سالم محمد بجود باراس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 50
رابط العدد 27 : اضغط هنا
ما تتناقله الألسنة شفويًا لابد أنْ يتناثر غالبه في مهب الريح، وخاصة في هذا الجيل الذي اختلط عليه الحابل بالنابل، ومات الأجداد الذين حفظوا العادات الأصيلة، ومَن بقي منهم خالطه الزهايمر، لذا فالكتابة والتدوين هي السبيل إلى حفظ ما أمكن من العادات والتقاليد، حاولت جاهدًا أن أدوِّن ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، فكتاب المقدَّم بانهيم يحوي شذرات من عاداتنا وتقاليدنا، ثم رأيت لابد أن أتوسع قليلًا فخرج كتاب “زبدة الخلاصة في عادات وتقاليد حضرموت” يحوي كمًّا لا بأس به، ونحن هنا اليوم ندوِّن ما بقي لنطوي صفحة نظنُّ أنها قد نفذت “ذخيرتنا من المسبت” كما يقول الأجداد، ونترك لِمَنْ بعدنا يكمل المشوار .
العادات والتقاليد هي ذخيرة الأجداد، وهي مليئة بالكنوز من حكم ومواعظ وأمثال ونصيحة وعادات حسنة، نأخذ أحسنها، وإنَّنا نقول: مَنْ لا عادات ولا تقاليد له يفتخر بها فـلا تاريخ له، كان الأجداد ولا زال منهم البعض حيًا يُرزَق يصارع الموت أو لِنَـقُـل: إنَّـه في آخر عمره، يتصف بذاكرة، ويحكي لنا وتكاد دموعه تلامس الأرض من ذكريات وأطلال الماضي الجميل، حيث المحبة والتسامح والصدق والأمانة والنخوة والنجدة وهلمَّ جرًا، وها هو اليوم يرى ما يندى له الجبين عندما خالطنا الغريبَ، وزرع فينا ما ليس من قيمنا ولا من عاداتنا، فنبت جيلٌ لا نفخر به، جيل يجترُّ أغصان القات، ويضيع أوقاته هدرًا، وترك القراءة والاطلاع والإبداع، وهنا نتذكر تلك النصيحة التي تربَّى عليها أجدادنا عندما كانوا يزرعون في أبنائهم الهمة والعمل والعزيمة (من لا يذبح شأته، ويخزم حذاته، ويرقع ثوبه، موته أحسن من حياته) هنا يقول المثل الحضرمي للجيل تعلَّمْ كُلَّ شيءٍ؛ لتكون ذا قيمة في مجتمعك ولا تكون عالة .
سنبدأ حديثنا منذ صغر الطفل، في ذلك الزمن كيف فراشه، وكل ما كان في ذلك الزمان؛ لنأخذ لمحة خاطفة عن هذه العادات والتقاليد والموروث الشعبي.
أدوات الطفل منذ ولادته
فمنذ ولادة الطفل يصبح تحت عناية أمه وبمساعدة والدة الأم وهي الجدة التي تحرص دائمًا على التمسك والتشبث بما كان عليه أسلافها الأوائل، فيتم تحضير ما يسمى (الشدود)، وهو صمغ يستخرج من شجرة (الرشح)، وهي شجرة تنمو بالجبال والسهول وبطون الأودية، وقد تكلمنا عن أنواع الأشجار والنباتات في كتابنا المسمى (الأعشاب والنباتات بمرتفعات هضبة حضرموت) مبينًا ذلك بالصور، والشدود يتكون من نباتات عدَّة: شجرة الرشح مكون أساسي يضاف له “المحلب، والقرنفل، والهيل، والنيل”، ويوضع بالظل ليجف، بعدها يستخدم بحيث تقوم الأم بالمسح على وجهه بخطوط عدَّة طولًا وعرضًا كزينةٍ تعارفَ عليها الناسُ منذ زمن بعيد، وكذلك يوضع على أعلى الرأس يقال بأنه يشد ويقوي موقع (النغاة أو النغية)، وهي المنطقة الرخوة أعلى الرأس.
ومن العادات والتقاليد المتعارف عليها إعطاء الطفل مادة (الصبر)، وهي مادة ذات طعم مُرٍّ، تفيد في مقاومة الأمراض، وتشد عظام الطفل، وهي مضاد حيوي مهم، بحيث يقضي على البكتيريا والديدان بأنواعها وغير ذلك، يبدأ شربه للصبر منذ ولادته وحتى يصبح ابن سبع سنوات، بعدها يعطى له كل شهر مرة أو حسب الحاجة .
يتم قبل ولادة الطفل صنع له (المَزَب) (بفتح الميم والزاء)، وهو من أندر الأشياء القديمة التي حصلنا عليها بصعوبة لكي نلتقط لها صورة، ويصنع من جلود الأغنام وله نقوش وزخارف يدوية روعة في الجمال، وله أطراف على شكل قصات طولية للجلد، وله ثلاثة عيدان، ينصب عليها وتحمله كالخيمة تسمى (المراكي) ليبقى الطفل معلقًا من الأرض قرابة الذراع ليسهل تحريكه وهدهدته عندما يصرخ ليكف عن البكاء وينام.
بيت المخاتين
سمي بذلك لأن الطفل يوم ختانه تظل أمه تفرِّق بين رجليه بيديها حتى لا يجرح نفسه، فتقوم النساء بالغناء (والشَرح)، والشرح هو التصفيق بالأيدي مع رفع صوت الغناء بشكل جماعي من الليل وحتى قرب الفجر؛ لكي لا تنام الأم وهي ممسكة بطفلها، وعندما تتعب تساعدها إحدى قريباتها، كمساعدة وتكافل اجتماعي، ويستمر ذلك الغناء من النسوة لمدة ثلاثة أيام بلياليها، وهو ما يطلق عليه بيت المخاتين، وفي الوقت الحالي تطور العلم وأصبح الطفل دون مساعدة لوجود الحفَّاظات، ولكن الغناء لا زال لبعض الوقت في الليل، ولمدة ثلاثة أيام.
الهدّاة
صناعة يدوية قديمة، اشتُـقَّت من المهد، أي هدهدة الطفل لينام أو يسكت عن البكاء، وتتكون الهداة من الآتي:
السَيف: وهي خشبة توضع بالأسفل، يشد بها جلد الغنم الذي ينام عليه الطفل، وتسمى (السفر) بكسر السين وفتح الحاء.
الحَوْمَل: بفتح الحاء وسكون الواو وفتح الميم، وهو عُودٌ يتم عطفه على شكل قوس، يشد إلى السيف، وهو ما يوضع على الكتف حينما تحمله الأم وترتحل به من مكان لآخر.
الكَرَش: وهو القوس الأسفل الذي تثقب له فتحتان نهاية طرفَي عود السيف ليتم تثبيته عليها ويشد بحبال من جلد الغنم
المنخَاس: وهو العود الذي يثبت بوسط الهداة وملتصق بالحومل “وهو القوس الأعلى”، والكرش وهو “القوس الأسفل”.
السِفَر: بكسر السين وفتح الفاء وهو جلد يفرش للطفل وسط الهداة، وتثقب له فتحتان للمخروج وحيث ما وضعته أمه بأي اتجاه يكون مخروجه (الغائط) يخرج للخارج، وقد كان قديمًا لا توجد ملابس كافية أو حفَّاظات كما هو اليوم.
الجَلال : تنطق بفتح الجيم وكسره، وهو غطاء خلفي مصنوع من سعف النخيل يغطى به الهداة، وفي الوقت الراهن يغطى بكيس أبيض مثل كيس الدقيق حاليًا .
هذه هي مكونات الهداة قديمًا، وسنشرح بعض ما كان يستخدم للطفل من أدوات وزينة، إذ كان لا يستغني عنها وتعد من الموروث الشعبي، وهي كما يأتي :
المَوْجَر: بفتح الميم وسكون الواو وفتح الجيم، وهو وعاء صغير يصنع من شجرة الرشح لسهولة نجره وحفره، أو من الخشب العادي، ويستخدم الموجر لشرب الصبر واللبن من الأغنام، فالصبر يضاف له قطرات من زيت السمسم ويسقونه الطفل، واللبن يضاف له سمن الغنم ويعطى له ليقوِّي عظمه وتزوده بالعناصر والفيتامينات اللازمة لجسمه .
وعندما يصاب بمغص يعطى له القمحة، وهي معروفة بحضرموت، وقد أشرنا إليها في كتابنا (السراج الوهاج في معرفة العلاج)، وكذلك يُعْطَى الطفل للمغص مادة المر بضم الميم، وهي أيضًا معروفة.
المَرقَبة: بفتح الميم وسكون الراء وفتح القاف والباء، وهو جلد غنم مصنوع بطريقة معينة وجميلة في شكل عقد مترابطة ومتقاربة، ثم يخاط عليه خرز صغيرة ذات ألوان متعددة، ثم يعقد طرفه عقدًا عدَّة بالجلد، ويفتح له بالطرف الآخر عين ليتم ربطه بها، والمرقبة اشتقت من كلمة الرقبة؛ لأنها تعلق كقلادة بعنق الطفل الصغير؛ إذ يَعتقِدُ النَّاسُ أنها تحافظ على رقبته من (النغية)، فالنغية بحسب الموروث هي سقوط اللهاة في الحنجرة فحينها يصاب الطفل بالقيء والغثيان فيمتنع عن الأكل والشرب، فيتم استدعاء حكيمة له، فتقوم بإدخال يدها إلى خلف اللهاة وترفعها بطريقة معينة، حينها يتعافى الطفل سريعًا، علمًا أنَّ ذلك قد يحدث للكبير سواءً رجلًا كان أو امرأة، فيقال (مرقوب)، وهو نادر جدًا، وهذا من موروث الطب الشعبي بحضرموت.
النَسعَة: بفتح النون وسكون السين وفتح العين، هي حزام مصنوع من جلد الغنم خفيف، عرضه لا يتجاوز ٣سم، والطول حسب الحاجة، ثم يرتديه الطفل في ذلك الوقت.
الكحل: يعد من ضرورات الطفل منذ صغره، ويضاف للكحل العادي شب وعجوة التمر، تسمى بحضرموت (عَجَم) (بفتح العين والجيم)، حيث يحرق ويضاف للكحل مع الشب، ويُعتقَد أنها تقوِّي النظر وتحافظ عليه .
ويظل الطفل تحت الرعاية والاهتمام من أمه حيث تدهن له بالمعصرة (زيت السمسم) كل صباح ومساء، وعند شروق الشمس تخرجه ليتشبع من حرارتها لمدة ربع ساعة، يتم بعدها غسله بالماء الدافئ والغُسّة (مسحوق ورق السدر)، ثم يعاود له المساح (وهو التخطيط بالشدود أو ما يسمى البُومة)، والبُومة (بضم الباء وسكون الواو وفتح الميم) هو الشدود نفسه بعد خلطه بالمكونات التي تكلمنا عنها سابقًا.
النفاس: عندما تلد المرأة وتضع مولودها يقوم الزوج بجلب كل الضرورات لها، من شراء المعصرة (زيت السمسم)، وذبح رأس غنم، وإحضار العسل (بَغِية أو مَرِية أو سُمرة وغيره من أنواع العسل بدوعن)، وتطحن لها قريباتها على المرهاة الذرة والمسيبلي والطهف، كل هذا الأكل المركز والمفيد لصحتها، إضافة إلى الراحة الكاملة لمدة أربعين يومًا، وخلال هذه الفترة لا ينقطع عنها اللحم والمرق والفتّة؛ وهي فت خبز الذرة أو الطهف ونحوها في صحفة يسكب عليها لبن الغنم والسمن وزيت السمسم فتأكل منه، إلى جانب أكل (التمر الحجري)، وسمي بذلك نسبة إلى مديرية حجر، ويعد أجود أنواع التمر بحضرموت، وأصبح في عصرنا الحالي يصعب الحصول عليه لغلاء سعره، إلى جانب ذلك تُعطَى النفاسُ العصيدة الحضرمية، وهي غنية عن التعريف .
الضَفير: (بفتح الحاء وكسر الفاء)، وهو صوف الأغنام، يصنع يدويًا؛ لتلفه النفاس حول خصرها، وطوله ثلاثون ذراعًا، وهو مفيد حسب الموروث الشعبي لشد البطن؛ لكي لا تسمن وتكبر بطنها أثناء راحتها، وهو مفيد جدًا لشد الظهر وتقويته، ويلازم الضفير النفاس مدة أربعين يومًا .
المرأة والأعمال الشاقة
المرأة الريفية امرأة تقوم بأعمال شاقة لتساعد زوجها، فهي الأم والمربية والراعية لغنمها، وسوف نوجز ذلك في نقاط ليعرف الجيل الجديد قدرة الأمهات وصلابتهن قديمًا وحديثًا، فمن هذه الأعمال ما يأتي:
– مربية في بيتها، وتطبخ، وتكنس، وتطحن الطعام على الرحا والمرهاة.
– بعد أن تقوم بمهامها من بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، تسرح بأغنامها، وتجوب بطون الأودية والسهول والجبال بحثًا عن العشب والماء، ثم تعود عند غروب الشمس، وهي متعبة لتطحن لزوجها وعيالها الطعام وتقوم بمهام البيت، وأحيانًا تسرح بغنمها وهي حامل وتلد طفلها حيث لا أنيس ولا ونيس، وقد تجهزت بالموس والحبل لقطع الحبل السري، وتأتي بغنمها وهي تحمل وليدها في منظر قلّ أن تسمع أو تشاهد مثله في صمود أسطوري، بعدها تلازم البيت وتكون تحت الرعاية الكاملة كما أسلفنا .
– وفي وقت الصراب، صراب القصب (السنابل) تكون المرأة في مقدمة الرجل لتساعده من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وكذلك الحشيش (وهو حش الرمام) بالشريم .
– وفي أثناء راحتها تغزل على آلة المغزل، وهو عود طوله قرابة الذراع، وله مثل السنارة أعلاه، تعمل على فتل الصوف (شعر الغنم (لعمل (الضفير، الحَبُس، الحثمة)، وغير ذلك، وتقوم بدبغ الجلود وعمل منها )القربة، الخراطة، القماش، الشكوة، السقا، الغشاء، والمرقبة للطفل الصغير، والنسعة(، وغير ذلك من الصناعات اليدوية من جلد الأغنام.
– وعندما تكون سارحة بأغنامها تقوم بأعمال يدوية من تطريز لعمامة الكلان (العريس) ونُقبَة العروس تسمى (العطفة) بتطريز يدوي دقيق وجميل جدًا، وكذلك تصنيع البراقع للنساء، وغير ذلك من أنواع الفن اليدوي .
هذا جانب من أعمال أخرى تقوم بها المرأة الريفية إلى جانب مساعدة زوجها في أمور، شتى فهي لا تكل ولا تمل، صلبة وصامدة، فهي التي تجلب الحطب، وتكنس مخلفات الغنم من الدمان (السماد الطبيعي)، وتحمله إلى خارج الزريبة، هذه لمحة خاطفة لما تقوم به المرأة في ذلك الزمان .