغيرة سميت بمحلة أبي حنيفة، ثم جدد البناء شرف الملك أبو سعيد الخوارزمي في العهد السلجوقي سنة 459 ه – 1066م، وبنى على الضريح قبة كبيرة عرفت بمشهد أبي حنيفة، وبجواره بنى مدرسة للحنفية، وقد أصاب البناءَ الهدمُ والتغييرُ مرارًا، وجدَّد عمارته السلاطين والولاة العثمانيون.
ثالثاً: جامع الشيخ عبدالقادر الجيلاني:
وفي جامع الشيخ عبدالقادر الجيلاني مرقده وضريحه؛ إذْ يقع قبالة الجامع في غرفة أو مقصورة خاصة به، بحيث ينفصل عن المسجد الضريح والمرقد إذا أقفلت، وفوق القبر قبة شاهقة واسعة مزخرفة ومزوقة، مذهَّبة في غالب أعمدتها من الداخل، وعلى القبر تابوت فخم كما هي العادة في كل القبور والأضرحة ببغداد، وبكل مدن العراق وقراه.
ويقال: إن الذي بنى قبة الشيخ عبدالقادر هو السلطان العثماني سليمان القانوني، كما بنى المرافق المتعددة التابعة لهذا الضريح سنة 981ه.
أما المسجد فغاية في الروعة وجمال الهندسة البنائية، ويقال: إن مكان المسجد والمرقد كان مدرسة بناها الحنبلي أبو سعيد المبارك المخزومي، ثم جددها ووسعها من بعده تلميذه الشيخ عبدالقادر، والذي أقام فيها حلقات الدرس، واعتكف فيها حتى وفاته سنة 561ه – 1165م.
رابعًا: جامع أم الطبول:
وهو جامع حديث مبني بطريقة حديثة، تحيط به المرافق العامة التابعة له، ومسجد جامع للنساء يفتح كل يوم جمعة للمصليات من النساء، وتحيط به مقبرة مشجرة، تسمى مقبرة الشهداء، ويقع هذا الجامع في مدخل شارع المطار الدولي إلى بغداد.
خامسًا: جامع ابن بنية:
وهو جامع يقع تحت قبة كبيرة مزخرفة على الطراز العربي القديم، وعمارته حديثة، ويقال: إن بانيه – وهو تاجر من تجار بغداد – صرف على عمارته نحو مليون دينار عراقي.
والجدير بالذكر أن غالب المساجد ببغداد، أو قل بالعراق، تقع تحت قباب سطحها الداخلي، مغطى – غالبًا – بقطع المرايا البلورية الجميلة، ذات الأشكال الهندسية المختلفة الرائعة، حيث تنعكس عليها أضواء المصابيح والثريات الجميلة، المدلَّاة من أسقف القباب، فتصدر الأضواء الرائعة التي تسرُّ الناظرين، وتأخذ ألباب القادمين، وفي الغالب الأعم تُزيَّن جدران المساجد والقباب بالزخرفة بأسماء الله الحسنى، بالذهب أو بماء الذهب، بعد أن توضع في أشكال لطيفة، ولطيفة جدًا.
سادسًا: جامع الخلفاء:
ووقفت أمام جامع الخلفاء في شارع الجمهورية، عند رأس الشورجة لأزوره، فإذا لافتة مكتوب عليها: الجامع مقفول للعمارة، ولا يفتح إلا في الساعة الحادية عشرة لصلاة الظهر فقط، ويُغْلَقُ بعد انتهاء الصلاة.
ويقال: إن مئذنة هذا الجامع كانت تابعة لجامع القصر، الذي شيده الخليفة المكتفي بالله العباسي 902 – 908ه، وأعاد تشييدها في العهد الالخاني عام 1289م السلطان أبا قاخان ابن هولاكو، ويبلغ ارتفاع المئذنة نحو 32 مترًا، وتمتاز بزخارفها الآجرية، التي تعتبر آية في الفن والدقة، ولها سُلَّمان حلزونيان باتجاهين متعاكسين.
مناطق أثرية:
ثم عرَّج المؤلف بذكر أبرز المناطق الأثرية التي قام بزيارتها، بقوله: زرت في جنوب العراق:
أولًا: كربلاء:
وهي مدينة شهدت أحداثًا كثيرة، كان لها أثرها في مجرى التاريخ الإسلامي، وسكان كربلاء أكثر من (800 ألف نسمة)، وفيها مرقد الحسين بن علي، وأخيه العباس.
ومدينة كربلاء مدينة جميلة – حلوة حلاوة العراق كله – تقع في بقعة من الأرض جميلة، تحفها بساتين الفواكه وأشجار النخيل، وهي على بعد 102 كيلو متر من بغداد.
ثانيًا: الكوفة:
وزرنا ثاني عاصمة عربية أسست في الإسلام – الكوفة –، وهي المدينة التي أسسها سعد بن أبي وقاص في صدر الإسلام سنة 618م، واتخذها الإمام علي عاصمة لخلافته، ولا يزال مسجدها الكبير الكبير قائمًا حتى الآن، بأروقته التي تعيد الحكومة حاليًا عمارتها؛ لتكون في عظمة الماضي وجمال الحاضر، وهي أروقة تحيط بالمسجد، وصحنه مكشوف تتوسطه بركة ماء، يقال: إنه كان يستشفى بمائها، أما اليوم فتعلوها الطحالب، وهي بالمستنقع أشبه.
على أن الجامع يذكِّر بتاريخ حافل بالعلم والفقه والمعرفة، ومأوى المتفقهة المرابطين، وبالقرب من الجامع بيت الامام علي أو قصر الامارة كما يقال.
ثالثًا: النجف:
ومن الكوفة إلى النجف – أو بالأصح من النجف إلى الكوفة – ومدينة النجف الأشرف تقع على بعد ثمانية كيلومترات من الكوفة، وهي مدينة لها قداستها في القلوب، حيث تضم مرقد الإمام علي بن أبي طالب، بقبَّته الذهبية الشامخة، ومنارتيها السامقتين المذهَّبتين.
والنجف مدينة دينية علمية، فيها مدارس دينية عدَّة، يدرس فيها الفقه وأصوله، والتاريخ والأدب، وعلوم اللسان كلها من نحو وصرف وعلوم بلاغة، وتعتبر من المدن المهمة التي يقصدها، ويؤمها الآلاف من الزُّوَّار سنويًا.
وقد تمكَّنَّا من التطواف في أسواق النجف والكوفة، وهي أسواق، منها المكشوف، ومنها المسقوف، وتحتوي على ما يمكن للزائر أن يفرح به أهله، وتلك الأماكن مؤهلة له أكثر من غيرها.
رابعًا: بابل:
وعند منصرفنا من كربلاء مررْنا على آثار مدينة بابل مجتازين المحلة إليها، وبابل تبعد 90 كم جنوب بغداد، و10 كم شمال المحلة.
وبابل من أشهر المدن القديمة، ورد ذكرها في الكتب السماوية، وتفنَّن وتغنَّى الُكَّتاب والرحَّالة بعظمتها، وبجمال أبنيتها وروعتها، وثقافة أبنائها، واعتبرت أسوارها وجنائنها المعلقة من بين عجائب الدنيا السبع.
وبابل نمت من قرية صغيرة ذكرت في العصر الآكدي نحو 2350 ق.م، ثم ترعرعت وتوسعت في زمن سلالة أور الثالثة حتى غدت مدينة كبيرة ومركزًا للآشوريين، وهي عاصمة لأشهر ملوكهم المشرع العظيم والمصلح الاجتماعي حمورابي (1792 – 1750 ق. م).
وفي العهد الكلداني (625 – 538 ق. م) ازدهرت بابل مرة ثانية، واتخذت عاصمة لهم، وقد نالت العناية في عهد ملكهم نبوخذ نصر (605 – 563 ق. م)، الذي أعاد بناء بابل بأسلوب مخطط، روعي فيه تحصينات المدينة، فصارت أوسع وأجمل وأكثر رخاء من أية مدينة أخرى.
وفي بابل ينساب ماء الفرات من الشمال إلى الجنوب، وهي محاطة بخندق وسورين، الخارجي منهما طوله 16 كم والداخلي 8كم، وقد خططت فيها شبكة من الشوارع المستقيمة والعريضة المعبدة بالآجر والقار، ومن أهمها شارع الموكب الذي يمر ببوابة عشتار وينتهي بالبرج المدرج، ويشاهد الزائر – الآن – بقايا ذلك الشارع والبوابة.
ويقع القصر الجنوبي (190× 300م) في الجانب الغربي من شارع الموكب الشارع المهم، ويتألف القصر من خمس بنايات، كل منها وسط مجموعة من الحجرات والصالات، ومن ضمنها قاعة العرش، وتقع بقايا الجنائن المعلقة داخل هذا القصر.
هكذا وصفت المنطقة قديمًا، أما في الوقت الحاضر فمع أن التنقيب جار على قدم وساق بمساعدة هيئة الأمم المتحدة وهيئات عالمية أخرى، فإنه عمل يسير بعناية؛ حتى لا تتأثر الآثار المطمورة بأعمال التنقيب، وآلات الحفر.
وبقايا العصر البابلي القديم اختفت ولا تزال مطمورة، وغالبها تحت مستوى الماء، ويصعب إظهارها رغم إظهار كثير من الحجرات والبنايات، والعثور على بعض الآثار المعروضة الآن في متحف بابل، ومنها رفات ملكة من ملوك بابل، راقدة الآن داخل صندوقها في المتحف بكامل عظامها وأعضائها، باستثناء لحمها ودمها طبعًا.
أما مسرح بابل فواقع على الطريق المؤدِّي إلى مركز بابل، ويرجع تاريخه إلى عصر الاسكندر المقدوني الذي اتخذ بابل عاصمة لإمبراطوريته، وعاش فيها وتوفي (322 ق.م).
خامسًا: سامراء:
وفي يوم 18 مايو 1980م – 3 رجب 1400ه، كنا في طريقنا إلى سامراء، وهي من مدن شمال العراق.
وسامراء تبعد عن مدينة بغداد 124 كم، وهي عاصمة المعتصم التي اختطها في سنة 836م، وامتد عمرانها في عهده وعهد الخلفاء الذين جاءوا من بعده إلى 35 كم، وقد أقام فيها ثمانية خلفاء مدة 56 سنة إلى أن تركها الخليفة المعتمد عام 892م.
وسكان مدينة سامراء في الوقت الحاضر نحو 20000، وهي على الضفة اليسرى من دجلة، وتتبع لواء بغداد، وهي مركز القضاء الذي يسمى باسمها، وفي سامراء الحالية أطلال مدينة سامراء العباسية القديمة.
ثم استطرد المؤلف إلى ذكر بعض الآثار التي قام بزيارتها في هذه المدينة العريقة؛ إذ قال: وسامراء – أو سر من رأى – تزخر بآثار عربية وإسلامية، زرنا منها:
أولًا: بيت الخليفة:
وهو بقايا قصر قديم الآن، يقال: إنه كان يتكون من ثلاثة دواوين كبيرة، وسراديب تحت الأرض متعددة، شيده الخليفة المعتصم، وكان يسمى أيضًا بالجوسق، وهو يطل على بركة ماء يقال إنها احتجزت خصيصاً للقصر تملأ من ماء دجلة.
ثانيًا: الجامع:
وثاني ما زرناه هو جامع الجمعة، وهو الجامع الذي بناه المعتصم، وجدَّد بناءه وتوسعته الخليفة المتوكل، وهو مسجد غير مسقوف، يحيط به سور عال ومتين، وليس له إلا باب واحد، يأتيه من ناحية مئذنته، والمسجد اشتهر بهذه المئذنة المسماة: الملوية، المبنية بشكل حلزوني مدرج, ويبلغ ارتفاعها 52 مترًا على 240 درجة سهلة، وتنتهي في الأعلى بغرفة مستديرة مفتوحة في الوقت الحاضر غير مسقوفة، يقال: إن ارتفاع الغرفة نحو ستة أمتار، وبحمد الله فقد قُدِّر لي أن أصعد المئذنة أنا ونجلي جمال الدين، واستقرَّ بنا المقام في أعلى نقطة من قمتها، حيث أشرفنا منها على كثير من المناطق المحدقة بمدينة سامراء، وهي مناطق تبهج النفس بمرائيها الجميلة الجذابة، وتقابلنا عند هبوطنا من المئذنة بشباب خانتهم قواهم عن الاستمرار في الصعود، فقعدوا في منتصفها، أو عند ثلثها، وكان صعودنا المئذنة غريبا لديهم لدرجة أن أحدهم استوقفنا ليحلفنا بالله أننا صعدنا منها, فأكدنا له ذلك بدون أن نحلف له, والحمد لله على العافية, ونسأله سبحانه العافية, وتمام العافية, ودوام العافية.
ثالثًا: الروضة العسكرية:
وهنا يرقد الإمامان: علي الهادي، وأخوه حسن العسكري، تحت قبة ذهبية، يراها القادم من بعيد بلمعانها وبريقها، فهي ذهبية، ويبلغ محيطها 68م، تقبع أمام منارتين ذهبيتين أيضًا يبلغ ارتفاعهما 36 مترًا.
ولقد كُّنَّا ننوي أن نزور مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، التي تطل عليها منارة جامع الشيخ معروف الكرخي، وهي من المنائر القديمة والمشهورة في بغداد، كما كنا ننوي أن نزور الجامع الذي يضم مرقد الشيخ عمر السهروردي، الشيخ الزاهد شهاب الدين الصوفي المشهور، المتوفى (632 ه– 1225م)، وجامع الشيخ عمر من أقدم جوامع بغداد، ويقوم في منطقة الشيخ عمر جوار الباب الوسطاني.
وبالمناسبة: فإن أبا محفوظ معروف بن فيروز الكرخي مات سنة (200ه)، ولد من أبوين نصرانيين، وأسلم وهو صغير على يدي علي بن موسى الرضا، في إثر قصة جرت له، وهو إمام مؤدِّب الصبيان في بغداد. أما أبو حفص عمر السهروردي فيرجع نسبه إلى أبي بكر الصديق، ولذلك يقال له: البكري، من أهم كتبه: عوارف المعارف، وهو من مواليد (539).
متاحف – أسواق – منتزهات:
هكذا عنون الكاتب لمجموعة من المتاحف والأسواق والمنتزهات التي زارها، من أهمها:
أولًا: المدرسة المستنصرية:
وفي ضحى يوم من الأيام قمنا بزيارة المدرسة المستنصرية، وهي مدرسة بنيت في عهد الخليفة العباسي المستنصر بالله (1226م – 1242م)، وتعدُّ هذه المدرسة أول جامعة في العالم من حيث تنوع مواضيع الدراسة فيها، وقد بقيت زهاء قرنين ونصف قرن موضعًا لتدريس مختلف العلوم والآداب.
أما اليوم فهي معرض – في بعض قاعاتها – لنماذج من الخط العربي، والخرائط الإسلامية القديمة.
وتقع هذه المدرسة في الضفة الشرقية لنهر دجلة، بالقرب من جسر الشهداء، وتعدُّ من الأبنية العباسية المهمة الشاخصة حتى اليوم.
ويقال: إن سردابًا تحت الأرض يوصل المدرسة بالقصر العباسي، الواقع قرب ساحة الميدان بين شارع الرشيد ونهر دجلة، وهو القصر الذي ينسب بعض الباحثين تشييده إلى الخليفة العباسي الناصر لدين الله (1179 – 1225م)، وقيمة هذا القصر تكمن في أنه البناء العباسي الذي ظل محتفظًا بروعة عقوده، ومقرصناته الجميلة، وتفاصيله الزخرفية المتألقة، ويعتبر النموذج المنفرد الذي نقل إلى العالم العربي والاسلامي فن البناء الاسلامي.
ثانيًا: المتحف البغدادي:
وهو متحف لطيف ظريف، يضم تماثيل بالحجم الطبيعي، تمثل مختلف الحرف البغدادية، وبعض المشاهد من التراث البغدادي الأصيل، التي أوشكت على الزوال نتيجة التطورات الصناعية والاجتماعية، فترى في هذا المتحف صورة كتاب فيه التلاميذ ومدرسهم، وتسمع صوت الطلبة آت من بعيد بذلك الشكل البدائي للكتاب، كما تجد المرأة وهي تضع خبزها في التنور، والتنور مسجر أو مسجور بطريقة فنية تشابه تلك الطريقة البدائية، وتنتقل لترى من يقوم بعملية الختان لطفل أمامه، كما لو كان عملًا يعيش في الواقع لا بعملية التمثيل، وهكذا تعيش في جو مليء بالمشاهد والمناظر لمختلف الحرف والصناعا،, وحتى زفات العرس وتربية الأطفال ووسائل كل ذلك.
وفي المتحف أيضًا مكتبة بغدادية، تتضمن كل ما كتب عن بغداد قديماً وحديثاً وبلغات مختلفة، كما في المتحف – وأعتقد أنها عند مدخله – قاعة للصور الفوتوغرافية، واللوحات الفنية، وخرائط تعكس تاريخ بغداد القديمة والتطورات التي مرت بها، إضافة إلى صور وأسماء الشخصيات التي تقلدت مناصب الحكم في مدينة بغداد.
ويقع هذا المتحف في شارع المأمون بالقرب من جسر الشهداء، وتعود إدارته إلى أمانة العاصمة – البلدية – والدوام فيه طيلة أيام الاسبوع.
ثالثًا: المتحف الحربي:
وزرنا المتحف الحربي في كورنيش الأعظمية، ورأينا نماذج من الأسلحة الحربية القديمة، كما شاهدنا قطعًا من السلاح مما غنمه العراقيون في حربهم مع إسرائيل، ومما غنموه من قطع أسلحة روسية في حربهم مع الأكراد، وفيه أنواع مختلفة من الأسلحة التي استعملها الجيش العراقي منذ تأسيسه، مبينة مراحل تطوره ونهوضه.
رابعًا: سوق الشورجة، والسوق الحرة:
وزرنا أسواقًا كثيرة في بغداد، وفي غير بغداد من المدن التي زرناها، ولكن السوق الذي لفت نظرنا هو سوق الشورجة، وهو سوق شعبي في محتوياته، وفي شكله، وفي طريقة العرض فيه، ويعد في بغداد – بل في العراق كله – مركزًا تجاريًا مهمًّا، يزخر بالحركة، ويموج بالنشاط، ومن فروعه المسقفة المتعرجة التي تدفعك دفعًا للتجوال فيها، والتطواف على ما فيها تنبعث رائحة الشاي والقهوة والتوابل والصابون، والروائح العطرية الطبيعية لبعض الأشجار والمعروضات.
أما السوق الحرة فهي سوق للأجانب والمواطنين العائدين من الخارج، ويقع في شارع الرشيد، ويسمح بشراء ما يعادل الثلاثين دينارًا عراقيًا، بشرط أن يكون بعملة أجنبية، وبشرط ثان هو أن يتم ذلك خلال أسبوع من دخول الزائر أو عودة المواطن إلى القطر، وهو سوق يجمع أنواعًا كثيرة من الأشياء النادرة، وبأسعار مناسبة.
خامسًا: منتزه الزوراء:
زرنا هذا المنتزه أكثر من مرة، حيث إن هذا المنتزه الرحب الفسيح الذي تبلغ مساحته 1200 دونم، يضم منشآت متنوعة للتسلية واللهو البريء، ففيه ملاعب للأطفال، وحديقة حيوانات، ومعارض، ومسرح صيفي، ونصب وتماثيل، وبرك ونافورات، وحدائق متنوعة، وقاطرات وقوارب مائية، وبحيرات وبرك، ومسبح، ومطاعم وكازينوهات، فيه متعة الطفل، وفيه لهو الكبير، وفيه التاريخ في نصبه وتماثيله ولوحاته.
ولقد تناولنا طعام الغداء في بعض الأيام فيه صحبة الأسرة كلها؛ إذ قضينا اليوم كُلَّه هناك.
سادسًا: مدينة الألعاب:
وهذه تكررت زيارتنا لها مع الأطفال؛ بناء على رغبتهم وإصرارهم، وتقع هذه المدينة على بحيرة اصطناعية رائقة في شارع القناة، ويقال: إنها الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط؛ لسعتها وجمالها، وتنوع وسائل اللهو والمرح فيها للصغار والكبار على السواء، على إن أكثر روادها هم من الأجانب، أو النساء أو الأطفال فيما شاهدنا، وتنتشر فيها الكازينوهات والمطاعم والأكشا،, وعلى سطح البحيرة تتهادى الزوارق المزينة بصور الحيوانات، والحاملة لفرق الرقص والطرب، وهي تحمل المتفرجين هنا وهناك بأزهد الأثما،, ويوجد بها مسرح دائم, ولعب معلقة، ولعب هادئة، ولعب عنيفة، وفيها….، وفيها…إلخ.
سابعًا: شارع أبي نواس:
وزرنا – شارع أبي نواس – ورأينا تمثاله وبيده الفاس، كما رأينا بالقرب من مرسى الزوارق نصب شهرزاد، وهي تروي – عن طريق الأسطوانة المسجلة بداخلها قصص ألف ليلة وليلة – ويقف تمثالها الرشيق منحنيًا بعض الشيء ليضيف السحر والجمال للتمثال، وعلى صاحبة التمثال.
وهذا الشارع يقع بامتداد نهر دجلة العظيم بين جسري الجمهورية، و14 تموز، وقد سمي هذا الشارع باسم أبي نواس تخليدًا لذكرى الشاعر العباسي الكبير، ونديم الخليفة هارون الرشيد، والشهير بشاعر الأنس والمرح، يوم كانت بغداد تثير السحر – إن صح ما يقال-بالأذهان، ويقصدها عشاق الأدب والفن من كل مكان.
والشارع كله متعة: توزيع أنواره، تماثيله، أشجاره، مظلاته، …إلخ، …إلخ، وبحق فإنه يعتبر كورنيش بغداد الرئيس، والشارع السياحي المهم في بغداد.
وأخيراً أرجأ الكاتب – عليه رحمة الله – الحديث عن بغداد في أواخر صفحات الكتاب؛ ليجعل لها الحيز الأكبر من الكتابة، كيف لا؟ وهي عاصمة الجمهورية العراقية، وهي حاضرة الخلافة العباسية، وهي أصل عنوان الكتاب (كنت في بغداد)، فلا غرو ولا عجب أن يجعل لها المؤلف حيِّزًا أوسع، وصفحات أطول، فلنقرأ معه ما خطه قلمه، وهو يتحدث إلينا قائلًا:
بغداد عاصمة الجمهورية العراقية، وتقع على جانبي نهر دجلة، حيث الضفة اليمنى وتسمى الكرخ، والضفة اليسرى وتسمى الرصافة، وترتبط الضفتان بجسور عدَّة حديثة، ويخترق كل شطر شوارع عدَّة رئيسة، أهمها في الرصافة: شارع الرشيد، ويمتد في قلب بغداد من باب المعظم وحتى الباب الشرقي، وعلى جانبي الشارع تقع معظم أسواق بغداد القديمة، وبموازاة هذا الشارع يقع شارع الجمهورية، وفيه عدد من الدوائر الرسمية والجوامع والكنائس الأثرية، وشارع السعدون الذي يبدأ من ساحة التحرير وينتهي بمنطقة المسبح، وفيه تقع معظم فنادق الدرجة الأولى والسينمات، ومكاتب شركات الطيران، ووكالات السفر.
ويعد شارع دمشق من أهم شوارع الكرخ، ويمتد من ساحة دمشق حتى شارع المطار الدولي، ويقع فيه معرض بغداد الدولي، ومحطة القطار العالمية، ومنتزه الزوراء، والسوق الحرة، وتقع في جانبيه عدد من الوزارات والسفارات والمؤسسات العامة.
وبغداد تجمع بين أناقة الجديد وطرافته، ومهابة القديم وروعته، ففي البناء: العمارات الشاهقة ذات الأدوار المتعددة، إلى جانب المباني المتواضعة ذات الطراز القديم المهيب، إلى جانب الأسواق البغدادية القديمة المسقفة، ذات البضائع المتنوعة الغريبة المحتويات، المعروضة بأشكال ملفتة قديمة وحديثة، وأسواق هي بقايا ماض حافل بالأمجاد، يضفي على بغداد فتنة وسحرًا، إلى جانب مكتبات عامرة بالكتب المعروضة للبيع، تجدها في معارض متراصَّة، وتجدها في أماكن متفرقة.
وفي بغداد أشتات وألوان من الناس والعادات والأزياء، فالزي الأوربي إلى جانب الزي العربي المهيب بكوفيته وعقاله، والزي الكردي بألوانه وأشكاله…الخ.
وبغداد الحاضرة هي التي بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور سنة 145ه – 762م، غربي نهر دجلة، واشتهرت بتخطيطها الدائري، الذي عُدَّ نموذجًا أمثل لفن تخطيط المدن، وقد اعتبرت بحق من مفاخر العرب الكبرى في مجال العمارة والتخطيط، ثم امتد عمرانها في عهده إلى الضفة الشرقية، وبلغت الذروة في عهد الخليفة هارون الرشيد، ثم أخذ الخلفاء والأمراء العباسيون يتسابقون في إعمارها، فازدهرت بقصورها الفخمة، ومبانيها الشاهقة، ورياضها الغناء.
وبغداد مركز تجاري عظيم لا ينافسه عليه منافس، وبقيت مركزًا مُهِمًّا للعالم الإسلامي لقرون عدَّة، وتحيط بها البساتين والحدائق، وهي بالإضافة إلى ذلك موطن لعدد من العلماء والمفكرين والفنانين، وتمتعت بمركز مالي مهم، واشتهرت بمنتجاتها، وخلدتها في العالم العربي قصص ألف ليلة وليلة، ثم ضعف شأن بغداد بعد انتقال مقر الخلافة العباسية منها إلى سامراء، ولكن ما لبث أن عاد إليها مقر الخلافة، ثم جاءت فترة ركود بسبب الصراع الداخلي في الدولة العباسية، وتعرضت المدينة لغزو المغول (1258)، فدمرت معالمها الرئيسة ومكتباتها ودور العلم بها، ثم بدأت تسترجع مكانتها، ولكنها دمرت ثانية من قبل تيمور لنك (1400م)، وغزاها الشاه إسماعيل الصفوي (1508م)، ومرت فترة تناوب فيها الفرس والأتراك حكم بغداد، وكان تعدادها حينذاك 1400نسمة، ولم يبق من آثارها وثرواتها إلا القليل، واحتلتها القوات البريطانية عام 1917، وصارت عاصمة المملكة العراقية 1921، وهي أهم مركز تجاري وثقافي في العراق، يبلغ ارتفاعها فوق سطح البحر 32م، وكانت تعرف بأسماء كثيرة، منها:
مدينة المنصور، ومدينة الخلفاء، والزوراء، والمدينة المدورة، ومدينة السلام، ويبلغ سكانها اليوم نحو ثلاثة ملايين نسمة، ومساحتها اليوم أكثر من 850كم2، أي: إنها تقرب من ثلاثين كم طولًا، وثلاثين كم عرضًا.
وبغداد أيضًا عاصمة العراق الحديث الذي حصل على استقلاله في عام 1932، إذْ ألغي عنه الانتداب، ودخل عصبة الأمم.
وفي فجر الرابع عشر من تموز 1958م شبت الثورة، وألغي النظام الملكي، وأعلنت الجمهورية.
وفي الثامن من فبراير 1963م تولى حزب البعث العربي حكم العراق، وأنهى حكومة عبدالكريم قاسم وحكمه، ولكن الحكم بصورة أو بأخرى انتزع من البعثيين، ليعود إليهم ويستمر فيهم إلى اليوم في السابع عشر من تموز 1968، ورسخ حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق مكانة العراق القومية.
ثم تحدث الكاتب – رحمه الله – عن حزب البعث ومتى تأسس، وما هي فكرته، بشيء من الاختصار، ناقلاً عن بعض الموسوعات التي تحدثت عن ذلك، وتحدث عن صدام حسين (رئيس الجمهورية العراقية)، ثم تحدث عن العراق بشكل عام، وأحوالها السياسية في ذلك العهد، وأخيرًا تحدث عن أحوال العالم العربي، وأنه مفكَّك الأوصال، ونحن قد لخصنا هنا ما يخص مقالتنا هذه، وهو مشاهدات المؤلف في بغداد والمدن التي زارها بشيء من الاختصار الذي لا يخلُّ، مع الاحتفاظ بنص المؤلف.
ويختتم الشيخ كتابه بهذه الكلمات: وعدت لبغداد مرة ومرة، كان آخر هذه الزيارات، أو المرات من الزيارات في صفر 1410ه – سبتمبر 1989م مع الأهل، بعد أن كنت قبلها بعام في بغداد مع ابني زكري، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بين العراق وإيران مباشرة، وصار لي في بغداد أصدقاء وأصحاب أشتاق لهم كلما بعد العهد.
14/ 5/ 1410ه – 12/ 12/ 1989م.