توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 26 .. ص 112
رابط العدد 26 : اضغط هنا
تنتشر المقولات، والأمثلة في الثقافة الشعبية بحسب عمق دلالاتها، ومدى اتساع دائرة معانيها، ففي حين يتوقف البعض منها عند فكرة محدَّدة، تقال في مناسبة معينة، متعلقة بها أو قريبة منها، هناك ما تكون الحاجة إليها في مواقف كثيرة، ومناسبات متنوِّعة، وهذا ما يجعلها مع مرور الزمن تتسلَّل إلى العقل الجمعي، وتشكِّل ثقافة سلوكية، تشق طريقها، وهي تسعى إلى التنبيه، والتذكير، والضبط الاجتماعي، وربما السخريّة.
وفكرة العنوان (من باع جنّب) هي (بنت السوق) التقليدي أو الشعبي؛ إذْ تكون العلاقة المباشرة بين البائع والمشتري، وأحيانًا يدخل بينهما (الدلل)، ولأنه عادة تحدث في هذه الأسواق الشعبية الكثير من المنازعات، وجدت الحاجة لجهة اعتبارية ضابطة، وهو (مقام): أمير (حاكم) السوق، الذي مهمَّتُه ضبط حركة البيع والشراء، والفصل في المنازعات البينيَّة، وتعزيزًا لدوره الضبطي تسهم المقولات، التي تشبه العرف أو القوانين في التخفيف من فوضى السوق.
وتحمل المقولة قيمةً خلقيَّةً، تقوم على احترام كلمة البيع (بِعْنَا) بعد التلفُّظ بها، وهي كلمة إقرار واعتراف، يقابلها من حيث الالتزام والإقرار كلمة (اشتريت)، ومن ثقافة السوق المتعامل بها هو عدم السماح لطرف ثالث في المساومة على بضاعة ما تزال محل مفاصلة بين الطرفين، لهذا يقال: “لا تبايع على بيعة أخيك”: و”لا تخطب على خطبة أخيك”؛ ففي ذلك خروج عن اللياقة، وعاقبة ذلك مفسدة كبيرة، وغالبًا في الأسواق الشعبية ينتزع الوسيط (الدلَّال) لفظتي (بعنا – اشتريت) وهو يمسك بسبَّابَتَي الطرفين (البائع والمشتري)، وهو يحاول التقريب بينهما بصوت مرتفع، وتتم الصفقة بعد تلفُّظ كل طرف بما يخصه.
وفي حالات نادرة يحدث التراجع عن الصفقة، وغالبًا يكونُ ذلك من قبل البائع؛ لأن المشتري تاجر (ابن سوق)، يعرف قيمة ما يعرض عليه، وفي هذا الموقف يجهر المشتري بترديد مقولة السوق الشهيرة: (من باع جنّب)؛ بوصفها حُجَّةً فاصلة، تلغي ما بعدها، وتؤكِّد على أن مكان البائع الجديد هو جانب المتفرِّجين في سوق مفتوح، يقف كل مالك فوق ملكه. لهذا يبقى أمام البائع (المتراجع) خيار واحد فقط غير ملزم للمشتري، وهو أن يدفع لاسترداد بضاعته مبلغًا فوق سعر البيعة، يسمى (ندامة) من النَّدم، وهو هامش رِبْحِيٌّ للمشتري، يستطيع أن يفاصل فيه أو يرفضه. ولهذا يقال عند الصفقات التجارية والسياسية الخاسرة: (بيعة الندامة).
ومهما كانت حركة البيع والشراء، يأتِ وقت من اليوم يتفرَّق فيه الجميع، سواء من كسب، أو خسر، أو ندم، أو تفرَّج، لكنهم يعودون محمّلين بثقافة السوق من ضجيج، ومن دروس، وفضول، وحكمة، لهذا تحضر مقولة “من باع جنّب” في بعض تفاصيل حياتهم، بأصنافها الطريفة والمؤلمة، والحلوة والمرة، وفي خضمِّ ذلك المعترك يستبدلون المعنى اللغوي للفظة البيع التجارية بمعنى اصطلاحي شامل لأنواع الاتفاقات غير المتكافئة، والعقود، مع بقاء رسم اللفظ كما هو فمثلًا – وهذا على سبيل الطرافة – عندما يسأل الأب عن أخبار ابنته المتزوِّجة تحضر هذه المقولة “من باع جنّب”، لكن (البيع) هنا بمعنى تسليمها لجهة مؤتمنة، تدخل بعدها في مشوار حياة جديدة في بيت غير بيت أبيها، وربما في بلاد بعيدة، ولهذا في معنى مقارب يقولون: “بنتي لمَّان تبت”، أي: تظل ابنتي، وفي كنفي إلى أن تذهب إلى بيت زوجها.
وأجمل ما تحضر فيهِ المقولة لدى (الطرفين) عندما تتم البيعة بينهما بسلاسة، ساعتها يردِّدان المقولة لإظهار الرِّضَا المشترك، وأقسى ما تكون المقولة حاضرة عندما تقال لأولئك الذين فرَّطوا حِينًا من الدهر في ذمتهم، أو كانوا شركاء في (بيع) أوطانهم ثم رَكِبُوا موجة النضال والتوبة، لكنهم تطلَّعوا نحو الصدارة، فتطاردهم الذاكرة الجمعية بهذه (التُّهْمَة)، التي لا يستطيع (النادم) الفكاك منها حتى يقدم الشاهد بالقول، والدليل بالعمل، ومع هذا لا يبرأ منها إلا من صدّق الناس توبته، وتعفَّف عن الفرص المغرية الماثلة “والتاريخ لا يرحم” كما يقولون.
وهكذا تتحرك لفظة البيع بين اللغة، والمصطلح، والمادي، والمعنوي، وكل بيعة لها ثمن معلوم، وشتَّانَ بين تبعات (البيع) عندما تكون الصفقة على الصعيد الشخصي حيث المكسب والخسارة شأن داخلي، لا يتجاوز الذات، أمَّا في حالة الصفقات الخاسرة بين الشعوب فإن نتائجها وخيمة، وعابرة للأجيال، ونقصد بالصفقات تلك الاتفاقيات الاستراتيجية، التي تعجّل قادتها لإبرامها، وفشلوا فشلًا ذريعًا في تقدير هامش الربح، ومهاوي الخسارة، ولم يتركوا مساحة آمنة لالتقاط الأنفاس.
ولأن أحداث التاريخ البعيدة، والقريبة تزخر بالأمثلة، فهذا يتيح لنا حق المقاربة في اختيار أمثلة لصفقات سياسية مصيرية تسرَّع فيها طرف من أطرافها بتأكيد كلمة (بعنا) الملزمة، ثم شعر بالخسران المبين، من ذلك ما يمكن الإشارة إلى اتفاقية الوحدة اليمنية 1990م، وما يعنينا هنا إسقاط ثقافة السوق، وليس تفاصيل التاريخ وسرديَّاته المعروفة، لهذا سنتجنب (الشخصنة) إلا إذا اقتضت الضرورة.
وبمنطق ثقافة السوق كان اتفاق الوحدة اليمنية صفقة سياسية بين جمهوريتين مستقلَّتين (جنوب اليمن – شمال اليمن)، ومنذ بدايات الصفقة شعر الجنوب بالخسارة، أما الشمال فكانت مكاسبه كبيرة، وسريعة، لهذا امتنع عن قبول فارق (بيعة الندامة)؛ فقد كان ميزان القوى لصالحه، ثم إنه يمتلك حق التمسُّك بصفقة التراضي الوحدوية، وفي المحصلة الأخيرة غادر الجنوب الخاسر السوق وهو يتجرَّع كأس الندامة.
ولأن حركة التاريخ لا تتوقف عند محطة واحدة؛ فقد اجتهد أهل الجنوب لتغيير المعادلة، فظهر ما عرف في البداية بالحراك السلمي، ثم الثورة الجنوبية التي صار الحامل لها مؤخرًا المجلس الانتقالي، وبما يشبه (مبلغ فارق الندامة)، قدَّم الجنوب بكل مكوِّناتِهِ وأطيافِهِ آلافَ الشهداء والجرحى؛ ليعيد إلى مكانه، ومكانته ما قبل صفقة 1990م، وهو الآن (سبتمبر-2022م) قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى فسخ الصفقة.
وكما دخل الشمال بقيادة الرئيس الأسبق (علي عبد الله صالح) في صفقة الوحدة، وهو يشعر بأنه الطرف الرابح بكل تجلِّياته المباشرة، وغير المباشرة، فإنه في آخر أيامه دخل مع أعدائه الحوثيين (أنصار الله) في صفقة خاسرة بكل تجلِّياتها المباشرة، وغير المباشرة، وسلَّمهم بلا حيطة أو حذر ما سلَّمه له غريمه الرئيس الجنوبي السابق (علي سالم البيض)، وفريق حزبه الاشتراكي، وعندما عزم على التراجع – أي صالح – سقط كما تسقط أوراق الخريف، وكان يظن – وبعض الظن (غفلة) – أنه سيتمكن بالحوثيين من تصفية أعدائه، وهم كثر، ثم سيعود منتصرًا على الجميع، ويستأنف ممارسة هوايته في الرقص مع الثعابين، وأكلها.
ربما كان الرئيس علي عبدالله صالح لم يتجرَّع كأس الندامة إلا أيامًا معدودات منذ إعلان خروجه على حلفائه الحوثيين بعد تسليمه لهم (سنداته) المهمَّة، بعكس الرئيس الجنوبي علي سالم البيض، الذي أظنه -وليس كل الظن إثم – قد شرب من كأس الندامة حتى الثمالة.
في عام 2011م تهيَّأتْ فرصة تاريخية أمام الرئيس صالح بعد أن سلَّم السلطة (سلميًّا) لنائبه ليغادر السوق آمنًا، أو في الأقلِّ يتجّنب، ويُجنّب الناس المآسي المتوقعة، لكنْ أخذتْه العِزَّةُ بالإثم، أما الرئيس الجنوبي البيض (بطل) خسارة صفقة (كمين التاريخ حسب وصفه)؛ فقد تمسك بخيار التراجع عن (بيعة الندامة) في صورة موقفٍ ثابت، لهذا حنب في السوق، ولم يتجنّب، وتحمل إزاء ذلك المسؤولية التاريخية، والإنسانية، والضغوطات النفسية، لعل ذلك يخفِّف عن كاهله لومة اللائمين وغلواء شعب الجنوب..
ذات يوم من أيام الله سيلتقي (العَلِيَّان) ومن ركن إليهم، وسيأتي كل ضحاياهم، والمظلومون، لكن ذلك اليوم هو شأن الله، وليس لنا الحق في التحدُّث عنه، لكنَّ العِبرَةَ من ذلك هو أن نتعلَّم، ونَعِيَ: أنه من الخطورة بمكان تسليم زمام قرارات الشعوب المصيرية لفرد أو طائفة أو حزب، فطالما هناك الزعيم الضرورة، هناك الشعب الذي لا ضرورة له، لكن كل المضرّة تقع عليه.
ستستمر حركة السوق، ولن تنتهي الصفقات، والكيّس من وازن بين فرص المكسب، ومزالق الخسارة، والأهمُّ من ذلك القدرة على الثبات في قلب السوق مهما كانت التقلُّبات، يا قومُ: نحن لا نحتاج إلى متحكِّمٍ في السوق، بل نحتاج إلى حاكم للسوق، سمحًا إذا دخل، مشكورًا إذا خرج.