يسلم سالم خراز
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 93
رابط العدد 27 : اضغط هنا
المفلح مسحراتي شبام حضرموت منذ 4 قرون بالوراثة التي ورثـتْها أسرة آل خراز أبًا عن جدٍّ إلى يومنا هذا، لازالت تمارس طيلة شهر رمضان دون كلل أو ملل، ونتيجة العمران في المدينة وإنشاء مناطق حواليها، مثل منطقة سحيل شبام، وسباخ شبام، ومنطقة شقية شبام، ومنطقة خمير شبام، وكلها تابعة لمدينة شبام، الأمر الذي حمل مجموعة شباب من أهل المناطق ليقوموا بمزاولة هذا الموروث بعد استئذان أسرة آل خراز بمزاولة ذلك الموروث.
ورغم أدوات التنبيه العصرية فلا يزال سكان مدينة شبام التاريخية شرقي اليمن يعتمدون على الاستيقاظ للسحور على إيقاعات “المُفلّح”، جاءت التسمية من “الفلاح” التي يُطلقها السكان على وجبة السحور..
فلايزال الموروث الرمضاني “المُفلح” حاضرًا بقوة في مدينة شبام اليمنية الواقعة بمحافظة حضرموت شرقي البلاد، وتتوارثه عائلة آل “خراز” أبًا عن جدٍّ منذ أربعة قرون متواصلة.
وأطلق أهالي مدينة شبام أول مدينة ناطحات سحاب مبنية من الطين في العالم، مسمى “المُفلح” على الشخص الذي يقوم بموروث ما يطلق عليه في البلدان الأخرى بـ”المسحَّراتي”.
ومدينة شبام أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” على قائمة التراث الإنساني الدولي عام 1982م.
مراسل الأناضول، رافق في إحدى ليالي رمضان “المُفلّح”، رياض جمعان خراز (40 عامًا)، الذي يمارس موروث “المسحَّراتي” بمدينة شبام التاريخية التي يحيط بها سور ارتفاعه من أربعة إلى تسعة أمتار.
يقول رياض، للأناضول، إن عائلته، توارثتْ هذا الإرث الرمضاني بمدينة شبام القديمة (اشتهرت في القرن الرابع الميلادي) أبًا عن جدٍّ، منذ أربعة قرون.
ففي تمام الساعة الواحدة من كل ليلة في رمضان، يبدأ “رياض” وشخص آخر من الأسرة مُهِمَّتَهُمْ من أمام القصر، وينطلقون عبر خط سير محدَّدٍ، كان يمشي عليه أجدادهم أثناء القيام بمهمة “المسحراتي”.
ويميز خط السير الذي يمشون عليه “المفلح” أنهم به يشملون كل الأحياء داخل المدينة المتراصة والمتلاصقة منازلها، البالغ عددها أكثر من 465 منزلًا ومبنًى.
ويحمل “مفلح” شبام آلةً تُسمَّى “الهاجر”، (آلة إيقاعية) يؤدِّي من خلالها أصواتًا إيقاعية، وينشد أبياتًا شعرية تختلف كل عشرة أيام برمضان،أبيات لكل عشرة أيام.
وعلى إيقاعات “الهاجر” يردد “خراز” في العشر الأولى من شهر رمضان “رحبوا رحبوا برمضان يا صائمين، رحبوا برمضان شهر رب العالمين، رحبت مكة وأهلها بالزائرين”.
اما في العشر الوسطى، فينشد “المفلّح”، “نسيم الصباحي من عشية وبكره نسنسي (الرياح الخفيفة اللطيفة التي تهب مطلع الفجر)، وغبشي (الاستيقاظ المبكر والذهاب للعمل)، يا سليمان عاد الله يرد العوائد، عادها تنجلي عنا الهموم والشدائد، بالمسرة تقع أيام سرنا يا سعد، بالرجال لي زانت في صفوف المساجد”. وفي العشر الأواخر من رمضان، يردد أبيات التوديع لشهر رمضان “ودعوا شهر رمضان يا صائمين، شهر رب العالمين، عاده الله علينا وعليكم أجمعين، ودعت مكة وأهلها بالزائرين، محمد شفيعي هو خير الشافعين”.
ورغم وجود أدوات التنبيه الحديثة المتطورة، فإنَّ سكان مدينة شبام يعتمدون – كما يقول “رياض” – في استيقاظهم للسحور على عادة “المفلح”.
وأشار إلى أن عائلته تمارس هذا الإرث دون أي تشجيع أو مقابل من الجهات الرسمية، مضيفًا: “هذا عمل طوعي لوجه الله، ولفت إلى أنَّ ثمَّةَ عوامل أخرى ساعدت العائلة على الاستمرار في هذا المورث، تتمثل في حب العائلة لهذا العمل، ولكي تحافظ على تاريخ وتراث مدينة شبام.
وأثناء مرور “المفلح” في الأزقة والممرات بين المنازل، يحرص الأطفال على مرافقته وترديد الأهازيج والأبيات الشعرية.
ويتوقف “المفلح” عن إيقاعاته وترديد أبياته عند المرور أمام المساجد، البالغ عددها سبعة في المدينة، وعقب تجاوزها يعاود مواصلًا دق “الهاجر” والتغني بالأبيات.
وعند وصوله إلى ساحات المدينة الأربع الرئيسة، يتوقف “المفلح” فيها دقائق معدودة على إيقاعات “الهاجر”، مردِّدًا أبياته حتى يصل صوته إلى المنازل المجاورة للساحة.
ووجَّهَ “خراز” رسالة إلى الجهات الرسمية بضرورة الحفاظ على هذه العادات والتقاليد؛ لما تمثله من قيمة في مدينة شبام، التي أدرجتها “اليونسكو” في 1982م كإحدى المدن المدرجة في قائمة مواقع التراث العالمي المعرّضة للخطر.
ويلقى “المفلّح” في شبام ترحيبًا واحترامًا من الأهالي، والمارَّة في الأزقَّة والشوارع العامة بالمدينة القديمة التي يقطنها أكثر من 3 آلاف نسمة.
وكان آباؤنا وأجدادنا سابقًا وفي ليلة النصف من رمضان يتجمَّع كبار السن من قبيلة آل خراز ومجموعة من أهالي شبام في مكانٍ معين، وتسمى هذه الجلسة بمسمى القصباه، أو ليلة القصب بحسب مسمَّيات آل خراز، يتجمعون في المكان المحدد وينشدون قصائدهم مع الضرب على الهاجر، وفي أثناء جلستهم يشاركون الأهل والجيران بتقديم الشاي والقهوة لهم والحلوى والأكلات الشعبية، ومن ثم يقومون بممارسة التفليح.
وفي ليلة الثامن والعشرين من رمضان، تقام بالمدينة فعالية في الصباح تسمى “الوريقة”، ويتخلَّلها فقرات فنية تراثية، ويقدم بعض الأهالي بشكل طوعي هدايا مادية ونقدية للمسحَّراتي؛ تقديرًا لدوره في إيقاظ الأهالي للسحور طيلة شهر رمضان.
وعلى منوال المدينة القديمة، تحرص القرى في ضواحي شبام على ممارسة إرث “المفلح”، فهناك سبعة “مفلِّحين” من أسر أخرى في تلك المناطق بعد أخذهم الإن من أسرة آل خراز؛ كون الموروث فيهم ومن خاصَّتهم.
وتضم منازل شبام التي ينعتها البعض بـ”العالية”، وبـ”شيكاغو أو مانهاتن الصحراء” خمسة إلى ثمانية طوابق ولها بوابتان وحيدتان رئيستان للدخول، إحداهن كبيرة لدخول القوافل من الجمال سابقًا قبل ظهور السيارات والعربات حديثًا، والأخرى للمارَّة والنسوان.
هكذا هي شبام بطابعها الأثري لم ولن تتخلَّى عن موروثاتها من قديم الزمان.
حفظ الله شبام وسكانها وجنَّبها الله كلَّ مكروه لتظل شامخةً ببنيانها وموروثها وآثارها التاريخية.