كتابات
غالب صالح الحامد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 26 .. ص 72
رابط العدد 26 : اضغط هنا
*رهبة الجمال استرقتني*
هي أغنية قام بتلحينها وغنائها الفنان أبوبكر سالم بلفقيه، وتناقلها الفنانون باليمن والجزيرة وغيرها. البعض اعتقد أن تلك الكلمات من الشعر القديم فتم التمويل بها، البعض لا يعرف ما المقصود بثمل الجفون، والجميع لم يكن على دراية بالمكان الذي قيلت فيه الكلمات ومتى؟ ولماذا؟ ومن قائلها؟
الشاعر صالح بن علي الحامد الرومانسي المعروف، كان في مقتبل العمر شابًا، كاد يعطف على الثلاثين، مغترًّا بشبابه، أبهرته الطبيعة الجذَّابة الأخّاذة لجاوة الجميلة، وسحرته بجمالها، فكتب رحلتي إلى جاوة الجميلة، وله من الأشعار والأغاني فيها:
*لا تلوموني إذا مجّدتها*
*أن لي بين رباها الخضر شانا*
*لي من تلك المجالي والرؤى*
*ملهم يلهم روحي والجنانا *
*كيف ننسى رحما ما بيننا*
*ودماء تتمشى في دمانا *
*حي إندونيسيا يا قلمي*
*وأروها عني أشعاري الحسانا*
تمنّى الحامد أن لا يغادر جاوة، وصف خروجه منها مجبرًا وعودته إلى مسقط رأسه سيئون كخروج سيدنا آدم من الجنة قائلًا:
(آدم أسوتي أصختُ لأبليس فودّعتُ جنتي وهنايا)
ذلك الشاب السيئوني الوقور، الحضرمي المنشأ والثقافة الدينية المحافظة، ابن الأسرة الثرية، وجد نفسه فجأة في مجتمع سنقافورا، أديبًا وشاعرًا، ذا باع طويل بالصحافة العربية المصرية وبالمهجر الإندونيسي، قياديًا بالنادي العربي السنقافوري، ذا جاه ونشاط اجتماعي وديني، منفتحًا في علاقاته، شغوفًا بمعرفة الجديد، ولم تكن طبيعة جاوا الخلَّابة وحدها هي من استرعت وسحرت لبّه، فإذا به في حفل سنقافوري، غريبًا على ما اعتاد عليه، تكريمًا للأستاذ والشخصية المشهورة عربيًا وآسيويًا السيد إبراهيم بن عمر السقاف الحائز على درجة (gv) من الحكومة السنغافورية، وهو لقب تقديري أعطي للسيد عبدالرحمن بن شيخ الكاف؛ لجهودهم في بناء سنغافورة. إبراهيم بن عمر السقاف أديب وسياسي ثري، متأثر بنمط الشخصية الإنجليزية، من كبار أثرياء سنغافورة، أسهم في نهضتها، وله أموال بمصر، ينحدر من العائلة التي كانت تمتلك قصر الملك بمكة (قصر السقاف)، وله صلات بالعراق حينها، وابتهاجًا بحدث التكريم أقام السيد أحمد محمد السقاف (فنيدي) حفلًا خاصًّا بتلك المناسبة (١١ يوليو ١٩٣٦) .
تختلف حياة المجتمع السنقافوري عن المجتمع الإندونيسي وعن الحياة بحضرموت، لقد أُبهِر الحامد بالحفل، بما رأى من تعدُّد الجنس والجنسيات، والشخصيات الأجنبية، ولغتا الحفل الإنجليزية والعربية. فقال في مفكرة له واصفًا ما شاهد: ((لقد طَلب منّي أحمد بن محمد السقاف الوقوف والتحدث، كلمة شكر وترحيب بالضيوف عن الجالية العربية بسنغافورة ولو قصيرة وكلفني ذلك، وكانت الحفلة تضم أكثر أعيان سنغافورا بل صفوتهم كلها، وفجأة!! دخل صف من الجمال، واستدار حول طرابيزة واحدة، وكانت العيون الساحرة تبث الشِعر والسِحر حول الحفل، والنسيم يغنِّي على أوراق الغصون والبحر يعزف بأمواجه. قام السيد أحمد محمد صاحب الدعوة بخطبتين بالعربية والإنجليزية، وقام المحتفل به بخطبتين، وطَلب مني السيد أحمد أن أقوم، فقمت بكلمتي، ولم تكن كما نظمتها؛ لأنها أوَّلًا كانت قد سبقت خُطبة الإنجليزي، ولأن رَهبَة الجمال استرقتني بمعانٍ شعرية أخرى، لا تناسب المقام، ثم قام الإنجليزي، وكان رئيس تحرير بعض الصحف، ثم سكت الناس، ومكثْنا نتمتَّع بالحسن، ثَمِلَيْنِ بما تبعثه للقلوب تلك الألحاظ الساحرة)). وانفض الحفل، وذهب الجميع. وذهب الحامد مسحورًا مبهورًا بما شاهد وقد سحرته عيون بعينها، قتلننا ولم يحيين قتلانا، فشاعرٌ كالحامد معروف بعاطفيته المرهفة ومشاعره الحساسة، سريع التأثر، بكل جميل، هو القائل:
قدك ياشادي ورفقًا ياوتر لست فولاذًا ولا قلبي حجر
(لست إلا شاعرًا تهفو به نوب الشوق وأحلام الذكر)
(رأفة بالقلب لا تعبث به ولك السمع حلال والبصر).
لم يكتم الحامد ما أصابه من لواحظ تلك العيون، وإعجابه بثمالة تلك الجفون بين أصحابه الشباب، وعبّر عن تلك المشاعر شعرًا. فأتاه الأستاذ إبراهيم السقاف قاصدًا مستفسرًا فرحًا لمَّا سمع عن ما أصاب الحامد من سهام لواحظ تلك الأرمنية الجميلة، فأسمعه الكلمات التي قالها، فأُعجب بها كثيرًا، ورَجَاهُ أن يعطيه المقطوعة الشعرية (الكلمات الشعرية التي سمع أنه قالها في تلك الأرمنية الجميلة (فينج)، واعدًا إيَّاه أنه سيسلِّمه إياها مترجمةً إلى الإنجليزية. وهذا ما حصل، اطلّعت تلك الفتاة الجميلة على ما قيل تغزُّلًا فيها، وقد جن جنون تلك الفتاة، وكانت تصرخ فرحًا قائلة: (انهُ لِفُرط جمالي صار الشاعر العربي يتغزَّل فيه). فاشتهرت تلك الحادثة بين الأوساط العربية بسنقافورا، وتناقلتها الألسن إعجابًا.
أيا ثَمِلَ الجفون بغير سُكرٍ ! ألا تدري بطرفِك ما جناهُ ؟
بقلبٍ لا يلينُ صَفَاه لكن لهذا السّحر ما قَوِيَتْ قُواهُ
فهل من عاصمٍ من بطش لحظٍ إذا لم يغزُهُ قلبي غزاهُ
نزلت من السماء سنًى وسحرًا لكي تغزو ابن اّدم في ثراهُ …الخ
لقد طوت يد النسيان تلك الحكاية، ولفّت بشيء من الكتمان، وما بين جاهل لها، وجاعل من الحياء عنوانًا. إلى أن قام الفنان المرحوم أبوبكر سالم بلفقيه بنبشها، وتلحينها وغنائها، بعد أن قرأ فيها بِحَدسه الشعري والفنّي ما لا يقرؤه الكثيرون. دون علمه بتفاصيل الموقف واللحظات والأشخاص التي تسببت في إجبار الشاعر على التخلي عن حيائه المعهود وإطلاق العنان لشاعريته للتعبير عن ما جاش في صدره من معاناة نتيجة ما أصابه من أسهم تلك العيون الثملة دون سكر، مخاطبًا إياها: أيا ثمل الجفون بغير سُكرٍ! ألا تدرين بطرفك ما جَنَاهُ! مناشدًا إياها أن ترفق بالمتيَّم، حتى لا يموت بعد أن سحرته بجمالها. وهزمت القلب الذي لم تلن قواه ولم يستسلم إلا لسحر عينيها. وأصبح سحرها يجري في دمائه كتيار الكهرباء، فلم يجد في الطبيب له علاجًا بعد أن جرحتْه تلك اللواحظ الثملة، مخاطبًا إياها: من أين قدمتي! أمن السماء أتيتي غازية! حتى يكون ضحية لها. دون ذنب اقترفه أو جناه، فهي هي الجانية، وطرفها هو الأداة، والشاعر هو الضحية. لقد فشل الطبيب، فهل أنتِ تدرين بذلك! هل تتركينه يموت احتراقًا، أو تعطفين عليه وتطفئين ذلك الاحتراق بتلاصق الجوانح والشفاه. وبعد أن بدا لنا اكتمال الصورة الشعرية لتلك الواقعة إلا أن صالح الحامد ذا الثقافة والمنشأ الحضرمي المحافظ، عادة ما يعود للالتفاف على ما قاله ويتراجع عنه؛ إذ وازع الثقافة الدينية المحافظة الذي يعيق ويردع الخروج عن ما يرونه خروجًا عن المألوف. كما قال ذلك الدكتور عبدالقادر باعيسى عن شخصية الحامد التي جمعت بين الرومانسية والشخصية الدينية المحافظة؛ فهو القائل في كتاب رحلتي إلى جاوه ((إن البعض يعتقد اعتقادًا جازمًا أنّ الحب والإعجاب بالجمال ليس سوى ذلك الميل الجنسي المتجاذب بين الذكر والأنثى، ولا علاقة له بالروح، وهؤلاء يعتبرون غير مفرِّقين بين الحب الإنساني والميل الحيواني بأي فرق))، وأوضح الحامد موقفه مما يقول المشككو،ن فقال:
(الله يعلم ما هممت بريبةٍ ولتذهب الغوغاء في تهماتها)
(والحب مورده الزواج فان صفا فالخير عندك والسعادة أجمع ُ)
وقال في قصيدة غنائية شعبية له:
(ردنا العقل يوم العقل حنبه وأن قد العقل مانع غير نبقى في العشقه مجانين)
في حين أقيم الحفل الرسمي بتلك المناسبة في ١٥ أغسطس ١٩٣٦م بالنادي العربي السنقافوري تكريمًا للسيد إبراهيم بن السقاف؛ لحصوله على لقب (جي في). كان من بين الحضور السيد العلامة والمؤرخ مفتي جهور علوي بن طاهر الحداد وأولاده ورئيس البلدية ونائب سكرتير المستعمرات، ونائب وزارة جهور والكابتن هاشم والأعيان والمحامون وصفوة المجتمع وأُلقيت الكلمات من قبل محمد بن حسن بن شهاب باسم النادي العربي والمحتفل به، وألقى الحامد قصيدته بالمناسبة.
ونالت قبول الجميع بما فيهم الإنجليز. ومن القصيدة :
هلمَّ فذا الأصيلُ زهاء سناهُ وهذا الحسنُ ماثلةٌ رباهُ
علمتك ماجداً حتى التقينا رايتك فوق ما لراوي رواهُ
وقام الكابتن هاشم فشكر العرب، وذكر أنهم هم من أدخلوا الدين الإسلامي إلى الملايو، وأثنى على قصيدة الحامد، وكذا رئيس البلدية تحدث وشكر الجميع وأثنى على قصيدة الحامد. لم نعرف ما إذا كانت ثملة الجفون من بين الحضور؛ إذ لبس الحامد الكرفتَّة لأول مرة في حياته. وفي ١٥ سبتمبر ١٩٣٦م أخذ الحامد القصيدتين، مقطوعة ثمل الجفون وقصيدته في السيد إبراهيم بن عمر السقاف والتي نشرت بالصحف العربية. لإرسالهما للأستاذ علي باعبود بالقاهرة لإلحاقها بديوانه الأول نسمات الربيع، الذي كان تحت الطبع بمصر، وفي طريقه للبريد الطيار شاهد من تَهم بالطلوع لأحد الباصات فإذا بها ثملة الجفون (فينج). فكانت وجهته غير وجهتها.