د.عبدالقادر علي باعيسى
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 62
رابط العدد 27 : اضغط هنا
الملخص:
تحدثت هذه الورقة عن أربعة أبعاد متصلة بالحوطة، هي: الحوطة نفسها، والرجل الصالح مؤسس الحوطة، والمجتمع، والدعاء، مفسرة دلالات هذه الأبعاد المترافد بعضها مع بعضها الآخر، ومعتمدة على بعض الأخبار التاريخية الواردة عن الحوط، التي يغني قليلها عن كثيرها مادامت تتشابه من حيث القصد والدلالة.
إن أهم ما قدمته الحوط بنشوئها في المجتمع الحضرمي هو أنها أحدثت تغيرا في النسق الاجتماعي والروحي والمكاني للمجتمع، فأسهمت بذلك في تحديد مكانتها، وإعادة صناعة المجتمع، من خلال الارتكاز أساسا على شخصية صاحب الحوطة التي تمتد تأثيراتها العجيبة فتصبغ المكان والزمان بروحها بوصفها شخصية متحققة بوجودها المؤثر في المجتمع قبل الحوطة وبعدها، ولكنها بعد إنشاء الحوطة تغدو أشد تمكنا وحضورا، ومن ثم حوطتها.
ويتجلى تأثير تلك الشخصية بفعل الدعاء الذي يأخذ مجراه في تشكيل الأحداث والتأثير عليها إذ يقوم الدعاء –حسب خطاب الحوط- بدور الأداة العملية التي تعمل على إنزال الجزاء بمختلف أنواعه على المعتدين محققا بذلك إنجازات دينية ونفسية وسلوكية واجتماعية. ومع أن الدعاء من حيث هو كلمات لا يظهر في المأثورات المنقولة عن الحوط إلا أنه يقوم بإجراء فعلي مؤثر من خلال إصابة الأفراد المعتدين على الحوطة وممتلكاتها بالعاهات، أو حتى القضاء على حياتهم. وبغض النظر عن حدوث الفعل أو عدم حدوثه، فالمهم سيرورة الخبر في المجتمع بحدوثه فعلا، وتصديقه، ومن ثم اعتماده رادعا فعليا يقوم مقام رجال الشرطة في السلطة السياسية، ومقام رجال القبائل في السلطة القبلية، وينشأ عن ذلك جمهور مساند للحوطة ومعتمد على قوتها الروحية في مواجهة القوى الأخرى.
تقديم:
مازالت الصورة المتكونة عن الحوط في حضرموت محدودة من الناحية البحثية، وإن كانت واضحة إلى حد ما من ناحية المعلومات، ولن يكتمل الجانب المعلومي إلا بالجانب التحليلي، فالمعلومات المقدمة عن الحوط لا تعطي بطبيعتها الإخبارية والوصفية إيفاء تحليليا واضحا عنها، باستثناء بعض الدراسات التي عنيت بالتحليل والتي مازالت في مجموعها في مستواها الأولي الذي يحاول تجميع أجزاء صورة تحليلية واسعة عن الحوط، بما فيها هذه الورقة التي انطلقت من الأبعاد الآتية:
أولا: الحوطة:
فكرة الحوطة مأخوذة عن الحرم المقدس في مكة والمدينة، وقد تجسدت الفكرة في الجاهلية بشكل مختلف فيما عرف بالحمى، فلا يمكن لأي حمى تحميه القبيلة كتغلب مثلًا أن ينتهك، فانتهاكه يعني قيام المنازعات والحروب، كحرب البسوس، فالحوطة امتداد لتكوين متأصل في المجتمع العربي هو الحرم الديني، والحمى الاجتماعي- القبلي، وبذلك تحمي الحوطة نفسها من المعتدين بالقوة الروحية، بدل القوة القبلية، فتسيطر على ذاتها وعلى المجتمع متجاوزة وظيفة القيام بالأعمال الصالحة بداخلها إلى وظيفة أخرى اجتماعية تتمثل في إيذاء الأفراد الذين يحاولون الاعتداء عليها، أو على ممتلكاتها لاسيما ممتلكات الرجل الصالح صاحب الحوطة(1).
وسميت حوطة ليس لأنه تم إحاطتها بسور كالمدن السياسية والاقتصادية، وإنما لأنه تم إحاطتها روحيًا –حسب المعتقد الشائع حينئذٍ- ببركات الرجل الصالح ودعواته التي تكون نتيجتها هلاك من يحاولون الاعتداء عليها أو الإيقاع بهم إيقاعا شديدًا، والمأثورات في ذلك كثيرة، فهي ذات أبعاد تخويفية يجري توظيفها لإصلاح المجتمع في منطقة معينة وللدفاع عن هيبة المؤسس وجماعته في إطار الصراع الديني/ القبلي.
وفعل التحويط فعل مخيف، له أثر نفسي قوي حينئذٍ في الإيحاء بالإحاطة بالمعتدين والساكنين والزائرين، وربما تحكمت الحوطة في الجهة بكاملها، بوصفها ذات وظائف متعددة دينية واجتماعية ودفاعية، فهي جهة للعلم، وجهة للفعل الخيري، وجهة للإجهاز على الأعداء بالدعاء عليهم. وبهذه الطريقة بقدر ما خدمت الحوطة المجتمع عززت الوجود الديني فيه بصيغة صوفية، كما عززت الوجود الاجتماعي بصفة خاصة من حيث اتجاه الساكنين فيها إلى المسكنة والمسالمة، وازدياد وضوح التحديدات المرتبية بداخلها من حيث إن للرجل الصالح، ومن ثم أسرته، الفضل في توفير التجمع الآمن لهم في ذلك المكان.
والملاحظ أن الحوط لم تخضع للتوسع كثيرا بحيث تمتد لتشمل أراضي أوسع، فهي بذلك التخطيط نموذج مرسوم روحيا، وربما لأن الوعي القبلي، وعي الحمى، مغروس لا شعوريا في طبيعة التفكير الاجتماعي فلا يراد السيطرة على أكثر من مساحة محدودة من الأرض تتخذ حوطة، والمهم أن النمذجة الروحية بكامل سلطتها تتأسس في الحوطة بغض النظر عن مساحتها انطلاقا من اعتمادها على مجموعة من الصفات والإجراءات الروحية والعملية يقوم على أثرها عالم الحوطة المعنوي والمادي وكفايتها الوجودية.
ثمة ترابط بين الأبعاد الروحية والاجتماعية والنفسانية التي تحكم الحوطة وتشكل وجها بارزا لها يعمل على تقوية نظامها، بحيث لا يتم إجراء أي فعل قوي داخل الحوطة إلا بترافد هذه الأبعاد المشكلة لعالمها النموذجي حيث تغدو الحوطة موطنا للالتقاء بين الصالحين والعقلاء، وتبادل الرأي بينهم، وإرسال الرسائل الناصحة إلى جهات مختلفة(2) حتى يبرز تقديرها بوصفها من الأماكن الصالحة الآمنة في حضرموت تقام فيها الاحتفالات الكبيرة (الزيارات) وتأتي إليها الوفود لأخذ مزيد من البركة عن صاحبها، وآثاره.
وما أدري ما إذا كان صاحب الحوطة يحدد موقع حوطته عن طريق الكشف الباطني كما هو عند المتصوفة، أو بطريقة موضوعية مبنية على مصلحة المجتمع، وإن كنت أميل إلى أنهم كانوا يجمعون بين الطريقتين، ومع أن الطريقة الأولى (طريقة الكشف) تعد ثانوية بالقياس إلى التفكير الموضوعي المنظم والمتصل بأكثر من جهة، غير أن أثرها قوي على الواقع المكاني حينئذٍ، وإعادة تشكيله التي توازي الفعل السياسي تقريبًا محدثة تحولات جذرية في المكان، ومن ثم في المجتمع، ولعل حوطة المشهد تبرز مثالًا واضحًا على ذلك.
لا تبرز أهمية الحوطة من خلال ذاتها وتكوينها الروحي والاجتماعي فحسب، بل من خلال الخطابات التي قيلت فيها سواء قالها أصحاب الحوط أنفسهم عن حوطهم وقدراتهم وطاقتهم التأثيرية، أو قالها غيرهم، وبهذه الطريقة القولية احتفظت الحوط بقيمتها في أذهان الناس، وليس من حقيقة تكويناتها الاجتماعية فحسب. إنها تتكون بالأساس من عدد من التشكيلات القولية التي تعطينا في المحصلة الأخيرة مفاهيم تصورية واضحة عنها من مثل أن الشيخ محمد بن الفقيه أحمد بن عبدالرحمن علوي جاء إلى غيضة من غياض الشحر (النقعة) وبنى بها بيتا، وغرس بها ليمة، فكان يجتني من تلك الليمة كل يوم ألف حبة، فيبيعها، ويكتفي بثمنها مؤونة له ولأهله وضيفه، فعرفت له هذه الكرامة بين الناس، واشتهر أمره، فأتاه المستضعفون، وسكنوا عنده، فبينما هم يوما عنده، إذ جاءهم لصوص ونهبوهم، فذهب الشيخ خلفهم، وكلمهم، ليردوا ما نهبوا على جيرانه، فأبوا، فلما رجع عنهم صاروا إن أرادوا الذهاب بما نهبوا أعمى الله أبصارهم، وإن رجعوا إلى الشيخ أبصروا، فمكثوا على ذلك ما شاء الله تعالى، فقال كبيرهم: ما أصابكم هذا إلا من أبي علوي، فاذهبوا إليه وردوا ما نهبتم من جيرانه، وستبصرون، ففعلوا ما أمرهم به كبيرهم، واعتذروا إلى الشيخ، وردوا ما نهبوا على أهله، فرد الله عليهم أبصارهم(3).
ثانيا: صاحب الحوطة:
يبدو أن صاحب الحوطة شخصية مميزة، لديه القدرة على الإمكانية القيادية التي يعبر عنها بطريقته الخاصة، بعيدا عن مفهوم القيادة السياسية إذ يحبذ الاتصال بالواقع لتغييره في الوقت الذي ينفصل عنه، ولعل في إنشاء الحوطة ما يدل على أنه كان يرغب في الحصول على أكبر قدر من القوة في المجتمع، لاسيما إذا أنشأ حوطته في محيط قبلي شديد التوتر دالا بذلك على أنه متميز على غيره من الرجال الصالحين في قوة إرادته(4).
وفي الواقع فإن الرجل الصالح يحقق ذاته، ويتعرف على مدى تأثيره الاجتماعي من خلال إنشاء حوطته وفق تفكير ديني معين يتمكن من خلاله من السيطرة على موضوعه سيطرة قوية، أما إذا كان صاحب الحوطة قطبا، وفق المفهوم الصوفي، فالمسألة ترتفع إلى حالة من القوة ينتج عنها الخوف والحذر من شدة تأثيره.
وانطلاقا من هذا يتجاوز صاحب الحوطة ذاته الشخصية إلى كونه رمزا دالا على صفات متعددة من التميز دينيا، واجتماعيا، وقياديا، وروحيا، وهذه الصفات مترابط بعضها مع بعضها الآخر، ولا يمكن لصاحب الحوطة أن يقدم على بناء حوطته إلا إذا استوثق أن شهرته وسلطته الروحية صارت قوية بين الناس، وإلا لن يلتفت إليه أحد، ومن ثم لن تحترم حوطته، وستذهب أدراج الرياح. وكلما كان الشيخ أكثر هيبة وسيطرة على حوطته، وحماية ممتلكاته فيها، كان الساكنون بها أكثر اطمئنانا لاستمرار حياتهم هادئة في صراعهم اليومي من أجل معيشتهم “روي أنه لما حوط الشيخ عبدالرحيم بن سعيد ابن أبي وزير حوطته التي بالشحر، اجتمع الشيخ عمر [المحضار] ببعض فقراء الشيخ عبدالرحيم، وقال لهم: ما لعبدالرحيم وللحوطة! ما تصلح الحوطة إلا لرجل ساعده مَدْرَج ليس به مفصل…”(5). إن الرجل الصالح والناس كل منهم ينشد مصلحته من الحوطة، وليس الناس وحدهم كما هو شائع، فمسألة الحوطة مسألة وجودية بالنسبة للجميع في مجتمع قبلي متصارع على الأمان ولقمة العيش.
وإن عدم إعلان الرجل الصالح عن دعواته التي تصيب الآخرين يعطيه نوعًا من الغموض الذي يزيد من تبجيله وتقديسه، وهو يعد بالنسبة للناس مرجعًا وذاتًا عالية، ولديه منافعه الخاصة من الحوطة سواء كانت دينية أو دنيوية، ليس أقلها تقدير الناس يومئذٍ لمقامه، وقيامهم على خدمة ممتلكاته، والمهم فيه كفايته في السيطرة على حوطته وأرواح ساكنيها، وتأهيلهم روحيا وأخلاقيًا حسب رؤيته، وتحديد معالم توجههم في حياتهم التي يرغب في أن يكونوا عليها. ومع أن الدعاء لا يظهر في مأثورات الحوط، فإن شخصية الرجل الصالح صاحب الحوطة موجودة كأقوى ما يكون الوجود من خلال نتائج الدعاء التي يتم تداول مأثوراتها المرتبطة بسياق اجتماعي وروحي مؤثر في أذهان الناس، وبخصوصية زمانية ومكانية معينة.
ثالثا: المجتمع:
ثمة نوع من الحرب غير المنظورة بين الحوطة والمجتمع القبلي. المجتمع من خلال محاولة بعض أفراده نهب الزرع والضرع، والرجل الصالح بتخويفهم بالدعاء عليهم، وكلا الطرفين يعيش تحت قهر الطبيعة المجدبة المحدودة العطاء في حضرموت، فالصراع قوي بينهما انطلاقا من كونهما كيانين متناقضين يختلف مقام كل منهما عن الآخر، فالأول عابد، والثاني معتد رغم أنه قد يكون جائعا، ولم يحدث الالتقاء بينهما من خلال ما تقدمه أغلب مأثورات الحوط، إلا نادرا، كما في قصة أخوة الشيخة سلطانة الزبيدية الذين صادفوا “لحسن حظهم، بعيرا للشيخ محمد بن حكم باقشير فأخذوه، فسأل عنهم لما بلغه الخبر، ودعا لهم بأن يهديهم الله إلى سبيل الرشد، إن كان الدافع لهم هو الفاقة والحاجة، وبأن ينتقم منهم إن كان دافعهم البطر والظلم، ولما بلغهم الخبر بدورهم أنبتهم ضمائرهم وتابوا وأنابوا، ورب ضارة نافعة، وهذا شيء يسر أختهم التقية سلطانة، فقد أصبحوا عونا لها فيما بعد على سلوك طريقة الصوفية”(6) وقد دلت كثرة الحوط في حضرموت على أن المجتمع كان في حالة من الفوضى، فأسهمت الحوط في إنتاج نوع من النظام فيه، وإن كان في أماكن جغرافية متفرقة لكنها مؤثرة.
وبغض النظر عن إصابة المعتدي أو عدم إصابته، فإن ما ينقل إلى الآخرين ممن سمعوا الحكاية، أن الإصابة قد تحققت بالفعل، وهذه هي الغاية، أي التوجه إلى ذهن المجتمع كله، والتأثير عليه، وليس إلى أسماء معدودة قامت بالفعل، ومن المهم تداول نتيجة الحادثة من خلال تكرار روايتها في المجتمع، وتلك آلية من آليات سيادة الحوطة وصاحبها، ذلك لأن تداول الحكاية يحول الإجراء الكلامي (الدعاء) إلى فعل قطعي يؤمن الجميع بتأثيره.
غدت الحوطة بتبني الرجل الصالح لها مركزًا منشودًا لما فيها من الأمن والأمان، وغدا المجتمع في بقية مدنه وقراه جهات غير ملتزمة لنظام صارم يحكمها إذا ما استثنينا بعض البلدات المحكومة سياسيًا، فالمكان الاجتماعي المتميز–بهذا المعنى- هو المكان الصوفي، فالرجل الصالح يعرف أسرار حوطته ودقائق ما يجري فيها، بينما الحاكم السياسي والقبلي لا يعرف دقائق ما يجري داخل منطقة سلطته كهذه المعرفة، ومن ثم ارتفع الصوفي المتحكم بطريقته الخاصة في (حوطته) وتأخر عنه الحاكمان الآخران القبلي والسياسي، وذلك في إطار الصراع السياسي/ الروحي، والقبلي/ الروحي، فالحوطة بمعنى من المعاني رمز لتفوق الديني على السياسي، وفي واقع التصور أن الصوفي يتمتع بميزتين غيبية وواقعية، بينما يتمتع الحاكم السياسي بميزة واقعية واحدة، ويغدو خوف المجتمع بمن فيه الحاكم السياسي والحاكم القبلي من صاحب الحوطة كبيرًا نظرا لتميزه الروحي عنهم.
وتعد الحوطة شكلا من أشكال رفض الواقع القائم حينئذٍ، ويمثل الهجوم الذي يقوم به بعض الأفراد على الحوط وغيرها من القرى أو على الأفراد رمزا دالا على عدم الانضباط الحاصل في المجتمع. وفي هذه الحالة تنتصر الجماعات الساكنة داخل الحوطة على القوى الأشد بطشا، وينشأ من هذا جمهور شعبي يساند الرجل الصالح، صاحب الحوطة، ففي هلاك المعتدي –حسب التصور السائد- رمز لانتصار النظام على الفوضى. والواقع أنك لن تجد آلية لضبط الفوضى في مجتمع قبلي متصارع إلا عند الإيحاء بالسيطرة على أرواحهم، لاسيما أنهم يداخلهم في أعماقهم اعتقاد بأن دعوات الرجل الصالح ستصيبهم، وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى مثل هذه الطريقة في التعامل معهم(7) ففي الوقت الذي تتم السيطرة الروحية عليهم تتم السيطرة الاجتماعية، أو الضبط الاجتماعي وإن كان محدودا في مناطق معينة، فهاتان الظاهرتان مرتبطتان ارتباطا قويا. إنهم يخافون من الشيء الذي لا يفقهونه، ويؤخذ لديهم بجد، حتى يبدو القبلي أو المعتدي عموما مسلوب الإرادة أمام القوى الروحية الخارقة التي يرى أنها قادرة على الوصول إليه، وإعاقته.
ومعروف أن السلطة الدينية تظل جزءا من طبيعة المجتمع مهما تميزت عنه، أي أنها تمارس تأثيرها وسط المجتمع، وليس خارجه، ولكن المسألة تتجاوز هذا الموضوع إلى أن تشكيلة المجتمع بعد إنشاء الحوط غير تشكيلته قبل إنشائها حيث تتم الإبانة عن سلطة روحية واضحة محددة المكان والسيادة والمنزلة والعلمية (بفتح اللام) لها أسلوبها الخاص وطريقتها الخاصة في فهم المجتمع والتعامل معه، والتأثير عليه في إطار روحي، وهنا يكون لتداول المأثور من حكايات الحوطة شفاهيًا أثر اجتماعي وعاطفي كبير، فالوعي المرتبط بالشفاهية وهو في الغالب وعي جمعي يعمل على إرشاد من هم خارج الحوط كما يعمل بالتأكيد على إرشاد من هم داخلها.
وأهم ما ينتج عن الحوط وتأثيراتها بروز عقلية اجتماعية تبدو تجلياتها في سلوك المجتمع بشكل واضح من حيث ارتباط تلك النتائج الرمزية للدعاء بذاكرة جماعية تسترجع الحادثة بحرارتها الخطابية الأولى كما لو كانت حدثت الآن، كلما تم الاستماع إليها. وعلى أية حال فالحوط على جانبها الإيجابي لا تدل على مجتمع كامل الطمأنينة مادام الجانب الآخر المعتدي مازال مستمرًا بعد وجودها، فالاضطراب مازال موجودًا في المجتمع، ومع الزمن ينسى الإنسان الحوطة، ووجودها الاجتماعي، ويتكيف ذهنيًا ونفسيًا مع الحوادث المسموعة والمقروءة الناتجة عنها حتى تكتسب تلك الحوادث قوة لا يستهان بها في وعيه تعمل على توجيهه روحيا.
وربما ولد المجتمع بدوره حكايات أخرى عن تلك الحكايات تكون أكثر تأثيرًا عندما تنسجم مع وحدتها الغائية التي تسعى إليها سواء في بناء أجزائها الداخلية، ودلالاتها، وإحالتها إلى رجل صالح مؤثر، وإلى تصورات الناس الثابتة عنها التي تقوم بدور الرجل الصالح نفسه في التأثير تقريبا، أي أن ذوات المتلقين تصبح مصدرًا لتضخيم دور الحوطة وصاحبها في متصوراتهم الذهنية، وهو ترابط له سببية روحية خاصة منسجمة في التصور الذهني للمتلقين على أنها حقيقة مطلقة، غير قابلة للتشكيك، أو التجزئة إلى أجزاء مصدق بها وأخرى غير مصدق بها، انطلاقًا من الإيحاء بسيطرة الرجل الصالح على بعض مظاهر الطبيعة حتى تغيب في طبيعة تصوراته المنظومة العقلية لصالح المنظومة غير العقلية التي تبدو أقوى في التصور والتأثير في مجتمع ساد فيه التصوف.
أما الذين يعيشون داخل الحوطة فيلتزمون بنظام الحوطة مادام العقاب شديدًا، ويتسمون بالمسكنة والهدوء، مما يعني أن الحوطة تقوم بتربية نفسية لقاطنيها الذين يحاولون تمثل توجيهات صاحبها باتباع تعليماته التي يكررها أولاده وأحفاده ومريدوه من بعده في خطبهم ومؤلفاتهم، ويهتم ساكنوها وزوارها بقراءة أوراده، وتبدو مواقفهم السلوكية أكثر انضباطا وتشابها داخل الحوطة انطلاقا من طبيعة معتقدهم في أن الرجل الصالح يحيطهم بسياج من المراقبة الداخلية لقلوبهم (من الشقي احفظ لسانك، ومن الولي احفظ قلبك)(8) ولعل ثمة أحكام لوم وتأديب توجه إلى ساكني الحوطة وزوارها إن أساؤوا التصرف، فبشكل من الأشكال يعمل القاطنون بها على تشكيل وجودها بصدق تفاعلهم مع الاتجاهات التي رغب فيها مؤسس الحوطة.
رابعا: الدعاء:
رغم أن الدعاء الذي يدعو به الرجل الصالح لا ترد صيغته النصية غالبا في المأثورات المتعلقة بالحوط، وإنما تظهر نتيجته في المعتدي عليها، فإن المقاربة تشير إلى أن الرد على الاعتداء، وإن بصيغة قولية، قد يكون أقوى من الفعل نفسه، فسرقة رأس غنم أدت إلى هلاك مجموعة من السرق بدعوة مباشرة عليهم(9) بل أخذ عود من الحطب أدى إلى ذلك ففي الحكاية السابعة والتسعين بعد الثلاثمائة في الجوهر الشفاف “عن جماعة من الثقات، قال اشترى جماعة شاة، وطلعوا بها الجبل ليضبوها فيه، وكان ولد لخادمة الشيخ عمر رضي الله تعالى عنه منهم، فأتى إلى حائط زرع الشيخ عمر رضي الله تعالى عنه، وأخذ منه عودا يريده لضبي الشاة، فانتفخ من وقته، وورم جسده، ومات بعد ثلاثة أيام”(10) وفي مناقب السيد عبدالله العيدروس أبي محمد أن “مما وقع له من كفاية الشر أن امرأة أرادت أن تسرق ثمر نخلته، ومعها ولدها، فوضعته، ورقت النخلة، فلما نزلت وجدت ولدها ميتا، فصرخت بالبكاء، ثم أخبروها بأن النخلة للعيدروس، فردت ما أخذت، فتابت، وقام ولدها”(11) ولعله يراد من الإيحاء بسرعة أثر الدعاء تنبيه المعتدين بشدة إلى عدم التجاوز، لاسيما على المنافع المعيشية، وإن قوة الدعوة لم يكن ليحدث أثرها الحاسم، وإن بصيغة رمزية، ما لم يرتبط ذلك بهيبة الرجل الصالح الروحية، وهيبة حوطته، وإمكانية تقبل الذهنية الاجتماعية لوقوع أثر الدعوة، فالناس من خلال مأثورات الحوط القولية أمام تمثيلات تعبيرية إشارية ينصتون إلى نبض كلماتها وتأثيراتها عليهم، لاسيما حينما يداخلهم تصور بأنها صادرة فيما تقوله عن نموذج روحي قوي، فيقوم عنها تصديق في أذهانهم يتلقون على ضوئه النص المنقول إليهم بصورة أكثر تأثيرًا، فدعاء الرجل الصالح يحكمه نظام متكامل روحي- اجتماعي هو في الأساس وراء قوته.
والرابط الذي يجمع صاحب الحوطة والساكنين فيها هو الدعاء لهم، أو الدعاء عليهم، وذلك رابط قوي ومؤثر في مجتمع غلب عليه التصوف، وعنصر مهم في سياق العلاقة فيما بينهم، فهذه الدعوات هي بالأساس نموذج دفاعي يسعى من خلاله الداعي للدفاع عن حوطته وممتلكاته التي لا يريد لها أن تمس، حتى من امرأة أو طفل جائعين، حفاظا -في ما يبدو- على حوطته وهيبته، ولن تجد من داخل الحوطة أي صورة انتقادية معارضة لتصرفات صاحبها، فما يقوله الرجل الصالح هو دعوة وحكم أيضا.
وإذا كان الرجل الصالح يؤثر فيمن يؤذون حوطته، فإن غير المصرح به في خطاب الحوطة أنه يتأثر منهم، والواقع أنهم يؤذون مصالحه وممتلكاته في حوطته، دل على ذلك شدة الدعاء عليهم، وترهيبهم. وعليه يبرز الدعاء شكلا من أشكال معالجة الواقع ولو بصورة محدودة أو جزئية، وذلك في إطار السياق الاجتماعي التاريخي الذي ورد فيه، وفي إطار منظومة فكرية وعقدية كانت شائعة.
إن الدعاء وما نتج عنه، وإن بصيغة رمزية، يتحول إلى مأثور قوي بفعل تفاعل المجتمع معه، لاسيما عندما تتكون سلاسل من الحكايات المؤثرة في هذا المجال تجعل تأثيرها أكبر، من غير أن تتقاطع مع بعضها متجهة اتجاها واحدًا متعاضدًا يرويه المجتمع فردًا عن فرد، وجيلا عن جيل، وتتكون بإيجاز من فعل معين (السرقة مثلا) وحدث (الدعاء) ونتيجة (الإصابة بالعاهة) حتى لا تنسى، ولا يتم التغيير فيها، ويمكن استعادتها بسرعة، وهذا النمط من المأثورات يجدر الاهتمام به، والالتفات إليه، ذلك لأن النتيجة التي تقوم على المباغتة التي ترهب المعتدي وتستحوذ على مشاعره، تجعله أشد تأثرًا في إطار نص تراجيدي، وهكذا ترسل الحوطة حكاياتها على هذه الشاكلة من الإيجاز المركز وقوة النتيجة التي تقوم بعملية تشكيل تدريجي للذهنية الاجتماعية على مر الزمن.
إن في إصابة المعتدي بالعاهة أو موته مباشرة إشارة رمزية إلى وجوب التخلص منه حتى لا يعكر صفو الحوطة الآمنة التي يرابط على حمايتها رجل صالح بصورة روحية يقظة، فأنواع الأفعال العدوانية على الحوطة متعددة، والدعوة –في ما يبدو- شاملة تتحقق في الأفراد بكيفيات مختلفة. وربما كانت الدعوات تدخل من وجهة نظر صاحب الحوطة في إطار مشروع إرشادي يتخذ خشونة الجزاء أسلوبًا مقابل خشونة الاعتداء، فالروحي في مقابل العملي، وغير المنظور في مقابل المنظور كلاهما يتمتع بقوة خشنة انطلاقا من واقع صراع اجتماعي ومعيشي كان سائدا يومئذٍ.
الهوامش:
1) ينظر الحرم والحوطة. الحمى المقدسة في الجزيرة العربية. روبرت سيرجنت، ترجمة محمد عطبوش (بحث مخطوط).
2) ينظر في رحاب تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر (أبحاث ودراسات) أ. د. عبدالله سعيد الجعيدي، الطبعة الأولى، مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر، المكلا، حضرموت 1437هـ -2016م، ص157-162.
3) ينظر الحوط، عمر عبدالله بامطرف (بحث مخطوط) وقد أخذت منه استدلالات هذه الورقة مع مقارنتها بأصولها. ويقارن بالجوهر الشفاف، في ذكر فضائل ومناقب السادة الأشراف من آل أبي علوي وغيرهم من الأولياء والصالحين والأكابر العراف من ساكني تريم، تأليف الإمام العارف بالله أبي محمد عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن، (مخطوط)، 1/129.
4) ينظر سيرجنت، مرجع سابق.
5) غرر البهاء الضوي ودرر الجمال البديع البهي في ذكر الأئمة الأمجاد والعلماء العارفين النقاد والفقهاء المبرزين الأسياد بني الشيخ بصري وبني الشيخ جديد وبني الشيخ علوي بني الشيخ عبدالله بن الشيخ أحمد بن عيسى الأشراف الحسنيين، تأليف الإمام العارف بالله المحدث محمد بن علي بن علوي خرد باعلوي الحسيني العلوي التريمي، الطبعة الثانية، ص553، وساعده مدرج ليس به مفصل كناية عن القوة وعدم الانثناء.
6) أدوار التاريخ الحضرمي، تأليف العلامة محمد بن أحمد الشاطري، الطبعة الثالثة، دار المهاجر للنشر والتوزيع، المدينة المنورة 1415هـ -1994م، ص309، نقلا عن مفتاح السعادة والخير في مناقب آل باقشير.
7) ينظر مقدمة ابن خلدون، ص.
8) مثل حضرمي.
9) ينظر الحوط، مرجع سابق، ويقارن بغرر البهاء الضوي، مرجع سابق، ص555.
10) الجوهر الشفاف، مرجع سابق، 2/160.
11) المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي، تأليف العلامة الجليل الحبيب العارف بالله تعالى محمد بن أبي بكر الشلي باعلوي، دار التراث للدراسات والنشر، 2/163.