د. خالد عوض بن مخاشن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 56
رابط العدد 27 : اضغط هنا
الفصل السادس
الرقص والموسيقى في الجنوب العربي
عاد السيد أبو بكر بن شيخ الكاف رئيس أسرة الكاف الأميرية من زيارة له إلى مدينة المكلا، وبمناسبة عودته سالـمًا سيقام حفل، وسوف تشارك المدينة كلُّها في هذا الحفل، وسيقام رقص شبواني (شبواني نسبة الى مدينة شبام)، أي: إن الرقص الشبواني هو الرقص الشبامي. ومنذ الساعات الأولى للصباح جاب الطبَّالون شوارع المدينة وهم يضربون بعصي خشبية طويلة الطاسة (طبل معدني صغير مغطًّى بجلد حيوان) منتجين ايقاعًا مميَّزًا، وهذا الإيقاع هو دعوة لرجال المدينة للمشاركة في الرقص الشبواني، الذي سيقام في المساء. لم للرقصات الشبوانية أي ارتباطات ثقافية أو دينية، بل هي أقرب إلى أن تكون مسرحيات إيمائية بسيطة ساذجة، كمقدمة للأغاني الدرامية التي تُغنَّى على شرف السيد أو الأمير، ويسبق هذا الرقص مرور موكبٍ في المدينة في الساعة الخامسة عصرًا. يتقدَّم الطبَّالون هذا الموكب، وحامل الهاجر (طبل مزدوج) يكون في الوسط، وعلى جانبيه شخصان، كل واحد منهم يحمل الطاسة، ويمشي الراقصون خلف الطبَّالين مباشرة في هذا الموكب. يغني ويرقص مئتان أو ثلاثمائة من الرجال وهم يمشون عبر الشوارع مشكِّلين صفوفًا متتالية، كل صف مكوَّن من ثمانية رجال، كل رجل يحمل هراوة طويلة، وبين الفَينة والأخرى يرمي بها إلى الأعلى ثم يلتقطها قبل أن تصل إلى الأرض، ويصاحب هذه الحركات صيحات عالية جدًا. يتواصل الرقص على النحو الآتي: يجمل الراقصون هراواتهم وكأنها بنادق، وبمصاحبة أغاني الشبواني تتمايل أجسادهم، يتقدمون ثلاث خطوات إلى الأمام، ويتراجعون خطوة إلى الخلف، بعد ذلك يتوقَّفون يلتفتون ثم يرمون بهراواتهم إلى الأعلى ليبدأ الرقص من جديد. يلتحق الكثير والكثير من الناس بالموكب الذي يشق طريقه تدريجيًا باتجاه قصر السيد الكاف. خارج القصر، الذي وصله الموكب بعد حوالي الساعة، يحتشد جمع كبير من المشاهدين وجمعٌ من النساء في مكان بعيد عن مكان الرجال، أمَّا السادة فهم في شرفة القصر. بعد ذلك يجلس الطبًالون والراقصون على الأرض جلسة القرفصاء ويأخذون شالاتهم الطويلة، والتي كانت حتى تلك اللحظة على أكتافهم، ويربطونها حول رُكبهم ليجعلوا تلك الجلسة مريحة. يتقدَّم الشاعر، شاعر البلاط، واثنان من المغنين إلى الأمام ويأخذ الشاعر يقول بعض قصائد المديح للسيد الكاف. ويضع المغنون أصابعهم في آذانهم ويبدأون يغنون معًا كل بيت شعر يقوله الشاعر. هذه الطريقة من الغناء (الغناء مع وضع الأصابع على الأذنين) تشجع المغني على الاعتقاد بأنه يغني بصوت له حجم أكبر من حجم صوته الحقيقي. ينقسم حشد الراقصين على فريقين فيغنون الأغنية الشبوانية ويرقصون إلى الأمام وإلى الخلف، ويستمرون في الرقص إلى أن يصلوا في الأخير إلى شاعر البلاط، فيعملون حلقة حوله ويصدرون صوتًا عاليًا، مُمسِكِين بهراواتهم فوق رأسه، ثم يعودون راقصين إلى أماكنهم السابقة، ثم يقول الشاعر أبياتًا شعرية أخرى، فيغنيها المغنون، ويعود الرقص من جديد.
وبعد توقف قصير لأخذ قسطًا من الراحة، يُستأنف الحفل في الساعة التاسعة مساء. أبناء أسرة الكاف لايزالون جالسين على السجاد المفروش في الشرفة الكبيرة، ويجلس القرفصاء ثلاثة مغنين وشاعران في الساحة، ووُضِعَ مصباحان (لمبتان) في الساحة شبه المظلمة ومباخر عدَّة. يقُدَّم الشاي للذين يستمعون للشاعرَين والمغنين. ويحصل تنافس حاٌّد بين الشاعرين، وكان المغنون يقاطعونهما بتغنِّي ما يقولانه من شعر. هذا الغناء فيه شجًا وطرب أكثر من أي غناء يمكن سماعه في الجزيرة العربية. لقد كان غناء طبيعيًا حُرًّا أو في الأقل هكذا كان أثره على مسامعنا. كانت مواضيع هذه القصائد عن الحب، وبعضها كان ذا طابع فكاهي، وقد وعدني أحد السادة، والذي كان يكتب هذا الشعر لوضعه في مكتبة عائلة الكاف، بأن يهديني بعضًا منها في اليوم اللاحق ولكنه لم يفعل.
غناء البدو وأغانيهم مختلفة تمامًا عن غناء المثقفين سكان المدن وأغانيهم. موسيقى الشعوب البدائية، وبدو الجنوب العربي بدائيون بالتأكيد، لها ارتباط وثيق بكل ما في وجودهم، فلا يوجد عمل أو مهنة إلا ويهبها البدوي شيئًا من مواهبه الغنائية والموسيقية، فتجدهم يغنون لِـجِمَالهم أثناء المسير، وتغنِّي النساء في الحقول، فلا يتم احتشاد أو احتفاء أو ابتهاج إلا وبه غناء. الموسيقى والفن المعماري هنا ليس نتاج فنانين منفردين وإنما تعبير أساسي عن حياة قبيلة – عرق بشري كامل. يبدو أن دعاء الجمال وأغانيها التي تُسمَع في أوساط قبائل سيبان وقبائل تميم، وبعض القبائل الأخرى تعود في أصلها إلى طبيعة المشاهد الطبيعية للجنوب العربي. إن دعاء الجمال وأغانيها عندهم عبارة عن شدو أو غناء جميل مرح، قائم على التعبير الصوتي من غير ألفاظ؛ لأنه يجمع بين الصوت الطبيعي والصوت المزيف –مساحة صوتية حادة تقع خارج المساحة الصوتية الطبيعية للمغنِّي من الرجال، فعندما يشدو فيه المغنِّي يغير لون صوته إلى شخصية أخرى – وهذا (نادرٌ جدًّا في أوساط أهل المشرق). هذه الأصوات تُنتِجُ صدًى مذهلًا ورائعًا في الشعاب الجبلية فينتابك شعورٌ رائع عندما تقترب قافلتان بعضهما من بعض في وادٍ طويل، وتسمع صدى غناء البدو الآتي من مسافات بعيدة. هذه الجهود الموسيقية هي ببساطة نتاج لتكييف الصوت مع الخصائص الصوتية والسمعية للجبال.
إنَّه من غير المتوقَّع اكتشاف أشياء عظيمة عند القيام بدراسة موسيقى الشعوب البدائية، فأنت الآن تتعامل مع موسيقى كما وجدت أوَّل مرة في عصور ما فبل الميلاد، وفي رحلات سابقة قمْتُ بها إلى شمال الجزيرة العربية، سمعتُ أغاني رعاة تعود لآلاف السنين. في حالات كثيرة لا تعرف القبيلة البدوية سوى لحن واحد بمثابة النشيد الوطني لها، والألحان والنغمات التي يعزفونها بآلاتهم الموسيقية المزمار والمدروف (آلة نفخ خشبية طويلة وكلارينيت مزدوج) هي النغمات نفسُها تمامًا. خلال فترة وجودي في الجنوب العربي قمت ببعض التسجيلات للموسيقى البدوية، وفيما بعد حين قمنا بمقارنة هذه الموسيقى بموسيقى شعوب أخرى، كانت مفاجأتنا لا توصف؛ فقد اكتشفنا أن موسيقى الجنوب العربي مطابقة تمامًا لموسيقى البربر في جنوب المغرب. لم يستطع أحد أن يفسِّر هذا التطابق مع موسيقى البربر الذين قاوموا بعناد شديد التأثير العربي عليهم، وموسيقاهم تختلف تمامًا عن الموسيقى العربية الحقيقية.
لم يُدرَسْ تاريخ أصل البربر على نحو راسخ وواضح، ولذا فإن اكتشافنا هذا ربما يقود إلى تكهُّنات تاريخية عرقية حول هذا الأمر، وهناك حقيقة أخرى ستساعدنا، ألَا وهي اكتشافنا لناطحات السحاب الطينية في الجنوب العرب،, فهناك على تخوم الصحراء في جبال الألب العالية تُوجَد مبانٍ عالية مشابهة لبيوت الجنوب العربي من حيثُ إنَّ لها الشرفات المفرجة نفسها (فتحات على سطح حصن يُطلق منها النار)، ولها الجدران نفسه، والكواة نفسها (فتحات الرماية للأسلحة الخفيفة)، وهذا كله يُظهر تشابهًا قويًا مع البيوت الآشورية القديمة، مما قد يوحي إلى أن هناك أصلًا واحدًا لهذا اتنشابه كلِّه. المشكلة الوحيدة المتبقية هي كيفية تفسير ظاهرة التشابه المعماري والموسيقي غير العادي بين مكانين متباعدين جدًا. القول بأن العرب نقلوا ثقافتهم من الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا بعد الفتوحات في القرن السابع الميلادي مستبعدٌ؛ لأن في هذه الحالة سنجد آثارًا لهذه الثقافة في أماكن أخرى إلى جانب المغرب، إضافة إلى أن البربر قد قاوموا التأثير العربي عليهم.
قدم بول أودنوت Paul Odinot نظرية تقول إن البربر هم في الأصل كنعانيون هاجروا إلى المغرب في عصور ما قبل التاريخ، وعلى كل حال فإن ما اكتشفناه في الجنوب العربي يقدِّم دليلًا غير مباشر، يثبت أنَّ البربر أتوا من غرب آسيا، وهذا ما اعتبره أهم نتيجة توصلت إليها في رحلتي إلى الجنوب العربي.
الفصل السابع
القصر الخيالي
لا يوجد في الجنوب العربي كله أي مبنى يمكن أن يضاهي أو أن يتفوق على قصر السلطان علي بن منصور الكثيري في سيئون من حيث مهابة حجمه وكمال شكله. يُقال إنَّ عُمْرَ هذا القصر أربعمائة سنة، أما المدينة، والتي هي على بعد مسير يوم من تريم، والبالغ تعداد سكانها الخمسة آلاف، فتعد ثاني أكبر مدينة في وادي حضرموت. إنَّ سيئون من أقدم المدن في حضرموت، ومساجدها الثلاثمائة الرائعة هي الأخرى قديمة، كما أن أسوارها وقصورها ومقبرتها موغلات في القدم. المقبرة بها الكثير من القبور المهدمة، وبها قباب لأولياء الصالحين، وبها قبر أول سلطان كثيري أتى إلى حضرموت وهو السلطان بدر بو طويرق (2)، الذي يُقال إنه في عام 1490 أتى مع عشرة آلاف رجل من مختلف قبائل همدان المنتمي إليها قادمًا من صنعاء فاحتل حضرموت ودوعن، وحتى هذا اليوم لا يزال آل كثير وبعض قبائلهم الأساسية مثل العوامر يسيطرون على سيئون وأماكن أخرى مجاورة لها، غير أن السلطان على الرغم من عظمة أملاكه لم يكن الحاكم الوحيد لسيئون، فعائلات السادة من الحبشي والعيدروس والسقاف يشاطرونه الحكم؛ لأنهم يسيطرون على غالب ثروات المدينة، ومن يمتلك المال يمتلك القوة والسلطة، فهم مَنْ بنا المساجد ذات المنارات البيضاء، وهم من حفر الآبار ذات القباب البيضاء المدبَّبة والتي تعد من أبرز معالم سيئون.
تأتي الأموال لسادة سيئون مثل الكاف كعوائد من مشاريع تجارية ضخمة في جاوة وسنغافورة، ويقومون باستمرار بإنفاق جزء من هذه الأموال على الفقراء، ويُقال إن أحد أفراد عائلة الحبشي يقوم سنويًا بتقديم الأرز واللحم لأكثر من ستمائة شخص، وهذا الأمر يزيد من شعبيتهم عند البدو وعامة الناس، فمَنْ يُطعم الناس يجدهم بجانبه حين يدعوهم وخاصة في أوقات الحرب.
وعلى كل حال فإنَّ الكرم أحيانًا يقود إلى تنافس خطير بين السادة، ففي إحدى المرات بنى أحد السادة مسجدًا، وكان مبنى المسجد جميلًا جًدا فيتقاطر إليه الكثير من المصلي،ن مما جلب السعادة والسرور لذلك السيد إلى أنْ قام سيد آخر ببناء مسجد آخر مقابلًا للمسجد الأول وكان أكثر جمالًا منه، فذهب الناس إليه تاركين المسجد الأول، وهذا الأمر ساء السيد الأول الذي بدأ يخطط لهدم ذلك المسجد الجديد، ومن سيقوم بهذه المهمة هم بالطبع رجال القبائل البدوية؛ فالسادة هم رجال دين ولا يحملون السلاح، ولم تُحَلْ هذه المشكلة إلا بعد مشاحنات دامية.
لا يسعنا هنا إلا أن نشكر سلطاننا الكريم – السلطان عليًّا – فقد خصص جناحًا كاملًا من قصرة لنا ولجنودنا ولسيد ذلك الوغد الصغير الذي استطاع أن يجد طريقه إلينا مرة ثانية، بعد أن نجح بمكره وخبثه في إقناع سادة تريم من الكاف أنه أنسان طيب بائس، فقاموا بترتيب لقاء مصالحة بيننا وبينه، وطلبوا منَّا غضَّ الطرف عن المشكلة التي افتعلها في الطريق، وتم إرجاعه خادمًا لنا. في البداية كان خانعًا كحَمَلٍ وديع، ولكن هذا التظاهر الزائف بالخنوع لم يدمْ طويلًا، فما لبث أنْ صار يتصرف وكأنه أمير، وأصبح يركب جَمَلًا استأجره على حسابه. من الواضح أنه كسب بعض المال من خلال قيامه بعمليات بيع وشراء عارضة خلال فترة بقائه في تريم. الاستماع لكلام الخدم والبدو والجنود فيه دروس ربما استفاد منها سيد، فلا يكاد المرء أن يجد في كلامهم جملة واحدة تخلو من كلمة “فلوس،” وللفلوس دور مهم حتى في الجنوب العربي.
كُنَّا نتنقَّل بين الإقامة في قصر السلطان علي، وفي قصر سلطان تريم السابق، الذي يعيش الآن في سيئون حياة ترف ورفاهية مَنْفِيًّا هناك، فكلا السلطانين كانا حريصَيْنِ على نيل شرف استضافتنا في قصريهما.
السلطان الأول كان من هُوَاةِ جمع الأسلحة فقصرُهُ يعدُّ مُتحَفًا، به البنادق العربية القديمة، والسيوف الطويلة المعقوفة، التي تحمل على الكتف، ومخازن البارود الفضية، والخناجر المصقولة الجميلة، ذات الأغماد الفضية، وقد أهداني بعض الخناجر الثمينة وبندقيتين غربيتين، بعد أن أهديْتُه خارطة للجزيرة العربية قبلها وعلامات الرضا بادية على وجهه.
أمَّا السلطان الثاني فهو بستاني ماهر؛ فسيئون بكاملها محاطة بأشجار النخيل والبساتين، وتعود ملكية غالبها لهذا السلطان السابق، الذي قام شخصيًّا باصطحابنا لمشاهدة هذه البستانين الغناء الجميلة، التي تزرع فيها نباتات كثيرة، منها الخضروات والأعشاب الطبية، وتقوم قبيلة العامري وخاصة النساء والبنات بالعناية بها والعمل فيها، مستخدماتٍ أدواتٍ زراعية بدائية، كتلك التي كانت تستخدم فبل ألف سنة. تصل المياه إلى النباتات في هذه البساتين عبر قنوات ري ضيقة.
في هذه الأماكن الريفية لا ترتدي النساء الحجاب، ويضعن على روسهن “المرولة”، وهي قُبَّعة مصنوعة من الخوص، عريضة الحواف، لها قمة طويلة مدبَّبة، وأحيانًا يذهْبَنإالى البساتين بدون هذه القبعات، ويَقُمْنَ بطلي شعرهن بصمغ مطاطيٍّ، ثمَّ يَقُمْنَ بلفِّ الشعر في شكل كرة، ثُمَّ رَبطُه. تعشق هؤلاء النساء الجميلات المكياجَ؛ حيث يقمن بتسويد حوافِّ أعينهن، أما الوجه والأيدي والأقدام فيتمُّ طليها بمادة النيل، والبعض منهن يُفَضِّلْنَ طليَ الأجزاء المكشوفة من أجسادهن بمادةٍ صفراء (الهرد)، التي تُستخلَص من بعض الجذور. تلبس هؤلاء النساء ثيابًا طويلة سوداء أو زرقاء غامقة، وترُبط في الحوض بحزام فِضِّي، ويلبسْنَ حُلِيًّا كثيرة جدًّا من الفضة والنحاس، وهي بالطبع كلُّ ما يمتلِكْنَه، وهذه الحُلِيُّ عبارة عن حِلَقٍ أو أَسَاوِرَ ثقيلةٍ، تُلبَسُ حول مِعْصَمِ اليد والرقبة وأسفل الساق، وحِلَقٍ أخرى للأُذُنِ والأنف، كما يَحْمِلْنَ بعضَ التمائم الصغيرة.
من العادات الغريبة والمثيرة للاهتمام هنا أنْ تجدَ المرأة أثناء العمل تحملُ سلَّةً، تتدلَّى من على كتفها، وفي هذه السلة طفلٌ صغير أو حملٌ مولودٌ حديثًا لا يستطيع إطعام نفسه.
تحرص النساء حرصًا شديدًا على سلامة أطفالهن فعندما أظهر لهن، يكون همُّهن الأولُ إبعادَ الأطفال إلى مكان آمن، فلا أحد يستطيع أن يعلم فيما إذا كان هذا الرجل الأبيض يستطيع إلحاق الضرر بالأطفال بعين الحسد أم لا. إذا رأتْ عينٌ شرِّيرةٌ طفلًا لابدَّ من البحث عن وَلِيٍّ لإبعاد هذه اللعنة، وهذا الأمر يتطلب أموالًا طائلة، ولهذا السبب لم أنجحْ في تصوير أي أُمٍّ مع مَهْدِ طفلها.
أودُّ هنا أن أشير إلى بعض الملاحظات المهمة المتعلقة بالتصوير في هذا البلد، يجب التصوير دون جعل الناس يلاحظون ذلك، وقد نجحْتُ في التقاط الصور باستخدام كاميرا صغيرة (Leica) بواسطتها استطعْتُ خداع الناس. ولأخذ الصور عن قرب في الشوارع غير المزدحمة وجدْتُ أن كاميرا ((Rolleiflex مفيدة جدًا، فبواسطة هذه الكاميرا أستطيع أخذَ الصور من جنب الكاميرا لا من أمامها، وبهذا لم يتمكَّن الناس معرفة ما هو الشيء الذي التقط له صورة، وقد كنتُ آخُذُ الصور بسرعة دون إضاعة وقت كبير، لا وقتَ للتردُّدِ، عليكَ أنْ تقرِّر ماذا ستصوِّر فتصوِّرُه مباشرة، وعمومًا لقد وجدْتُ التصوير مهنةً ماتعةً، وكُنْتُ دائمًا أَجِدُ في طريقي أشياء مهمة جديدة تستحقُّ التصوير.
إنَّ اختيارك لنوعية الفلم الجيد أمرٌ مهمٌّ جدًّا؛ فقد اكتشفت أنَّ أفلام Agfa وأفلامGevaert هي الأفضل لتحقيق غرضي. في المناطق الاستوائية الجمع بين أفلام شركة Agfa وشركة Gevaert يعدُّ أمرًا مثاليًّا، أمَّا الأفلام المنتجة من شركات أخرى فلن تتحمَّل حرارة الجو هنا. لن أتحدَّثَ كثيرًا عن فترة التعرُّض للفيلم، وعمومًا فقد تعرَّضتْ أفلامي للفترة نفسها التي عادة ما تتعرَّض لها الأفلام في أوربا.
الصور التي احتواها هذا الكتاب هي جزء يسير من مجموع الصور التي عُدْتُ بها من الجنوب العربي، فإجمالًا لدي ثلاثة آلاف صورة وهي نتاج هذه الرحلة.