كتابات
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 26 .. ص 65
رابط العدد 26 : اضغط هنا
اتسعت حركة الهجرة الحضرمية في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين؛ وذلك لغياب الدولة ذات الشوكة القوية، وشيوع الفوضى القبلية، ولموقعها الجغرافي في مناطق ظل المطر، وهناك عوامل أخرى مساعدة، وقد شكلت هذه الهجرة أهم مرتكزات الاقتصاد الوطني، لهذا صدّرت حضرموت أغلى ما عندها، وهم شبابها الذين وصلوا إلى أدغال أفريقيا وأقصى شرقي آسيا، وبما يشبه الدورة الكاملة جرت (هجرة عكسية) في شكل حركة للمال من مواطن الهجرة إلى وطن المهاجرين، وهي في جوهرها ارتداد لعرقهم ودمائهم وكدحهم، وبهذا أوجدت الهجرة ثنائية تلازمية شبه مستمرة، مضت مع الزمان في غير صالح بلادهم، وهي: (الشباب مقابل الغذاء)، فتحوَّلتْ حضرموت مع مرور الزمن إلى الوطن العبء؛ إذ عاش قسم من أهلها ليأكلوا، لا يأكلوا من أجل أن يعيشوا وينهضوا، وهذه الحركة العكسية سنشير إليها في هذا المقال، وسنتجنَّب الحديث عن ظاهرة الهجرة؛ بوصفها دراما إنسانية، أو قصة نجاحات وإخفاقات.
وحتى نكون أكثر دقة في تتبع (الهجرة العكسية) نجد من الأهمية بمكان تقسيم حضرموت على مفهومَيْنِ اقتصاديَيْنِ كبيريْنِ، هما: (حضرموت الفقيرة)، و(حضرموت الغنيَّة)، أو بصيغة أخرى حضرموت ما قبل اكتشاف النفط، وحضرموت ما بعد تدفق النفط من باطن أرضها، وهي مرحلة من حيث الانتقال مرت بها بلدان الجزيرة العربية، لكنْ شتَّانَ بين تحوُّلات حضرموت التنموية وتحولات حضرموت الغنيَّة (نظريًّا) الفقيرة قبل ظهور النفط، المتسوِّلة بعده.
في مرحلة حضرموت الفقيرة، ومع ازدياد حركة الملاحة البحرية تسارعت حركة المال المهجري، الذي يصلها في صورة حوالات للدعم الأسري، أو أموال وقفيَّة (صدقات لمساجد، وآبار، وسقايات)، أو مشاريع سياسية، أو مشاريع تنموية، وهذه الحركة المالية لا تزال تفعل فعلها في المجتمع الحضرمي.
وأسهم المال المهجري المخصَّص للدعم الأسري في إطعام قسم كبير ممن بَقَـوْا في الوطن – خاصة في القرى والأرياف -، ورغم أهمية المال المهجري في حياة السكان، فإنه خلق جيلًا خاملًا واتكاليًا، لا يقدِّس العمل؛ بوصفه قيمة مجتمعية حيوية، لهذا أُهْمِلَتِ الزراعة، واعتمد الناس في حد بعيد على ما تحمله السفن القادمة من وراء البحار من طعام وأموال، وبعد أن تضع السفن أثقالها تعود دورتها الأولى.
والنوع الآخر من هجرة الحضارمة هي العكسية، وصلها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ بغرض تغيير الخريطة السياسية لصالح طامحين، نافسوا على الحكم. ونقطة الانطلاق لهذه الحركة كانت من منطقة حيدر أباد بالهند؛ إذ تمكَّن بعض المهاجرين من تجميع ثروات هائلة، شجَّعتْهم على المغامرة؛ ليكوّنوا لأنفسهم كيانات سياسية، فآلُ كثيرٍ سَعَوْا بقيادة السلطان غالب بن محسن الكثيري، وبمساندة (سادة) حضرموت؛ لإعادة مجدهم التاريخي القديم ، والجمعدار عمر بن عوض القعيطي تطلَّع لتأسيس سلطنة في حضرموت، ولو على حساب الكيانات اليافعية القائمة، وحاول الجمعدار عبدالله بن علي العولقي أنْ يُدلي بدلوه وسط المتنافسين الجُدُد، وبعد الحرب العالمية الأولى حاول الثَّرِيُّ عمر عبيد بن عبدات الكثيري انطلاقًا من جزيرة بتافيا (جاكرتا) تأسيس سلطنة، قاعدتها مدينة الغُرْفَة، فشهدتْ حضرموت موجةً من الصراع الدَّمويِّ، المُغَذَّى بالمال المهجري، وبعيدًا عن مآسي الحروب فإنَّ لهذه الهجرة العكسية مكاسب سياسية؛ فقد نتج منها اختفاء الكيانات القبلية الصغيرة، وظهور سلطنتين، هما: الكثيرية، والقعيطية.
وبموجب معاهدة عدن 1918م بين سلطنتي حضرموت برعاية السلطات الاستعمارية في عدن دخلت السلطنة الكثيرية ضمنًا في نظام الحماية البريطانية، وكان القعيطيون قد سبقوهم إلى ذلك في عام 1888م، وبموجب نظام الحماية صار البريطانيون المرجعية العليا لهما، وتحول الحضارمة إلى رعايا بريطانيين حيثما حطوا رحالهم في مناطق نفوذ الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس كما يقولون.
في مرحلة (الصداقة الحضرمية البريطانية) تيسَّرت السبل للهجرة العكسية لغرض التنمية، ففيها تمكَّنَ الأثرياءُ الحضارمة من إدخال أموالهم إلى بلادهم بأمان، وبنَوا القصور الفارهة، التي سبقت في فخامتها العمارة في بلدان جزيرة العرب قبل ظهور عصر النفط فيها، وحظيت مدينتا سيئون وتريم ببروز أهم الأسر الحضرمية الثرية، ولاسيما آل الكاف، الذين كان لهم دور كبير في دعم التعليم، وتعبيد الطرقات، ومساعدة الفقراء، وفي إحلال السلام العام في حضرموت، وغيرها، وعلينا هنا أن نذكر بإجلال دور السيد أبي بكر بن شيخ الكاف، الذي كان عَلَامةً بارزة في الإسهام المجتمعي التنموي في حضرموت في النصف الأول من القرن العشرين، ومهما كانت محدودية الإسهامات الأسرية، وعفوية تنظيمها، وتشتُّت مساراتها ، فإنَّها استقرت لخدمة الصالح العام.
إنَّ خطَّ الهجرة الحضرميَّة إلى الشرق والشرق الأقصى قد انقطعَ بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ تغيرت وجهة الطيور الحضرمية المهاجرة إلى الجزيرة العربية، التي كانت على موعد لدخول مرحلة عصر النفط، وتصدُّر أسماء رجال من بعض الأسر الدوعنية قائمةَ كبار الأثرياء، بمعنى آخر تغير مركز الثقل المالي من شرقي حضرموت إلى غربيها، واستمرت حركة المال الحضرمي في شكل دعم أسري، وصدقات، وأوقاف، وخدمات مجتمعية، وفي العموم شهدت ستينيات القرن العشرين حالة من الانتعاش؛ فالهجرة في بلاد العرب لبّتْ متطلبات الشباب في البحث عن محطة نجاح، وفرص طموح. ثم إن الجوار الجغرافي، وتقارب العادات العربية والثقافة شجَّع الحضارمة تدريجيًا ـ وأسباب أخرى ـ على اتخاذ (المهجر العربي) موطنًا بديلًا، وهنا تضاءلت الحاجة الأسرية إلى الهجرة العكسية، وغلب عليها في بعض أبعادها كلمات الحنين، وآهات الاشتياق، مع مطاردة حلم في العودة، لطالما تمنَّوا في أعماقهم أن يكون بينهم وبينه بُعْدُ المشرقين.
لكنَّ التحوُّلَ الكبير في الثراء الحضرمي ولا سيما في المملكة العربية السعودية جاء بعد ما سُمِّي بطفرة النفط في منتصف سبعينيات القرن العشرين، ولأن معظم الأثرياء الحضارمة صاروا مواطنين سعوديين، فلم يخرجوا من سياسة (وطنهم المهجري) تجاه وطن أجدادهم (الاشتراكي) في حالات ارتباك العلاقات بينهما؛ لكن هناك مشاريع خيرية تمكنت من توصيل المياه للأهالي في الأرياف المحرومة (مشاريع بغلف)، أمَّا الدولة الجنوبية (الاشتراكية) فقد دخلت في حالة حرب أيديولوجية مفتوحة مع (الرأسمالية) في كل مكان من العالم، لهذا حكم ساستها باستراتيجية أن يبقى الشعب كادحًا إلى ربِّهِ كدحًا إلى أن يلاقيه.
في أواخر القرن العشرين، وبداية الألفية الثالثة؛ استمرت الهجرة العكسية بكيفيات جديدة، تختلف عما كانت عليه سائدة في النصف الأول من القرن العشرين، فقد أخذت طريقها إلى العمل المؤسسي، تحت مسمَّيات عامة، مثل: (مؤسسة حضرموت للتنمية البشرية)، و(مؤسسة العون للتنمية)، و(مؤسسة صلة) وغيرها، وبعضها اتخذ مسميات مناطقية (وديان)، أو مسمَّيات قبلية (مؤسسة نهد)، ومع بعض التحفظات على هذه المسمَّيات، فإن هذه المؤسسات كُلَّها أسهمت في دعم مشاريع الصحة، والتعليم، والخدمة المجتمعية، ومن هذه المؤسسات برزت شخصياتٌ، مثَّلت الواجهة الديناميكية للأسماء الداعمة، منهم المهندس عبدالله أحمد بقشان، فأتاح حضوره اللافت مجالًا للمقاربة (التنموية) بينه وبين السيد أبي بكر بن شيخ الكاف، الذي لمع اسمُه في النصف الأول من القرن العشرين – كما ذكرنا -، وتاريخيًا لا مجال للمقارنة بينهما؛ فكل منهما تحرَّك بحسب ظروف عصره، ثم إنَّ مؤسسة حضرموت للتنمية البشرية، التي يرأسها المهندس بقشان لا تزال في بداية عطائها، لكن المعادل الموضوعي بينهما أنهما تطلَّعا لإحداث تطور لصالح المجتمع الحضرمي.
وما لم يكن في الحسبان فإن هذه الهجرة العكسية (المؤسساتية) جعلت النظام المركزي في صنعاء يتراخى عن مسؤولياته تجاه مشاريع التنمية في حضرموت إلى حد الإهمال تحت حجة أنها مُسْتَـنَدَةٌ إلى تُجَّارها، فعلى سبيل المثال – والأمثلة كثيرة – صدر قرار تأسيس جامعتي حضرموت وذمار في وقت واحد، لكن على الفرضية المركزية السابقة تجاه حضرموت استكملت الدولة المركزية بناء الكثير من منشئات جامعة ذمار وكلِّيَّاتها، ولمْ تحرِّكْ ساكنًا تجاه جامعة حضرموت!!
وفي هذه الأيام تسجل الموانئ الحضرمية نصًّا تراجيديًّا غرائبيًّا؛ ففي حين تغادر سفنُ النفطِ الموانئَ، وقد حُمِّلت بملايين البراميل من نفطها، ترسو في الآن ذاته سفن الصدقات (الشقيقة) المحمَّلة بالوقود؛ لتنير شطرًا من ليل مدنها المظلم الطويل!
وهكذا تستمرُّ حكايات حضرموت الفقيرة، جيلًا بعد جيل، يغادرها أغلى ما فيها، ثم تنتظر..