إبداع
سالم محمد بجود باراس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 26 .. ص 108
رابط العدد 26 : اضغط هنا
كان عدنان يحب ملاك حبًّا لايضاهيه عشق وغرام، ولكن أباها وقف عائقًا أمام هذا الحب والعشق. حاول عدنان بكل الطرق أنْ يرقِّق قلب أبيها، ولكن كل محاولاته باءت بالفشل الذريع. لقد كان الفقر هو الحاجز المخيف الذي كسر حبه وغرامه، وكانت ملاك تعشقه وتبادله الشعور نفسه والإحساس. ذهب عدنان إلى صديقه عمر ليضمِّد جراحه، ويحكي له سبب هذا الجفاء والغلظة من والد ملاك.
قصتك يا عدنان تذكِّرني بقصة تحكيها لي جدتي، عن العشق والحب الصادق، ولكن نهايتها مأساوية؟
الماء والخضرة والوجه الحسن، يا سبحان من رسم وصور هذا الجمال والبهاء، كانت برفقة أمها، ثم ذهبت الفتاة، لم يستطع مقاومة حبه وعشقه، فتبعها حتى عرف بيتها، كانت تسترق النظر إليه وهو يتبعها، ودَّتْ أن تخاطبه، وتقول له: ارجع لا تهلكنا بتهوُّرك ؟!!
ولكنَّ الرجل ظل يتبعها حتى سدَّة بيتها، فغابت واختفت في ذلك السرداب، حيث انطفأ ذلك النور الذي سلب عقله وفكره …
لابد أنها في وسطهن، وقد فهمت الرسال، وستنتظرني في الوقت المحدَّد والمكان المعلوم ؟
وكان حدسه صحيحًا، فقد فهمت الشعر، وعرفت المقصود.
كانت جدتي تسرد عليَّ أشعاره، ولكني نسيتها كلها، كانت – رحمها الله – تحفظ الشعر، ولها ذاكرة قوية، ولكن زبدة الخلاصة أنه قال لها :
سأعود إليكم، ووعدنا بعد عشرة أيام في بيتكم، ووعد الحر دين.
وبعد عشرة أيام عاد الرجل، ومعه جمل له محمل بضاعة، فدق الباب ففتح له صاحب الدار، فقال له:
ضيف غريب يودُّ الضيافة لثلاثة أيام، حتى أقضي بعض شأني هنا ؟!
فرحَّب به صاحب الدار، فإكرام الضيف من شيمة العرب.
كانت الفتاة تسترق السمع، وعرفت الرجل، وفي ظلمة الليل الحالك نام الجميع، إلا الشمس والقمر، فتسلل الضيف إلى الدرج، فوجد الفتاة ترتعش خوفًا ورعبًا وقالت: يا رجل لقد فهمت شعرك ووصلت رسالتك، من أنت وكيف غزا قلبك قلب فتاة مثلي من نظرة ؟!
اسمي سعد . وأنتِ يا الوجه الحسن ؟
فقالت : سلمى .
كان سعد يغوص في حلم جميل، كيف سيصل لسلمى؟ وكيف سيكلم أباها؟ وهو غريب؟
فلاحت له فكرة ليكسب وُدَّ أبيها ، فأخرج الحطب من على بعيره وأهداه لأبيها وقال له:
سأعود بعد غد، لأجلب الحطب والفحم؛ لأبيعه في سوق الخريبة، أما هذه الحمولة فقد حلفت أن لا تكسر عود في وجهي، فهي لك هدية.
حاول الأب عدم قبولها، ولكن إصرار سعد ويمينه حالت دون ذلك .
وأثناء وداعه لوالد سلمى، عرف أن الفتاة تستمع له من النافذة فقال:
وداعًا أيها الرجل الطيب، لا أريد أن أتأخر، لقد وضعت بعض أغراضي في ذلك الغار، وسوف أمر عليها.
ثم ارتحل .. فودعه والد سلمى وداعًا يليق به، ورأى فيه شهامة الحضرمي الأصيل .ولقد ارتاح له كثيرًا…
ضحك عدنان وقال :
وقبل الظهر نزلت سلمى لبيتها، أمَّا هو فقد رحل إلى دياره.
ومرت الأيام، وسعد قد عزم أن يبيع كل أغنامه وإبله، وأحضر مهرًا يساوي عشرة أضعاف ما يدفعه الرجل العادي، وقال في نفسه:
ستكون مفاجأة لسلمى، عشيقها يبيع كل ما يملك، ليحصل على أغلى ما يتمنى وأحب.
وفي الوقت المعلوم جاء سعد مُحمَّلًا بكل ما يلزم من مهر وملابس، وأحضر أباه وأمه معه، فيستحيل رفض أبيها، وهو يحمل هذا المال كله، هو يرغب فيها وهي تحبه وتعشقه.
ومن بعيد لمحت سلمى سعدًا قادمًا ومعه أبواه، ففرحت وابتهجت بقدومه، فقد ذاع صيتها بين أقرانها، وتسلل الخبر كالهشيم في النار، حتى وصل إلى مسامع ابن خالها، فأخذ بندقيته وقال لمن حوله :
والله لأن وافق أبوها عليه زوجًا لسلمى لأقتلنه بيدي، وسيكون قبره ثوب زفافه … حاول قومه صده، ولكن عقله طاش وفقد صوابه …
أما سعد فقد رحب به الرجل واستقبله بكل حفاوة، وفي الصباح فتح سعد وأبوه الموضوع، تردد في البداية والد سلمى، ولكنه تفاجأ بدخول ابنته وهي تقول :
والله يا أبي إما أن يكون لي سعد، أو أموت دونه.
كانت لحظات لا يمكن وصفها أمام هذا الحب والعشق، فقفز سعد وقال:
وليشهد علي الجميع، لن يأخذ مني سلمى أي رجل إلا على جثتي ، نحن أحببنا بعض، وعلمتُ بأن ابن خالها يريدها، ولكن الرأي لها أولًا وأخيرًا، وقد سمعتم قولها ويشهد الله أنها ستكون لي، وودت أن يكون مهرها ملء الأرض هذه ذهبًا وفضة، ولكن نُهدي على قدر ما نملك، ولو كان بيدي لأهديتُ لها الدنيا وما فيها.
قفز عدنان وقال: هذا هو الحب يا عمر، نعم هذا هو الحب يا عمر، ليت ملاك اليوم عندنا لتسمع هذا العشق الصادق ؟!! .
ووافق الأب وقلبه يحدثه بأن هذا الزواج لن يتم، إلا على سيل من الدماء ونهر من الدموع، ولكن أمام قوة سعد وسلمى وإصرارهما لا مفر من القبول …
تم عقدالزواج في اليوم نفسه، وغدًا سيتم الزواج، حاول الأب أن يُسرِعَ في ترتيبات العرس، قبل أن يحصل ما لا تحمد عقباه …
في الصباح أراد سعد الذهاب بناقته إلى قمة الجبل؛ ليقطف لها بعض الأعشاب، ثم يعود، وقد ألبسه أبوه لبس الزواج حسب العادات والتقاليد.
نظرت له سلمى فطارت فرحًا، وودَّت أن تتسارع الدقائق بسرعة البرق، نظر إليها وهي مُزَيَّنة بأجمل اللباس البدوي، ووجهٌ يضيءُ كالقمر في ليلة اكتماله، وهو غارق في حبه وعشقه الذي أصبح حقيقة لا خيالًا.
سمع صوت أبيه يقول له:
هيا اسرع يا سعد بناقتك، وأطلق سراحها بقمة هذا الجبل، وعُدْ بسرعة قبل وصول الناس، فقد بدأوا يتوافدون من كل حدب وصوب.
وفي طريقه للجبل بدأت الزغاريد تنطلق من كل نافذة، شعر بالسعادة، وأحس أنه أسعد إنسان على وجه الأرض، وتحيط به الحفاوة والتبجيل من كل مكان.
وهناك وعلى قمة الجبل، وفي ذلك الغار الذي أسماه هو بنفسه غار سلمى انطلقت رصاصة مجهولة أصابته في مقتل، طار الخبر بين الناس وكثر الصياح، الرجال يهرعون، وأم سعد تبكي بصوت يهز الجبال، وترتج الأرض من هول الصدمة.
سمعت سلمى اسم سعد، فهرعت تجر ثوبها ودموعها تسبق كلماتها، أخذت تصرخ وتبكي، قتلوك يا سعد العمر، قتلوا حبنا وعشقنا، يا سعد سلمى لا تخون وعدك، ولا تنكث بعهدك، وسيكون هذا الغار قبري وقبرك.
جرى أبو سلمى خلفها، وكثر الصياح، ولكن سلمى رمتْ بنفسها من ذلك الغار، وسقطت جثة هامدة عند سعد.
وستحتفل الدنيا كلها بزواجكما، وسأكون أول من يبارك لك، دعني الآن أكمل…
ولقد تم دفنهما معًا في قبر واحد وفي المكان نفسه، ولا يدري القوم بأن سعدًا قد أطلق على هذا المكان، الذي التقيا فيه غار سلمى.
ذلك اليوم يا عدنان أبكى كل من حضر، وكل من سمع بقصتهما الحزينة والمؤلمة، بل لا يوجد بيت من حجر ولا مدر إلا وتجد البواكي فيه تذرف الدموع؛ لأن سعدًا وسلمى سطَّرا قصة حب وعشق، كُتبت بحروف من الدم .