محمد عمر باخريبة
● هناك رجال يصنعون التاريخ، يسجلون أسماءهم بأحرف من نور على صفحات تاريخ السودان الحديث، فيعيشوا في ذاكرة الأجيال على مرِّ العصور .
● إذا أردنا الحديث عن الشيخ المناضل: (أحمد عمر باخريبة)، لا بد أن نعود بالذاكرة قليلًا إلى الوراء حتى تكتمل الصورة لدى كثير من الناس الذين يجهلون تاريخه الوطني.
فوالده هو الشيخ: (عمر صالح باعمر باخريبة)، المولود في قرية خُريبة بمحافظة حضرموت باليمن. والذي اتخذ من مدينة المكلا مكانًا لإقامته، وعمل فيها بالتجارة، وتزوج منها، وأنجب فيها ابنه (أحمد) في عام 1878م.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 83
رابط العدد 27 : اضغط هنا
هاجر الشيخ عمر في عام 1886م متَّجهًا إلى السودان ومعه ابنه (أحمد)، ثُمَّ استقر بمدينة حلايب أولًا، ثم انتقل إلى (طوكر)، ومنها إلى مدينة (كسلا)، ثم في آخر المطاف استقر مع أسرته بمدينة ود مدني.
● شهدت مدينة ود مدني في تلك الفترة نشاطًا تجاريًا كبيرًا، وحلت بالمدينة أعدادٌ كثيرة من المهاجرين، فأصبحت عاصمة لمديرية النيل الأزرق، ومركزًا تجاريًا مهمًّا، وبرزت أهميتها الاقتصادية عندما تم إنشاء مشروع الجزيرة.
● ومع كل هذا الحراك الاقتصادي والاجتماعي نما الشعور الوطني في المدينة كغيرها من مدن السودان الأخرى، وبدأت مرحلة الحراك الثقافي والأدبي والوطني عبر تفعيل دَورِ الأندية؛ بهدف نشر الوعي، وخلق شعور قومي موحد؛ لتحقيق الحرية، ونبذ الظلم.
● برز دور المناضل: (أحمد باخريبة) وسط هذا الجو المفعم بالروح الوطنية، فكان مناضلًا ذا فكر ورأي متقدم في الحركة السياسية والاجتماعية بمدينة ود مدني، فكان مدافعًا عن حقوق المزارعين بمشروع الجزيرة بالسودان منذ البدايات التجريبية للمشروع، فعندما اتجهت نوايا الحكومة إلى نزع ملكية الأراضي ليكون المشروع ملكًا للدولة أصبح مدافعًا عن حقوق المزارعين بالمشروع، وحرَّض مزارعي المشروع ضد “تقديرات الضرائب وعملية بيع الأراضي”، ونتيجة لهذا الحراك تراجعت الحكومة عن قرارها بنزع الملكية، ولكنها قامت بإصدار قوانين خاصة بملكية الأراضي، فأصبحت الحكومة تستأجر الأراضي من مالكيها بمبالغ بخسة ولسنين طويلة، ومنعت بيع الأراضي بين الأفراد، وجعلته حكرًا عليها، وحدَّدت سعر الفدان الواحد ببضعة قروش، ومنعت تسجيل أي قطعة لوارث تكون مساحتها أقل من خمسة أفدنة، على أن لا يتم بيع أي حصص صغرى إلا للحكومة فقط، وقيدت مساحة الملكية على الأهالي لتكون أقل من ألف فدان للفرد الواحد .
● وبعد قيام (جمعية اللواء الأبيض) في مطلع عام 1924م – والتي تكونت من رحم جمعية الاتحاد السوداني السرية – وبدأت تنادي “بوحدة وادي النيل”، فتأسست لها فروع عدَّة في الأقاليم، وامتدت حتى الأبيض وعطبرة وود مدني وجبال النوبة، أوكل للمناضل: أحمد باخريبة تنظيم المزارعين في الجزيرة، وأصبح أحد أعضاء اللجنة الفرعية، ونائبًا لرئيس جمعية اللواء الأبيض بمديرية النيل الأزرق بمدينة ود مدني، وكانت له مراسلات واتصالات مع رئيس الجمعية المناضل: علي عبد اللطيف، فقام بإصدار عدد من المنشورات التي تهاجم الحكومة البريطانية في السودان.
● كان للمناضل (أحمد باخريبة) مواقف سياسية واجتماعية واضحة تجاه سياسات الإدارة البريطانية في السودان، وبصفته “نائب رئيس جمعية اللواء الأبيض بمديرية النيل الأزرق” قام بإرسال رسالة كانت بمثابة اتهام ضد عريضة الولاء لملك إنجلترا، وتم نشرها في صحيفة الأهرام المصرية في 31 يوليو من العام 1924م، مُتَّهِمًا فيها مدير المخابرات البريطانية، وكذلك صامويل بك عطية الموظف بإدارة المخابرات بقيامهما باستدعاء عُمَدِ البلاد ومشايخها، فطلبا منهم تحريض الأهالي، بالترغيب أو التهديد، للتوقيع على عريضة الولاء لملك إنجلترا والموجهة ضد الحكومة المصرية، وأتهمهما أيضًا بأنهما لم يقوما بواجب الأمانة للحكومة المصرية بصفتهما موظفين فيها، وأنهما قد أوعزا باعتقال كُلٍّ من: علي أفندي عبد اللطيف، والشيخ عمر صالح باخريبة، ومحمد أفندي هديب؛ لأنهم قاموا بمجاهرتهم ومناداتهم وتمسكهم بالوحدة مع مصر، كما اتهمهما أيضًا في تلك العريضة بتهديد قادة جمعية اللواء الأبيض بالاعتقال، أو العزل من الخدمة الحكومية، بسبب رفضهم التوقيع على عريضة الولاء لملك إنجلترا، وتمسكهم بالوحدة مع مصر، وإنهما أوعزا للأهالي بطرق مباشرة وغير مباشرة بالتوقيع علي تلك العريضة مقابل أن تقوم الحكومة بتخفيف الضرائب عنهم.
● انتقد المناضل أحمد باخريبة عريضة الولاء لملك إنجلترا، مُوضِحًا أن لا قيمة لها؛ لأنها جاءت بعد أن قامت الحكومة بالعمل على تقييد حرية الأهالي وفرض الأحكام العرفية، في جو غير معافًى، مطالبًا في الوقت نفسِهِ بأن يتم تعيين موظف مصري كبير في السودان، تكون مهمته مراقبة التوقيعات التي تتم على العريضة.
وذكر في رسالته نماذج الاستبداد والقهر الذي تمارسه الحكومة البريطانية على المواطنين السودانيين، ويتمثل في عدم توفر العدالة، وانعدام حق التقاضي للمواطن السوداني؛ إذْ لا سبيل له إلى مقاضاة أي إنجليزي، بل وتجاوز الأمر بتعدي الإنجليز بالضرب على كبار العلماء وأصحاب الفضيلة من السودانيين.
واستعرض في عريضته عددًا من المواقف التي قصد بها توجيه الإدانة المباشرة والواضحة للحكومة البريطانية، والتي تبرهن على سوء المعاملة والاضطهاد من جانب الحكومة البريطانية للسودانيين وذكر فيها:
○ قيام الحكومة البريطانية بمصادرة أملاك الأهالي وتسليمها للشركة الزراعية الإنجليزية، مما ترتب عليه حرمان الأيتام والأرامل من إرث هذه الأملاك.
○اغتصاب أراضي الجزيرة عن طريق الإيجار غير المجزي للأهالي.
○ فرض الضرائب الباهظة وابتداع ضريبة السكر، بالإضافة إلى الزيادات غير المقبولة وغير العادلة للعوائد، وكثرة الغرامات حتى للمخالفات الطفيفة.
○ ازدياد حالات رفع القضايا على الأهالي لنزع ملكيتهم للأراضي، والحصول على محاصيلهم، مع سرعة تنفيذ أحكام المحاكم لهذه القضايا لصالح الشركة الزراعية الإنجليزية.
○ استمرار الأحكام العرفية، والإساءة والإهانة المتعمدة للأهالي.
○ عدم المساواة في درجات الموظفين الأجانب والأهالي، والتمييز بينهم في المحاكم السودانية.
○ فرض مصاريف باهظة على الأهالي لتعليم أبنائهم في المدارس، تفوق إمكانياتهم؛ بغية تقييد إلحاق أبنائهم بالمدارس.
○ تعطيل الحكومة البريطانية لحزب الإصلاح، الذي أنشأه الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، رئيس علماء أمدرمان؛ بغرض التضييق على المفكرين الأحرار وتقييد حريَّاتهم.
○ مصادرة جميع العرائض الموقَّعة، والتي تنادي بالوحدة مع مصر.
○ إرغام الأهالي على الاشتراك في جريدة حضارة السودان، والتي كانت موالية للحكومة البريطانية، ومنع إصدار أي جريدة لتعبر عن آراء أحرار السودانيين.
● وإزاء القمع المتواصل الذي تمارسه الحكومة البريطانية على السودانيين، قامت جمعية اللواء الأبيض بتوزيع المنشورات، ونظَّمت المظاهرات في أمدرمان وعطبرة وبورتسودان ومدني في 19 يوليو، ثم أعقبتها أخرى في 23 يوليو من عام 1924م، وكانت تنادي باستقلال السودان والاتحاد مع مصر، جرح فيها العشرات وقامت الحكومة باعتقال العشرات، ونجحت جمعية اللواء الأبيض في إيصال الاحتجاجات إلى الصحف المصرية والإنجليزية.
● تنبهت الحكومة إلى الحراك الذي قامت به جمعية اللواء الأبيض ونشاطها الكبير، فبثَّت العيون لمنع استفحال أمرها، وبذلت كل جهودها للقضاء عليها، فعمدت إلى نقل أعضائها، من الموظفين، بعيدًا عن الخرطوم، وألقت القبض على أعضائها البارزين بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم، وتمت محاكمتهم بأحكام مختلفة، منها الإعدام، والسجن، والنفي والإبعاد.
● تم القبض على: (أحمد باخريبة) وصدر ضدَّه حكمٌ بالسجن ، والنفي من السودان، وبعد أن قضى عقوبة السجن قامت الحكومة بنفيه إلى مدينة (المكلا) بمحافظة حضرموت باليمن، ولم يمكث بها زمنًا طويلًا حتى قامت الحكومة بنفيه مجدَّدًا إلى مدينة (جُدَّة) ، بالمملكة العربية السعودية.
● وفي جدة قام بتأسيس المكتبة الحضرمية، التي صارت ملتقى لكل المثقفين وأهل الفكر والأدب، وكان يؤمُّها عدد كبير من الناس في الأمسيات، ويستمعون منه لدروس في الأدب والفكر والسياسة .
● تزوج (أحمد باخريبة) كريمة السيد (محمد محمود الخليفة)، والذي كان وكيل (الحسن الميرغني) زعيم طائفة الختمية بالسودان، ولقد رزق منها باثنين من الأبناء: (عبد الله) والذي تُوُفِّي صغيرًا، والدكتور (علي أحمد باخريبة)، بالإضافة إلى سبعٍ من البنات .
● وتزوَّج مرة أخرى في مدينة جُدَّة بالمملكة العربية السعودية بعد أن تم نفيه إليها، وله ابنةٌ وحيدة بالسعودية.
● في عام 1949م، تقدم ابنه الدكتور: (علي أحمد باخريبة) بالتماس لدى السلطات البريطانية لإلغاء قرار النفي والسماح لوالده بالعودة إلى السودان للعلاج ولرؤية أبنائه وأحفاده، وكان حينها قد بلغ من العمر (71) عامًا. لم توافق الحكومة البريطانية بالسودان على الالتماس بإلغاء قرار النفي، وقامت بمنحه أذنًا للحضور إلى السودان لقضاء أسبوعين فقط، وعند حضوره إلى السودان لم يمكث سوى أيام قليلة وتُوُفِّي بمدينة كسلا ودفن بها.
كان المناضل (أحمد عمر باخريبة) من الذين تنازلوا عن مكتسباتهم الشخصية من أجل أن ينعم الوطن بالحرية والديمقراطية، ومن الذين أقدموا على خطوات كانت دررًا في جبين كل منهم، وكانت لهم مآثر عظيمة، تناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل، تحكي عن رؤاهم وتطلعاتهم في النهوض بالوطن، فأصبحوا من الخالدين في الذاكرة الوطنية السودانية.
● حاشية:
لم ينحصر العمل السياسي في الأسرة في ذلك الوقت في الشيخ: أحمد عمر باخريبة فحسب، بل شمل كثيرًا من أفرادها، ونذكر في هذا الخصوص:
○ الدكتور مختار محمد محمود الخليفة: شقيق زوجته، وعضو جمعية الاتحاد السوداني.
○ علي محمد أرناؤوط: زوج ابنته، الذي شارك في أول مظاهرة لطلبة المدرسة الحربية ضد المستعمر البريطاني في أغسطس 1924م.
○ صالح عمر باخريبة: الأخ غير الشقيق، عضو جمعية اللواء الأبيض، والذي كان يقوم بإرسال المنشورات وأخبار جمعية اللواء الأبيض لمدن السودان ومديريَّاته، مسخِّرًا عمله كوكيل سفري في ذلك الوقت، وكان من المشاركين الفاعلين في مؤتمر الخريجين، ومن المؤسسين لحزب الأشقَّاء، الذي كان يرأسه الزعيم إسماعيل الأزهري.
○ عرفات محمد عبد الله: زوج أخت زوجته: عضو جمعية الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الأبيض ومؤسس مجلة الفجر.
تاريخنا نحن من يحكيه
السيرة الذاتية العائلية والأسرية للشيخ المرحوم: أحمد عمر باخريبة
(1878 م – 1949م)
(حياة ذاخرة وإرث خالد)
المولد والنشأة:
—————————–
المصادر والمراجع:
● خديجة زروق، موسوعة شخصيات ثورة 1924، دار الوثائق المركزية. (بدون تاريخ(.
● عمر محمد عبد الله الكارب، الجزيرة قصة مشروع ورحلة عمر، مركز الدراسات السودانية ، 1994.
● بروفسيور: محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان، الدار السودانية للكتب، 1980م.
● د. مبارك بابكر الريح ، ثورة 1924،القاهرة، 1952..
● د. محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث (1820-1955)، دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر، 2018.
● مها عبد الله حاج الأمين، من الاتحاد الى اللواء الأبيض – البطل الشهيد عبيد حاج الأمين مفجر ثورة 1924م، جزيرة الورد للنشر، القاهرة ، 2017.
● تاريخ الأسرة.