أ. علي سالم اليزيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 96
رابط العدد 27 : اضغط هنا
بعد 85 سنة من الإرسال الإذاعي، والعمل الفكري والإعلامي يتوقف القسم العربي من الإذاعة البريطانية الـ BBC، وتنتهي إلى الأبد، إذاعة عشنا معها سنوات طويلة من عمرنا، وعاش معها آباؤنا سنوات طويلة أيضًا، بل ارتبطتً بحياتهم وأثرت في تفكيرهم، وكانت بمثابة عشق يومي لصوت المذيعين أو دقات، ساعة البنق، بنق، بترنيمتها الرنانة والعابرة للآذان، والتي تجعلك تقف وتنصت ولو لمقدمة النشرة.
فقد أدَّت إذاعة لندن دورًا كبيرًا ومؤثرًا في حياتنا وفي حياة كل الشعوب العربية، ودخلتْ كلَّ بيت، وجلس المستمع العربي في المقهى يُنصت إلى الراديو التقليدي القديم لـ(هنا لندن) باهتمام بليغ وفيه شجن ولهفة وترقب، وكان المواطن العربي في عدن والشحر وبغداد ومراكش والقاهرة يعطي ثقة واهتمامًا كبيرين لإذاعة لندن في أخبارها، والإنصات باهتمام لما تقول أو تنقل الخبر عبر المذيع منذ الصباح الباكر، بل كان يفضِّلها على سماع إذاعة بلده، مع قلة الإذاعات العربية في الخمسينيات والستينيات وحجب كثير من الأخبار المحلية عن مواطنيها، فيما يحصلون على ما يخفى عنهم عبر إذاعة الـبي بي سي، أو ما لا تذيعه الإذاعة الوطنية وسياسات الحكم في البلدان العربية.
كانت مدينة المكلا تتميز بوجود مقاهٍ منتشرة منذ خمسينيات القرن الماضي، وبها راديو كبير من الخشب، في مكان ينظر إليه الناس ويسمعون صوته، وكان صوتُ (هنا لندن) هو الذي يجعل من هذا المقهى أو ذاك متميزًا ومليئًا بالروَّاد منذ الصباح الباكر، وتميزتْ مدينة الشحر بهذا أيضًا، وقد ظهرت مقهى بازهير، ومقهى الجيب، ومقهى بن عروة، ومقهى سالمين خييرة في مدينة المكلا، بامتلاك الراديو وإذاعة لندن في فترات الصباح ثم الظهيرة وبعد العصر، وتكتظ المقاهي، بالروَّاد من مختلف الطبقات وهم يتابعون الإذاعة البريطانية وخصوصًا في المساء وتقاريرها المتميزة.
إذاعة البي بي سي من لندن نقلت وقائع وخطاب تولي السلطان غالب بن عوض القعيطي عام 1966م من مدينة المكلا وأذاعت فقراتٍ من خطاب العرش ونواياه، الجديدة، وسمعت، المكلا الخبر بارتياح.
كنتُ قد علقتُ أو عرفت إذاعة لندن من فترة مبكرة من حياتي ولم أعِ بعد، ما هذا الذي يلقي بحديثه الجهوري والقوي، الذي تهتز له أذناي الصغيرتان في قرية الريان أو محطة الريان ومطاره القديم حيث كنا برفقة والدي، الذي كان يعمل هناك زمن الإنجليز، وهي قاعدة صغيرة للطيران ومطار ترابي مدني، أيضًا لطيران خطوط عدن في، الستينيات، وفي منتصف الخمسينيات قدَّم المهندس العم محمد عبدالله العدني من عدن ليعمل في محطة كهرباء الريان، وتزوج من إحدى قريباتنا وعاش ومات بالمكلا، واستقدم راديو وحيدًا في القرية الصامتة، يصل مدى هذا الراديو بصوته القرية كلها، بل ولمسافة أبعد بحكم ذلك الزمن وهدوئه التام، وكنت أسمع أغاني فايزة أحمد، يمَّه القمر، ع الباب، وتتكرر على أذني كلمة فلسطين ومصر إلخ، وبعد أن وعيت كنت أحيانا أرافق والدي إلى عمله أو في نوباته الليلية، وحينها يطلبون من الموظف الإنجليزي الأصل القائم على اللاسلكي أو كما ينطقونه (الواير لس)، أن يفتح موجة إذاعة الـ BBC بالعربي، وينصتون إلى نشرة الساعة السابعة وزمن المذيع مصطفى رمضان، أو رشيدة المدفعي، وكان ينزوي بعيدًا ولا يتدخل، بل علمني حينًا كيف أضبط الرقم على موجة الإذاعة وصوتها القادم، وأميّزه من الذبذبات الأخرى هذه حكايتي الأولى.
أما حكايتي الأخرى مع الـ BBC حين التحقت بالمدرسة في مدينة المكلا، وفترة معرفة أو مشاهدة الراديو المعلق أعلى المقهى والنظر إليه، لكن أبرز ما يحتفظ به، خاطري هو صوت إذاعة البي، بي، سي صباحًا؛ لأننا نصحو مبكِّرين ولدينا طلب أهلنا قبل الذهاب للمدرسة، وهي جلب القضب أو البرسيم لأغنامنا، من خارج مدينة المكلا، أي عند سدَّة المكلا، التي حُطِّمتْ بعدَ الاستقلال بستة أشهر رفضًا لرمزيَّـتها السلاطينية المبادة؛ إذ أول ما نسمعه فور خروجنا إلى الشارع صوت راديو مقهى الحافة الذي يديره ومالكه عبدالله بن عون الملقب (كلبو) بجنب مسجد بازرعة، ودويّ صوت المذيع، وأخبار بيانات حرب عدن والتحرير، ومكاوي والتعليق على أخبار جمال عبدالناصر أو خطاباته الساخنة آنذاك، ثم أغاني شادية وصباح وكارم محمود، وأيضًا نذهب إلى مكتبة الرسدنسي التابعة للمستشارية البريطانية، وهناك نحصل على مجلة هنا لندن، فنقرأ هذه المجلة في مكتب الاستعلامات، التابع أيضًا للمستشارية في سكة يعقوب، ويديره شخص لطيف، اسمه سعيود، ويفتح على فترتين. وحين كبرنا وصلتنا هذه المجلة من إذاعة لندن مباشرة عبر البريد، وكنا نسعد؛ لما بها من جهد وثقافة ومواضيع مفيدة ورائعة جدًا.
ولم تنقطع علاقتي بإذاعة الـ BBC القسم العربي بالإذاعة البريطانية، فكنا نتابع، برامج الرياضة، وافطيم قريطم، ونقل المباراة الخيرية من ملعب ويمبلي بلندن والمعلقين أنور، بشوتي وأكرم، صالح، ثم لاحقتني إذاعة القسم العربي من لندن إلى مينسك بروسيا البيضاء ومنها، استمعت، إلى البيانات وأخبار الأحداث المؤلمة في يناير 1986م في عدن، وربطتُ أريل مضافًا بالراديو، وجعلتها تشتغل طوال اليوم لأنها أعطتنا الحقائق لما كان يدور في عدن، وكانت غرفتي مركز أخبار البي، البي سي يومها. وكيف كان يأتي إليَّ كثير من طلابنا من الداخليات المتناثرة بالمدينة.
ولحضرموت حصة من تاريخ إذاعة BBC بالعربي قبل نصف قرن ونيف، فقد زارها اثنان من القادة العسكريين الحضارم في الستينيات، هما عمر سالم باشامي، وسالم عمر الجوهي، وجلسا أمام ميكرفونها الشهير، كما زارها السلطان صالح بن غالب القعيطي وأهدى إلى القسم بعض الأسطوانات لأغانٍ حضرمية، وكنا نستمع منها لأغاني الفنان شيخ البار ومحمد جمعة خان.
أغلقت هذه الإذاعة إلى الأبد، ومهما قيل عنها في بعض الأزمنة عندنا وما رافق، من التحفظ والخوف من الاستماع إليها، لنكهتها الاستعمارية، وخلاف الثوريين في أكثر من بلد عربي معها، غير أنها كانت راقية ورفيعة المستوى من حيث الأداء ونطق المذيع وضبط اللغة العربية، والمعلومات والبرامج المفيدة، إلى حدِّ وصفها البعض ممَّن أُولِعُوا، بها إنَّها بمثابة جامعة وحدها، وإنها ترفع من مستوى الإنسان العادي، وتصنع منه مثقفًا إذا أراد.