مبارك سالم مبارك باشحري بن خوار الكثيري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 88
رابط العدد 27 : اضغط هنا
أولًا: في الفرق بين الإصلاح والمصلحة:
إن الإصلاح قد نزع عوامل الفُرقة والتناحر والكراهية الذاتية، والمصلحة هي إضافة إلي إيجابيات المجتمع السابقة، التي تحلَّى بها وعرف بها، بشكلٍ يميِّز هُـوِيَّته وصفته من غيره.
وقد أجملْتُ في هذه المحاضرة الحديثَ عن النوعين (الإصلاح والمصلحة)، تاركًا للحضور المستمع أن يعمل ببديهته وثقافته فيهما؛ لثقتي فيه.
يعد الشيخ العلامة عبدالله بن محفوظ الحداد – رحمه الله – أحد نماذج مدرسة الإصلاح الاجتماعي من منظور ورؤية علماء الاجتماع الديني؛ إذ قسَموا العلماء ورجال الدين الإسلامي على أربع مجموعات: الإسلام الاجتماعي، والإسلام السياسي، والإسلام الصوفي، وإسلام فقهاء الحاكم.
ولا شك في أن الأسرة التي ينتمي إليها السيد العلامة لها دور رئيس في تكوين شخصيته بالتربية السليمة والصحيحة؛ لتجعله يختار موقعه ضمن تيار الإسلام الاجتماعي لا غير. ويأتي في المرتبة الثانية دور المجتمع في تلك الفترة بثقافته وخصوصيته، كما أن دور من تأثر بهم من أهل الفكر والثقافة ملموس في صقل شخصيته ووضوحها في اختيار المنحى الاجتماعي، سواءً من داخل حضرموت، أو اليمن، أو العالمَين: العربي والإسلامي.
تحمَّل الشيخُ الحدَّاد مسؤولية أسرته وهو في سن مبكرة من العمر، وتحمَّل أيضًا مهمة الوصيِّ الشرعي على أبناء جدِّه في ظل ظروف اقتصادية معيشية بالغة التعقيد والصعوبة من أعوام القرن الميلادي المنصرم.
كل ذلك من ظروف وتحمل مسؤولية وواقع تعيس وحسن تربية وسلامة فطرة ورواج ثقافة لنهضة العرب والإسلام حينها صاغَ شخصيَّة الحدَّاد؛ فقد كان مولده – رحمه الله – بعد أن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها عام 1923م، في تلك الفترة وما بعدها المتصلة بها تتميز كفترة إيجابية بما حملته من أحداث جسام تتصدرها الثقافة والتحرر من نير الاستعمار مكنت السيد العلامة عبدالله بن محفوظ الحداد أن يظل ضمن رموز الإسلام الاجتماعي ومجدِّدًا في الوقت نفسه لمدرسة جده الأول عبدالله بن علوي الحداد، المعروفة بشكل واضح لا لبسَ فيه بخدمة صلاح المجتمع، وشد لحمة المسلمين تطبيقًا عمليًا لقول الحق سبحانه: (فأصبحتم بنعمته إخوانًا)، ويتجلي ذلك بوضوح في كتبه الثلاثة: (النصائح الدينية) و(الدعوة التامة) و(المكاتبات).
عكس ذلك حقيقة استجابته للعمل الاجتماعي بغرض الإصلاح والمصلحة العامة بتجلي الصفات التي تبلورت للشيخ العلامة عبدالله بن محفوظ – رحمه الله – بسبب ذلك التفاعل الإيجابي، مجسِّدًا للتواضع والبساطة في حياته بسلوكه وعفة يده وزهده في متاع الدنيا، وقد سردْتُ في كتابي الذي سيصدر قريبًا جملة مواقف عملية وقعت وصدرت منه، تنمُّ وتؤكد على حقيقة شخصيته الوضاءة بكل تأكيد وقطع بات، وأيضًا ضممْتُ في كتابي جملة من صفاته وكياسة ذهنه في الإشكاليات التي تقع فجأة ويُحسِنُ التعامل معها والتصرُّف إزاءَها، مثل ما حصل معه من قبل الشيخ علي باحميش مفتي عدن بخصوص اختيار مواد الأحوال الشخصية المنتقاة والمختارة من مذاهب إسلامية عدَّة.
وأخيرًا توضيح ركائز مدرسته الفقهية التي تستند على تسهيل أمور المسلمين لا تعقيدها، بما يستند عليه من أقوال التابعين وبالأخص التابعي عطاء بن أبي رباح – رحمه الله – وكان كثير الترديد لتلك المقولات المنسجمة تمامًا مع اجتماعيته التي تميز بها.
وينبغي لي أن أوضح بضرب أمثلة واقعية حصلت من قبله أكدت على حرصه بإصلاح المجتمع وبما يعود عليه صلاحًا وفقًا لتيار الإسلام الاجتماعي الذي ينتمي إليه، منها:
أولًا: عنايته بتأليف كتاب (السنة والبدعة)، واهتمامه وحرصه على إصداره، وقد تم له ذلك، وخلاصة كتابه وغايته شد لحمة المسلمين عامة والحيلولة بينهم وبين صراعات ذاتية تلج إلى أفئدتهم لتصيرالذاتية وهمًا خالصًا، حصيلتها الصراعات؛ كونها ليست قضايا مادية حقيقية تستحق الاختلاف فيها، واتخاذ موقف منها ومن فاعلها، وبذلك أقام عليهم الحجة الشيخ العلامة – رحمه الله -، ومضى إلي سبيل ربه راضيًا مرضيًّا، مؤدِّيًا للأمانة والمهمة من حقيقة الاستخلاف في الأرض.
ثانيًا: بخصوص من يتشبث بضرب الدفوف مصاحبة لمولد النبي عليه الصلاة والسلام وآله في المساجد وهم من المجموعة التي يحسب عليها العلامة عبدالله بن محفوظ انتماء من قبل المتخذين موقفًا شرعيًا واجتماعيًا منه ومنها.
وقد جمعْتُ – أنا ملقي هذه المحاضرة – رسالة صغيرة في جواز ذلك، أي: وهو مصاحبة ضرب الدفوف إحياء الموالد النبوية عند قراءتها، وكان المشايخ في مدينة الشحر المحروسة يتصدَّرهم الشيخ عبدالكريم الملاحي – رحمه الله – من المتحمسين لطباعتها، فضلًا عن طلبتهم وأتباعهم، ولكن أخذي برأي السيد العلامة الحدَّاد – رحمه الله – الذي كان رأيه بعدم تحبيذ الطبع، وتعليله الذي يستند عليه كون الفعل أمرًا مستحدثًا ومختلفًا في جواز فعله وجمع كلمة المسلمين ممثلة بآراء مشايخهم يلزم الأخذ به وتنفيذه والتزاما به مقتنعًا به ضربْتُ صفحًا عن فكرة طباعته فلم تعد تراودني، مع التشبث بالقول بالجواز والحل بالفعل والأداء.
ويعد هذا الصنيع بعدم الطبع بكلِّ تأكيدٍ عملًا اجتماعيًا، ويدعو إليه دين الله الإسلام بمقاصده وروح تشريعاته، وبُعْدًا لفرقة المسلمين وإحداث التناحر فيما بينهم.
كما أن التوارد بضرب الأمثلة متنوعة في المجالات كافَّةً، بما تعود إليه غاية إصلاحية للمجتمع وشد لحمته، فضلًا عن استنادها على التعمق في فهم نصوص الشرع الحنيف.
من ذلك فتواهُ بجواز اصطحاب المرأة العطر، أي الطيب، وهي ذاهبة إلى بيتٍ ما فيه واجب، وهو إحياء مراسيم الزواج غالبًا، فتتطيب عند دخولها البيت بدلًا من أن تتطيب من بيتها؛ فهمًا للنصوص الخبرية: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” وغيرها من نصوص، ويسري ذلك على الأمر والنهي لصلة جامعة، وهي الوجوب فعلًا وتركًا.
وفي مجموع فتاواه المطبوعة كثير من مسائل قام بحلها من منظور مقاصد التشريع الإسلامي وروح التشريع، اللتان جاءتا لغايات اجتماعية، فسمة الإسلام أنه دينٌ اجتماعي لا فردي بإيلائه للحق العام أهمية لا ينالها الحق الخاص عند التصادم؛ لكون الحق العام صورته هي المجتمع كشكل مادي ملموس لتوضيح ما نعنيه بالحق العام للسائل عنه.
وهنا أود أن ألفت النظر إلى أن الذي مكَّن الشيخ العلامة عبدالله بن محفوظ – رحمه الله – أن يطوع النص والمعنى الشرعي هو عدم اكتفاؤه بظواهر نصوص التشريع الإسلامي، وذلك بالوقوف عليها وعدم الحَيدةِ عنها، بل بتمييزها والتعمق في المضمون بما يعود نفعُها لمصلحة المجتمع، فإلى جانب فطرته السليمة وتنوع قراءاته الأصولية بغرض التمكن من الاستمرارية في خدمة المجتمع وصلاحه، ساعدَه أيضًا على ذلك عمله القضائي، وأيضًا احتكاكه بكافة فصائل المجتمع وشرائحه، بدءًا بأول عمل امتهنه في حياته وزاوله، وهو فلاحة الأرض، ومن ثم المشاركة في منظمات المجتمع المدني المهتمة بالشأن العام، بما يعود نفعًا وصلاحًا للمجتمع، صونًا لكرامته وإبعادًا له عن الابتذال، خاتمًا ذلك السيد العلامة الحدَّاد حياته بما قد عرف وعلم الجميع عنه إذْ لم يكن في برج عال ولم يكن انطوائيًا أو متميزًا من غيره.
وقبل أن أختم هذا الحديث أود أن أحيط عنايتكم بكثير من مفردات كتابي القادم الذي أطمح أن تتيسر وتتهيأ له ظروف طباعته وفقًا لمنصوص الآية الشريفة (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)؛ لكون هذه المفردات تؤكد في مجموعها على عدم حيدة الشيخ العلامة الحدَّاد – رحمه الله – عن الطريق والتيار الذي اختاره، وهو الإسلام الاجتماعي لا غير.
وها هي أولى تطبيقاته العملية على مدار سني حياته مساهمته في تخفيف حدة المجاعة التي وقعت في أربعينيات القرن الميلادي المنصرم مع أهالي مدينته ومسقط رأسه الديس الشرقية، كانت مهنته فلاحة الأرض، فتبرع بالمحصول منها على ذوي الحاجة والفاقة كعمل اجتماعي، فضلًا عن المستور الديني الذي بينه وبين خالقه سبحانه العليم به فقط دون سواه.
وكذا وقوفه مع بعض الأسر في مدينته الديس الشرقية ضد تعسف نواب السلطنة القعيطية في أمور حقوقية لأشخاص من آل باخوار. وجزئيات القصة محتفظ بها المحاضر ولا توجد ضرورة سردها للحاضرين.
ويأتي اشتراكه في تأسيس الأندية الرياضية وأعني به نادي شباب الجنوب بمدينة الشحر حينما كان – رحمه الله – رئيس محكمة لواء الشحر، وقبل ابتعاثه لإكمال دراسته الجامعية بالخرطوم، وقد حدَّثني عن ذلك بنفسه.
كما أنَّ وقوفه ضد توجيهات سلطانية للتدخل في شؤون القضاة، وفي ذلك إثباتات محتفظون بها سنوردها ونضم صورة منها في كتابنا القادم عنه احتفاءً بذكراه – رحمه الله -.
ومثل ذلك اللواحق من الشواهد، وهي:
– دوره في تحريك ملفات القضايا المجمدة.
– دوره في إصدار صيغة جديدة لكتابة الدعوتين المدنية والشخصية.
– دور ه في إصدار قانون تأديب القضاة وعزلهم وتفعيله.
– دوره في إصدار قانون بمتابعة أخلاقيات وكلاء الشريعة.
– دوره بتوسيع مهام ووظيفة متولي العقود في القرى.
– دوره في تحويل كثير من قضايا جنائية غير شرعية للجهات الأمنية.
أما بخصوص منظمات المجتمع المدني وقواه فهي:
– مساهماته وحضوره مؤتمر قوى الشعب وهيئاته في المكتبة السلطانية عام 1964م.
– مساهماته بنجاح لقاء قوى المجتمع الحضرمي الذي دعت إليه الجبهة القومية بعد الاستقلال عن بريطانيا، وكان ضمن من شارك في ذلك اللقاء آل بن شملان التميمي وتحديدًا فيصل بن شملان – رحمه الله – بصفته الاجتماعية، كما حدَّثني بذلك العلّامة الحدَّاد – رحمه الله – بنفسه.
مجهوداته العلمية والثقافية:
– مشاركته في تكوين وجمع قانون الأحوال الشخصية فترة حكم الرئيس قحطان الشعبي بمعية الشيخ علي باحميش – رحمه الله – مفتي مدينة عدن حينها.
– تفرغه لحل مشاكل الناس بعد تقاعده.
– تعيينه محاضرًا في قسم اللغة العربية كلية التربية المكلا جامعة عدن.
– موقفه من مطلب سكرتارية منظمة الحزب الاشتراكي بحضرموت بخصوص الجماعات الإسلامية التي ظهرت حينها حديثًا فلم يستجب – رحمه الله – لغرض السكرتارية المنحصر في المهاجمة، واقترح الحوار وزرع بذرة للمفاهيم الإسلامية عبر قنوات رسمية، كما حدثني – رحمه الله – بذلك، غير أن قيادة السكرتارية لا يستطيعون تنظيميًا تجاوز وضوح نصية الجهات العليا في الحزب الموجهة إليهم حينها.
– موقفه من بعض الخلافات الفقهية، كإحياء المولد النبوي مصاحبة له الدفوف في المساجد كما أوضحته، وقضايا التزويج بين المختلفين سواء في البيئة، أو في خصوصيات اجتماعية متوارثة، وأيضًا قضايا عقائدية كانت حديث الساعة حينها، مثل الخوارق وما في حكمها.
– ومنها عضويته بلجنة حل قضايا البيوت المؤممة بعد عام 94م.
– انتدابه لفتح قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية المكلا جامعة عدن وتعيينه رئيسًا للقسم.
مجهوداته الاجتماعية:
– موقفه من غلاء الأسعار في خطبه للجمعة.
– دوره في تأسيس جامعة الأحقاف وجمعيتي تحفيظ القرآن الكريم ورعاية الأيتام.
– موقفه من مفهوم القضاء والقدر وحقيقة الإيمان المعتد به شرعًا كما جاء ذلك في خطبه للجمعة المطبوعة.
– موقفه من قبول رئاسة محكمة الاستئناف بحضرموت بعد عام 94م كما حدثني بذلك رحمه الله وهو اعتذار عن ذلك التكليف.
– موقفه من أحداث الضوراني رئيس نيابة استئناف حضرموت حينها ولا حاجة إلى سرد تفاصيلها.
– موقفه من جبي النظام السياسي بعد عام 94م لنصاب الزكاة لدى مكتب الواجبات في المحافظات، وحديثه مع حمود عباد وزير الأوقاف الأسبق وقد حضرْتُ واستمعْتُ لذلك الحديث الذي جري بينهما.
– القاعدة التي يستند عليها في الفتيا وهي التيسير وليس التشديد على الجمهور أو المستفتي وفتاواه المطبوعة والمخطوطة تبرهن على حقيقة الوصف الصحيح الذي وصفته به.
– علاقاته مع المختلف معهم اجتماعيًا ومذهبيًا دينيًا، بدليل أنَّ كثيرًا ممن لا ينتمون إلى تياره أو فرقته الاجتماعية الدينية ما زال متشبثًا بصلة علمية دينية معه الشيخ الحدَّاد – رحمه الله – فضلًا عن ثناء الكثير منهم وإقرارهم بمنهجيته العلمية ووسطيته في الرأي والمنحي.
– صفاته وما يتميز به وقد أشرت إليها في بداية هذه المحاضرة بشكل مجمل وموضع تفصيلها في كتابي القادم.
******
وختامًا لا يسعني إلا أن أكرر مطلبًا واحدًا أتقدم به إلى السلطة في حضرموت ممثلة بسعادة الأخ المحافظ الأستاذ مبخوت – حفظه الله – تسهيل مهام الدعوة إلى تأسيس جمعية علماء دين لإصلاح المجتمع وما في صلاحه للأشخاص الداعين إلى ذلك كحقوق اجتماعية تكفلها القوانين المدنية الحاضرة لمن يطمح إلى تجسيد ذلك على أرض الواقع إحياء من ناحية للهوية الحضرمية المتميزة والتي بسماحة أخلاق أبنائها نشرت الإسلام بالإقناع وبأخلاقهم الفاضلة، ويعد ذلك من قبلُ عملًا اجتماعيًا ذا أهمية ملحوظة، ومن ناحية أخرى أيضًا إحياءً لمدرسة العلامة عبدالله بن محفوظ الحدَّاد – رحمه الله – التي تعد قريبة عهد من وقتنا الحاضر لمعايشة الكثير من الحاضرين لفترة حياة الحدَّاد – رحمه الله – الذى عرف كأحد رموز تيار الإسلام الاجتماعي، وها نحن نحتفي بذكري وفاته في هذا اليوم بهذا الاجتماع الذي نظمناه شاكرين من أعماق قلوبنا جميعًا نحن الحضور بمن قام وأسهم في ميلاد هذا الاجتماع وتحقيقه متجسدًا على أرض الواقع.
———————————————
محاضرة ألقيت في رباط مسجد الروضة المكلا بمناسبة ذكرى وفاة المرحوم العلامة مساء الأربعاء ليلة الخميس في 11 جمادى الآخرة عام 1444هـ.