مسعود علي الغتنيني
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 100
رابط العدد 27 : اضغط هنا
(1)
مع تباشير الصباح الباكر، خرج علي بن عمرو من قريته سرار، يعذ الخطى إلى مدينة ريدة، عبدالودود يحمل بندقيته على كتفه، تلك البندقية التي لا يتخلى عنها كعادة أهل بلدته المشقاص في ذلك الوقت، الذي يضج بالصراعات القبلية، لم يكن بينه عداء مع أحد، ولكنها تلك عادتهم، يتذكر ابن عمه البارع في الرماية، والذي لا يقل شأنًا عنه عندما طلب منه جاره المسن، الذي أصيب بمرض جلدي، ووصف له دم الغراب كدواء، فلجأ إليه كونه (مصيوتًا) في الضرب، رغم أن الغراب طائر حذر وحذق، ولكنه لم يكن أحذق منه، فهو يصيد الطيور وهي في الهواء، انتظر في ترقب وحذر حتى شاهد جماعة من الغربان، وهي تحط على نخلة سامقة مشارف القرية، ثم انتظر حتى اصطف ثلاثة غربان في صف واحد، فأطلق عليهم النار فأرداهم بطلقة واحدة، ثم أخذهم إلى جاره المريض الذي شكر له صنعه، وقصصه في الرماية كثيرة متداولة، ومهارته هذه أهَّلتْه فيما بعد ليكون أحد أفراد جيش البادية الحضرمي المعدودين.
كان مقصد علي بن عمرو واضحًا في رحلته إلى مدينة الريدة، فقد كان يقصد بيت ابن عمه الآخر هناك، لأخذه معه في رحلته القادمة إلى دولة الكويت، فقد ضاقت أرض المشقاص بما رحبت بسُكَّانها، استبد بهم الفقر والمرض وشظف العيش، فأخذوا ييممون وجهتهم تلقاء دول الخليج العربي، وخاصة دولة الكويت، كانت هذه الدول وجهتهم الثانية بعد السواحل الأفريقية.
طوى علي بن عمرو الأرض طيًّا، حتى وصل سوق الريدة، أخذ يسأل عن بيت عمه، كان هناك مجموعة من الصبية يلعبون، التقط أحدهم الاسم فهرع إليه وشدَّ يده:
-نا عرفه بيت سعيد بن عبود.
-دلنا عليه.
تقدَّم الفتى بخطوات واثقة إلى الجهة الجنوبية من مدينة الريدة وهو يتبعه، كانت مفاجأته كبيرة عندما علم أن هذا الفتى النحيل الذي يرشده إلى الطريق لم يكن سوى ابن عمه الذي أتى باحثًا عنه ليصطحبه معه إلى الكويت؛ إذْ لم يسبق له أن التقى به من قبل، كان والده قد توفي قبل فترة ليست بالطويلة، لذا قصد والدته لسيتأذنها في أخذه معه، وصلا إلى البيت، فرحبت به ترحيبًا حارًّا فهي تعرفه من قبل، وفاتحها في الأمر:
– باشل عبود معي للكويت، الناس كلها ع تسافر، البلاد معاد تخارج.
– ماعندي مانع بس الشور شور عبود.
– هاه عبود بغيت معي الكويت؟.
-نعم نا مستعد، متى السفر؟.
– بامر عليك بعد اسبوع جهّز نفسك.
لقد تم إنجاز المهمة بكل سهولة ويسر، فقد توقع أن يكون هناك رفض من عبود وأمه؛ فهو لم يزل صغيرًا والسفر به مشقة وبعد عن الأهل، إلا أن الأوضاع التي يعيشها الناس كانت أكبر من المعاناة التي يتوقعونها في سفرهم، لذا كان الناس يزحفون إلى الكويت زرافات ووحدانًا، عاد علي بن عمرو إلى قريته بعد أن قُدم له واجب الضيافة يغمره الفرح على إنجاز مهمته بنجاح.
(2)
بعد أسبوع كانت منطقة سرار تضج بحركة غير عادية، أصوات ترتفع ودعوات تتلى، ثغاء ورغاء يختلط بأصوات الناس التي تقاطرت إلى مشارف القرية، فقد كان هذا أكبر عددًا من أبناء القرية يسافرون مع بعض، كان المسافرون من جميع الأعمار أطفالًا وشباًبا وكُهُولًا، خرجت القرية تودِّعهم، كانت هناك شاحنة نقل (زيزو) بانتظارهم، ركب الجميع على سطحها، وقفت عجوز هناك تتشبث بابنها تحاول منعه من السفر، وهو لا يأبه لها، أخذ يعالجها حتى تفلت منها، ركب الشاحنة في خفَّة، أخذت تطلق كلماتها البذيئة ودعواتها عليه وعلى جموع المسافرين، الذين لم يُعِيرُوها أي اهتمام، تقدمت امرأة أخرى حديثة الزواج، تشكو زوجها وتحاول منعه من السفر، تقدم لها أحد شيوخ القرية:
– ويش بك يا مراة، خلي الرجال يشوف رزقه.
– زوجي مسافر، وني يتيمة، وما معي مصاريف، ولا حد بيصرف عليني وهو مسافر.
– كم مصاريفك في شهر؟.
– خمستعشر شلي.
– مصاريفك علينا لما يشتغل زوجك ويرسل لك مصاريف.
حلت المشكلة في حينها. اصطف جموع المودعين، يشيِّعون (الزيزو)، وهو يتهادى في طريقه الترابي متجهًا إلى الريدة، في ظهيرة ذلك اليوم. كان الجميع مشغولون بالوداع، بينما علي بن عمرو، شارد الذهن يفكر في ابن عمه هل لازال عند وعده بالسفر؟ أم غيّر رأيه؟، فمدة الأسبوع طويلة ربما أثّر عليه أحدهم خلال هذه المدة، وقد كانت فرحته كبيرة عند وصوله إلى الريدة فقد وجده بانتظاره، وما أن رأى الشاحنة حتى ودَّع أمه وداعًا حارًّا وانطلق باتجاهها، فاستقبله أبناء عمومته بحفاوة بالغة فهم أول مرة يلتقون به، وقد سبق أن حدَّثهم عنه علي بن عمرو.
غادرت الشاحنة الريدة متجهة إلى دمخ حساي، حيث ينتظرهم (لنش) السلطان هناك، وصلوا بُعيد صلاة العشاء إلى ساحل الدمخ، وقد أخذ منهم التعب مأخذه، ولأنهم أهل بحر وطالما اشتغلوا في هذه السواحل في (الجُرف) بعيدًا عن منطقتهم في تتبعهم للعيد، فلم يجدوا صعوبة في التكيف مع هذا الوضع، ولأن الجو كان باردًا ولم يكن معهم من الملابس مايقيهم ذلك البرد، فقد احتفر كل واحد منهم حفرة في رمال الشاطئ، واندس فيها إلى الصباح، ومع تباشير الصباح أخذ كل منهم يوقظ الآخر، كان لنش السلطان على مرمى حجر منهم في عرض البحر، فاتجهوا إلى أصحاب السنابيق المنتشرة على الشاطئ لنقلهم إلى اللنش إلا إنهم تمنعوا، فقام أحد كبار القوم بالصراخ فيهم وطلب من أصحابه أخذ السنابيق عنوة:
– نتم هيل بحر، كوّروا السنابيق وطلعوا.
وأخذ يكوّر أحد السنابيق فتبعه البقية في ظل صمت من ملاك السنابيق، الذين أخذهم الذهول.
كوروا السنابيق وانطلقوا، ثم عاد بعضهم بالسنابيق، وبقي هذا الشيخ على الشاطئ حتى تأكد من طلوع كل أصحابه، وعاد أحدهم بآخر سنبوق، ثم طلب من أحد الحاضرين إيصالهم إلى اللنش فلم يمانع هذه المرة.
(3)
كان لنش السلطان من اللنشات القليلة، التي تنقل المسافرين بين السواحل اليمنية والأفريقية ودول الخليج العربي وخاصة الكويت، وهو يعود لسلطان رأس الخيمة، وهو نوخذة السنبوق، والربان والبحرية من أقاربه، كان اللنش يضج بالمسافرين من مناطق وجنسيات مختلفة أكثر من أربعمائة راكب يملأون كل جزء منه، بالإضافة إلى الحمول من تمر وسمن ولخم، كان النوخذة حكيمًا وهو الذي يدير شؤون هذا الجمع الكبير من المسافرين، أمَّا الربان فقد كان نزقًا ضيق الخلق، أخذ اللنش يتهادى في انسيابية متجهًا باتجاه المهرة، وكان له عدد من الأشرعة العملاقة بالإضافة إلى المكينة التي يستعملها فقط عند سكون الريح، عند وصلوهم إلى قشن، (طرّح) اللنش في المرسى، وسمح للركاب بالنزول للتزود بحاجياتهم من الطعام والمؤن، أما هو فقد خرج في مهمة أخرى لا تقل أهمية عن التزود بالمؤن، فقد اتجه إلى سلطان المهرة، لأخذ تصاريح للركاب الذين معه، وجُلُّهم من الحضارمة والمهرة، فيما يشبه الجوازات لتمكينهم من دخول الكويت دون مشقة، فسلطنات الجنوب العربي ودولة الكويت محميات بريطانية، ويتم تجديد تلك التصاريح عند انتهاء مدَّتها عبر السفارة البريطانية في الكويت، عاد السلطان إلى اللنش يحمل التصاريح، وعاد الركاب يحملون مؤنهم، وانطلقوا باتجاه (خور فكان) محطتهم التالية.
(4)
كان اللنش يضج بالركاب، وكانت هناك مشقة في ترتيب تلك الجموع، خاصة فيما يتعلق بالخدمة، فكل مجموعة تخدم نفسها بنفسها، وعليها أن تنتظر دورها لتجد فرصة إلى (الصردان) مطبخ اللنش لتطهو طعامها، والذي هو – غالبًا – الأرز والسمك، الذي يتم صيده من على حواف اللنش. انتظر علي بن عمرو دوره والذي امتد لساعات، في حين كان بقية رفاقه في (الخن) ينتظرونه، ولم يكد الدور يصل إليه حتى أقبل الربان يريد أن يتقدم عليه ليطبخ، إلا أنه رفض تقدمه فهو قبله وقد انتظر دوره لساعات فلم يمكنه من التقدم، وحصلت بينهما مشادة قام علي بن عمرو في إثرها بضرب الربان على جبهته بملعقة كانت في يده فطرحه أرضًا وأخذت الدماء تتدفق منه، ساد الهرج والمرج، وتجمع البحرية يحاولون الإيقاع به، إلا أن الركاب وقفوا معه وأخبروهم أن الربان هو سبب هذه المشاجرة، وأنه المعتدي، وانقسم الركاب قسمين: قسم مع علي بن عمرو، وآخرُ مع الربان وبحريته، وكانت ستقع فتنة عظيمة.
رمى الربان وبحارته (باورة) اللنش، ورفضوا تحركه حتى يقتصوا من علي بن عمرو، والذي رفض الاستسلام لهم، يسانده من معه من الركاب، وكل ذلك جرى دون علم أصحابه الذين يقبعون في الخن بانتظار الطعام، كان السلطان حكيمًا، وهو نوخذة اللنش المخضرم، فطلب من الربان وعلي بن عمرو التقدم، وقصوا الذي جرى بينهما، وروَوْا له القصة، فعلم أن الربان هو سبب المشكلة، كان الربان مُصِرًّا على إخراج الدم من رأس علي بن عمرو، كما أخرج الدم من رأسه.
حرص السلطان على إنهاء هذه المشكلة قبل أن تستفحل، فتقدم إلى علي بن عمرو ورفع الملعقة في وجهه وبدل أن يضربه بها ضرب بها وجه نفسه بخفة وقوة حتى سال الدم منه، وخاطب الربان:
-هذا الدم الذي طلبته.
ورفع يده بالدم الذي أخذ يتدفق بغزارة من جبهته.
ثم خاطب البحرية مزمجرًا:
– ارفعوا الباورة، وأبحروا فقد انتهت المشكلة.
أسرع البحرية فرفعوا الباورة، وأطلقوا العنان للنش لمواصلة الإبحار.
كان علي بن عمرو يقف مذهولًا مما صنع السلطان، وشعر بالندم، وتمنى لو كان الدم خرج من رأسه لا من رأس السلطان، وأكبرَ فعلةَ السلطان تلك.
كان علي بن عمرو تربطه بالسلطان معرفة ومودة من رحلته السابقة، فلقد أكبر السلطان فيه شهامته وشجاعته وتفانيه في خدمة الآخرين، كما كان يعرف أن الربان به طيش ونزق، وأن علي بن بن عمرو صادق في كلامه، والذي أكَّده الركاب، ولم يصدق كلام الربان وبحريته ومن وقف معهم.
(5)
سار اللنش في انسيابية متجهًا إلى خور فكان، تدفعه ريح طيبة، جلس علي بن عمرو في طرف اللنش، وجلس إليه أحد ركاب اللنش صومالي الجنسية، رأى علي بن عمرو يقرأ القرآن في مصحف كان معه، فاقترب منه وسأله أن يعلِّمه شيئًا من القرآن، فلم يبخل عليه بما عنده، كان علي بن عمرو قد درس القراءة والكتابة في كتّاب القرية، الذي كان يدرّس فيه عمه جموعَ الطلبة من أبناء القرية والقرى المجاورة، فدرس على يديه القراءة والكتابة والقرآن وشيئًا من الفقه والحساب، كان الصومالي يجيد الإنجليزية، لذا عقد علي بن عمرو معه صفقة، أن يدرسه اللغة العربية والقرآن، على أن يدرسه الصومالي الإنجليزية خلال مدة سفرهم، نشأت بينهم صداقة حقيقية، عزَّزتْها رغبة كل منهما في ما لدى الآخر من معارف وعلم، هما بأمس الحاجة إليه، في حين كان الركاب يقضون وقتهم في لعب الورقة والضمنة، وكان علي بن عمرو يقضي وقته مع رفيقه يدرّس كل منهما الآخر، فإذا انتهوا أخرجوا عدة الصيد، فأخذوا يصطادون من على (تل) اللنش أنواع الأسماك، يتقاسمونها مع رفاق الرحلة.
(6)
أخيرًا وصل اللنش خور فكان، وألقى مراسيه هناك، وسمح النوخذة للركاب بالنزول والتزود بالمؤن، فما زالت الرحلة أمامهم طويلة، كان النزول إلى البر فرصة للتزود والترويح عن النفس بعد أيام الإبحار المجهدة، كانت خور فكان محطة توقف في كل الرحلات إلى الكويت في لنش السلطان، يقضي هناك أيامًا عدَّة قبل أن يواصل الإبحار، كانت محطته التالية في إمارته رأس الخيمة، قضوا أيامًا عدَّة في الخور، بعدها أعلن السلطان الرحيل، فعاد الركاب إلى اللنش مع ما تزوَّدوا به من مؤن لمواصلة الرحلة.
(7)
يمم اللنش صوب رأس الخيمة في هدوء، حتى حصل ذلك الحادث الذي كاد أن يودي باللنش وبحياة من عليه! فقد جلب مجموعة من الركاب (شول( (آلة طبخ الطعام) تعمل بالكيروسين (القاز)، وعندما حان دورهم في الطبخ، وضعوا تلك الشولة في الصيوان، ووضعوا الطعام عليها، ولم يتنبهوا إلى تسرب الكورسين منها، فاشتعلت النار في الصيوان، وانتقلت إلى الحطب الموجود فيه ومؤنة الركاب الذين ينتظرون دورهم في الطبخ، حاول الركَّابُ إطفاءها فازدادت اشتعالًا، هاج الركاب عندما رأوا منظر النار، وتجمع بعضهم على تل اللنش يحاول القفز إلى البحر، ومال اللنش بهم، فقد اتجهوا إلى ناحية واحدة، شعر السلطان حينها بالخطر من ذلك الموقف، أخذ يصرخ بكل قوته أن يعود كل منهم إلى مكانه، فلم يسمعوا صوته من كثرة الهرج والصياح، فأخذ مسدسه وأطلق طلقتين في الهواء، فهدأت الناس، فطلب منهم أن يعودوا إلى أمكانهم، فعادوا، في تلك الأثناء كان هناك من يحاول معالجة أمر النار، إلا أنهم فشلوا في ذلك أكثر من مرة، كان لعلي بن عمرو جهدٌ يحمد عليه في ذلك الموقف العصيب، فقد بلل أحد (الكنابل) (أغطية ثقيلة تقي البرد) بالماء، ثم تقدم إلى تلك الشولة، ووضعه عليها، فلفَّها به، ثم رماها وهي مشتعلة إلى البحر، قام بقية الركاب بالسيطرة على النار في الحطب والمؤن، وانتهت تلك الحادثة بسلام، وعظم أمر علي بن عمرو في عين السلطان وكل رفاق تلك الرحلة.
(8)
وصل لنش السلطان رأس الخيمة مقر حكمه وسلطته مع صباح يوم جديد، كانت رعيته وأهله في استقباله واستقبال ركابه، كان الاستقبال حارًّا.
لم تكن برأس الخيمة سوى عدد من الخيام والعُرش متناثرة على الشاطئ، كان المبنى الوحيد يعود للسلطان، مبنى طيني، يتكون من دورين، تتوزع فيها عدد من الغرف، وأمامه ساحة كبيرة مُسَوَّرة، نزل فيها الركاب، وتم تقديم لهم واجب الضيافة تمر وقهوة، توزّع بعدها الركاب هنا وهناك، يبحثون عما يقيهم حرارة الشمس، بقوا أيامًا عدَّة في رأس الخيمة، وجدها البعض فرصة لممارسة البيع والشراء لأشياء بسيطة يتم جلبها من سوق المدينة وعرضها على الركاب، أو في المناطق المجاورة، حتى حان موعد الرحيل.
(9)
استأنفت الرحلة سيرها باتجاه الكويت، وانهمك البحرية في أعمالهم المعتادة على سطح اللنش، وتوزع الركاب على سطحه، في حين قبع بعضهم في الخن، لم يعكر صفو الرحلة معكر، لكنْ فجأة هاجت مياه البحر وماجات، وإذا بهم وسط عاصفة قوية، أخذ اللنش يتمايل يمنة ويسرة، ولم يبق على وصولهم الكويت سوى يوم أو بعض يوم، أصبح النوخذة والربان أمام قرار صعب بين المغامرة ومواصلة السير في هذا الجو العاصف حتى الوصول إلى الكويت، أو الرسو في جزيرة صغيرة كانت قريبة من خط سيرهم، بعد التشاور بين النوخذة والربان، قررا الرسو بهذه الجزيرة حتى تهدأ العاصفة وعدم المخاطرة بحياة الركاب والبحرية والبضائع التي يحملها اللنش.
جاهدوا طويلًا حتى وصلوا إلى تلك الجزير،ة فألقوا مراسيهم فيها، كانوا يقدِّرون فترة مكوثهم يومًا أو يومين، ولكن العاصفة أخذت في الاشتداد، فَطَالت فترة مكثهم حتى نفذت مؤن الركاب وقل الماء، قام السلطان بإخراج بعض أكياس التمر وتوزيعها على الركاب مع التوصية بالاقتصاد في الاستخدام، أما الماء فيتم توزيعه بمقدار محدَّد، استمر هذا الوضع لأكثر من أسبوع حتى هدأت العاصفة، فواصلوا الإبحار حتى رسوا في ميناء الكويت في رحلة استغرقت شهرًا أويزيد.
(10)
وصلت الرحلة إلى ميناء الكويت في الصباح الباكر، كان الميناء يضج بالحركة والنشاط، قام السلطان بتوزيع جوازات السفر، التي تم استخراجها من قبل السلطان ابن عفرار وتوزيعها على الركاب من المهرة وحضرموت، كانت تصاريح بدون صور، مكتوب فيها اسم الشخص وتزكية السلطان وختمه، كان الضباط في الميناء يسألون القادمين السؤال المعتاد:
– من تعرف في الكويت؟
وكانت الإجابة هي الأخرى معتادة أيضًا:
– نعرف الوزان.
والوزَّان هو تاجر كويتي أعتاد أن يكفل الحضارمة في دولة الكويت ممن لا كفيل له.
عند وصولهم الميناء كان في استقبال علي بن عمرو وأصحابه ابن خالته الذي كان موجودًا في الكويت، وهو الذي سافر بعلي بن عمرو في رحلته الأولى، كان الاستقبال حارًا، أخذهم بعدها هو وابن عمه إلى مكان سكنه، أما بقية رفاقهم ففضَّلوا الذهاب إلى (بيت النمارة)، الذي يقطنه أبناء المنطقة، وهو حوش كبير تتوزع فيه عدد من الغرف، تفضي جميعها إلى ذلك الحوش، استقر علي بن عمرو عند ابن خالته، أخذهم ابن الخالة في عصر ذلك اليوم لأخذ صورة تذكارية، وهي أول صورة فوتوغرافية تؤخذ لهم، لتكون شاهدة على تلك الرحلة بكل أفراحها وأتراحها.
(11)
بعدها بدأت رحلة جديدة هي رحلة البحث عن عمل، كان غالب المهاجرين من صغار السن يعملون في البيوت (صبية)، كانت الحياة في دولة الكويت بسيطة في ذلك الوقت، وكان غالب سكان الكويت يمتهنون مهنة الغوص والبحث عن اللؤلؤ، وبعضهم في صيد الأسماك، كانت ظروفهم المادية صعبة، ولم تأت طفرة النفط بعد، التي غيَّرت حياة السكان، فقد أتت متأخرة بعض الشيء، كان المهاجرون الحضارمة يجدون بعض الصعوبة في فهم مفردات اللهجة الكويتية؛ إذْ بها الكثير من المفردات المشابهة للمفردات الحضرمية، ولكن دلالتها اللغوية تختلف، ثمَّ تَمَّ التعود عليها مع المداومة والمكث مددًا طويلة بدولة الكويت، اشتغل علي بن عمرو في مسلخ للحوم في البداية، وقد عجب من طريقة سلخ اللحوم؛ إذْ يتم سلخها عبر نفخ الجلد بالهواء بماكينة خاصة، يتم وضع الهواء بين البشرة والجلد، ثم يتم النفخ، فينفصل الجلد عن اللحم. ثم تنقل علي بن عمرو في مهن عدَّةٍ حتى وصل أخيرًا إلى (معزّبه) الأخير، والذي بقي عنده أكثر من ثلاثين عامًا لم يعكِّرها معكر، سوى حادثة بسيطة في بداية سنيِّ عمله، أدت إلى قطيعة مدة من الزمن.
كان العمل في محل ملابس (نوفوتية)، وكان علي بن عمرو يديره مع معزّبه، وفي إحدى الليالي وبعد انتهاء الدوام أذن (المعزّب) لعلي بن عمرو بالمغادرة، وتأخر هو قليلًا لغرض أضمره في نفسه، قام برمي بعض النقود على الأرض وكأنها سقطت منه دون علمه، في الصباح تفاجأ علي بن عمرو عند فتح المحل بتلك النقود المرمية على الأرض بطريقة عشوائية فقام بتجميعها وعدِّها، وعندما وصل المعزّب سلمها إياه، أعجب المعزّب بإخلاصه وأمانته، ففاتحه بالأمر أنه ترك تلك النقود على سبيل الاختبار لأمانته، وقعت تلك الكلمات وقع الصدمة عليه، هل تحتاج أمانته وصدقه لاختبار؟!
-إذا كنت لا تثق فيَّ بعد كل هذه العشرة فلن تثق في مطلقًا!.
خرج علي بن عمرو غاضبًا، حاول المعزّب معه، وقدّم له اعتذاره، وتوسل إليه أن يبقَى إلا أنه رفض، خرج لا يلوي على شيء، أرسل له أشخاصًا عدَّة لإقناعه بالعودة فرفض، طلب منهم أن يخبروه أن يحضر لأخذ (معاشه) للشهر الماضي، لكنه لم يفعل، فاضطر إلى إرساله له أخيرًا.
تنقل خلال تلك المدة في مهنٍ عدَّةٍ، منها ورشة ميكانيكية، ومحل آخر للملابس، ومن عمل إلى عمل.
كان معزبه يرسل إليه الرسول تلو الرسول لإقناعه بالعودة، فقبل أخيرًا العودة بعد قطيعة دامت عامًا كاملًا.
ظل عنده بعدها مدة ثلاثين عامًا تقريبًا، مرت بهم خلالها من الأحداث حلوُها ومرُّها، شهد تطور الكويت وتطور عمل معزّبه عقارات وعمارات، وانتعش عمل المحل حتى صار معرضًا كبيرًا للملابس من جميع الماركات العالمية، وصل عدد العمال به أكثر من خمسة عشر عاملًا، جُلُّهم من الحضارمة من شتى مدن حضرموت الواسعة بواديها وساحلها، كان علي بن عمرو المشرف عليهم وأمين الصندوق خلال تلك المدة، قبل أن ينقلها لزميل آخر له آخر عهده لحبه في التخفف من المسؤولية، وبعد ازدياد ضغوطات العمل.
(12)
كان وجود علي بن عمرو في دولة الكويت فرصة بالنسبة له لإشباع نهمه في القراءة التي شغف بها أيما شغف، كان يحرص على اقتناء الصحف والمجلات والكتب بأنواعها، وأحبَّ أيضًا المدَّ الثوري القومي العروبيَّ، فكان من محبِّي جمال عبد الناصر، فكان يحرص على تتبع أخباره عبر تلك الصحف والمجلات، وعبر إذاعة صوت العرب، التي كانت صوت كل الأحرار حينها، كانت غرفته تتزين بجداريات وبرتوريات عبد الناصر، وظل مخلصًا له حتى آخر حياته.
(13)
ظل علي بن عمرو أيضًا مخلصًا للكويت وأهلها الكرام، رغم الفراق القسري الذي فرضه عليهم غزو صدام حسين للكويت، فخرجوا منها مكرهين، يملأ قلوبهم حب الكويت، لذا ظلوا أوفياء لها، وظلوا على تواصل مستمر مع أهلها الكرام، فقد ظل علي بن عمرو على تواصل مع معزبه الذي يعده والده الثاني بعد والده رحمه الله، حتى عندما فارق علي بن عمرو دنيانا الفانية في بدايات هذا القرن، بنى معزبه مسجدًا في قريته وفاء له ولعشرتهم الطويلة التي امتدت لعقود من الزمن، وبعد وفاة هذا المعزّب الوفي في منتصف البناء أكمل أبناؤه المخلصون هذا المسجد العامر، ليخلفوا لنا سيرة عطره، وذكرى خالدة.
[*] القصة مستوحاة من أحداث واقعية جرت وقائعها أيام السفر إلى الكويت رواها والدي علي مسعود عمرو الغتنيني ت(2013م), والعم عبود سعيد عبود الغتنيني, والخال سعيد بن سليمان سالم الغتنيني.