إيمان العولقي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 108
رابط العدد 27 : اضغط هنا
نسمع عن عوالم محيطة بنا كبيرة، ومع ذلك هي أوسع مما تسنى لنا إدراكه منها، وعند الشروع للقرب منها ومحاولة إسدال الستار عنها، ومعايشتها من مسافة حميمية نكتشف كم هي جديدة وغامضة كليًّا، وتحمل في طيَّاتها الكثير مما تستحق أن تدفع القارئ للعزم على الإحاطة ولو بنزر يسير من دواخلها وسبر أغوارها.
من هذه العوالم الكبيرة (بحجم الشمس) بلاد الصين، بكل ما تعنيه وتظهره وتخفيه من العراقة والقدم والحداثة والمال والسطوة والأساطير.
قبل سنة تقريبًا قرأتُ الرواية الصينية الحديثة (الحب في القرن الجديد) للكاتبة تسيبان شييه بترجمة المبدعة يارا المصري، والتي حازت على جائزة مرموقة لترجمتها إياها.
الحب في القرن الجديد قطعة روائية غارقة في عوالم السريالية والواقعية السحرية و صعبة للغاية، كانت لي حينها طريقة أولى للتعارف، تلوح لي من بعيد، وتشجعني للمضي قدمًا على تحسس خطواتي في طريق الحرير نحو الثقافة الصينية بما فيها الأدب و تحديدًا الرواية.
بعد عامين قطعتُ فيها جانبًا لا بأس به من الاطلاع على بعض الكلاسيكيات من عوالم روسية وغربية، حرفتُ اتجاهي مؤخَّرًا نحو الأعمال الشرقية وأهمها طبعًا الصينية.
الترجمات العربية للأعمال الصينية قليلة إذ لا عناء أبدًا في الوصول إليها.
وعن قراءتي الأخيرة فقد كانت استهلالًا واقعيًا ومُرضِيًا لي بغية إنارة طريقي الحريري الجديد: أعمال الروائي الصيني سوتونغ الثلاثة بترجمة يارا:
زوجات ومحظيات والتي تُعد إحدى أهم مئة رواية صينية، وكتاب يضم ثلاث روايات قصيرة: الربيع في مصنع تعليب اللحوم، وحياة أخرى للنساء، والقناديل الثلاثة، و آخرها رواية الفرار.
كل رواية مما سبق لا تتعدى مئة صفحة، مما يسمح لهواة التصنيف بتصنيفها نوڤيلا روائية.
إذا استعنا باستعارة فرجينيا وولف المشبهة للقارئ بالضيف وللكاتب بالمضيف فإن نوڤيلات سوتونغ يلحظ من خلالهما القارئ ذلك السخاء في الوصف والاستعراض الكريم للبيئة الصينية الراسخة في أصالتها العريقة المشوبة بتأثيرات الحداثة، برويّة يأخذ بأيدينا سوتونغ إلى هناك؛ ليمهد لمخيلة قارئه الدخول بسكينة واطمئنان، وخطوة تلو الأخرى يجد القارئ نفسه وهو في وسط تلك المشاهد بأوصافها الدقيقة وتفصيلاتها السخية من المشاعر والهواجس الداخلية للشخصيات والأماكن والأزياء والطعام والأحداث السياسية.
ما فضلته شخصيًا من رواياته النوڤيلتان زوجات ومحظيات وحياة أخرى للنساء؛ في عالم غير عادل؛ فإن أول من يتضرر هي المرأة، ولا يقتصر الضرر عند حد التركيز عليها، بل لابد وأن يؤطره معنى من التجاهل والنسيان، وأن يسعى كاتب أو كاتبة لنقل تجربة ذلك الإنسان (المرأة) كما هي بلا مبالغات؛ فإن هذا لهو المسعى النبيل للكتابة.
يجيد سوتونغ وصف المرأة وصراعها في البقاء، يجيد عرض مشاعرها وحيرتها وردَّات فعلها على واقع بائس لا حيلة لها فيه غير الرضوخ والتسليم، ويجيد نقل تداعيات ذلك الرضوخ في مجتمع يدَّعي أنه يفكر في صالح المرأة، والواقع يظهر النقيض من ذلك.
ما يلفت النظر في القصص حب سوتونغ للأزهار، حتى مشاعر النفس وتعابير الوجه يقرنها بالأزهار، يستخدم وصف الأزهار في المجاز والحقيقة، في سرده حديقة غناء من أصنافٍ شتى للأزهار.
رواية زوجات ومحظيات نُقلت إلى السينما فيلم باسم (ارفعوا المصابيح الحمر)، في العام نفسه لنشرها 1991م.
ولتمام متعة رحلتي في طريق الحرير بصريًّا شاهدتُ الفيلم؛ متعة حسية متكاملة من الأداء والموسيقى التصويرية والمنازل الشبيهة بالقلاع، وتركيز الفيلم على إظهار المرأة، وحجب وجه الرجل السيد له دلالة مفهومة وفق سياق القصة الروائي.