توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 27 .. ص 113
رابط العدد 27 : اضغط هنا
يشتغل هذا المثل على المدح الممزوج بالدهشة للأفراد الذين لا يدل مظهرهم الخارجي من الوهلة الأولى على القدرة على القيام بأعمال نوعية أو خارقة، لكنهم يمتلكون إمكانيات كبيرة غير متوقعة على الإنجاز، والاحتواء، لهذا يحضر المثل مباشرة بعد حدوث الفعل اللافت وليس قبله، لكن ما علاقة ما ذكرناه بنص المثل الذي يذكر فقط الكيس، وولد إبليس؟ ثم من هو الممدوح منهما؟ وما هي عناصر المقاربة بينهما؟ ولنفهم أصل الحكاية، وفك الاشتباك بين الكيس، وإبليس، وتحديد صاحب الحق (التاريخي) منهما سنجد ضالتنا في الحوانيت القديمة، عندما كان يستخدم التجار أكياسًا (جواني- شوالات) تُعبَّأ بأغراض متنوِّعة، أو بمادة معينة تبدو أكبر من مساحة استيعابها، وعندما ينجح في الاحتواء يتحصل على شهادة البطولة المقرونة بذكر إبليس، من باب التشبيه الضمني بإمكانياته، لكن هذه المقاربة بين عناصر غير متجانسة تضعُنا في التباس يشبه إبليس، وتلبيسه من حيث دلالات الإشادة، وتداخلها، ومن هو المَعْنِيُّ بها، لكن بالنظرة العامة على الثقافة الشعبية السائدة المعادية لإبليس نستطيع استنتاج انحياز المثل إلى (الكيس)، الذي يشتغل في الآن ذاته – أي المثل – على الاعتراف بإمكانيات إبليس الواسعة، وليس على مدحه، وبهذا يتحرَّر المثل من قاعدة المشبَّه والمشبَّه به التي تعمل بثنائية الأصل والتقليد.
وخارج هذا المثل تميل صورة الكيس في المرويات الشفاهية إلى المنحى السلبي، فيقرن بثقل الوزن، الذي يحيل إلى معنى الخمول، والعجز عن الحركة، لهذا يكون حاضرًا عند ذكر الشخص السمين ويقال عليه: “كيس جالس”، أو “كيس مزقول [مرمي]”، أما إبليس فمساحة الحركة عنده متنوِّعة لهذا حظي بإشارات كثيرة في تفاصيل حياة الناس، فكما يُذَمُّ في كثير من المرويَّات، تقرِّبه بعضها إلى ما يشبه المدح، وهذه الوضعية غير المستقرة يسَّرتْ له الاستمرار؛ بوصفه مادة كتابية إلى نهاية فقرات هذا المقال، ولهذا سنترك – مضطرين – زميله (الكيس) يحتفل بمجده القديم، ولعله الوحيد.
في المشترك بين ثقافة الشعوب نجد القبول الجمعي لكلمات المدح عند التشبيه بالحيوان أو باستعارة لفظة فيها إساءة أو شتيمة، من ذلك وصف الشخص الذي نجح بحل قضية معقَّدة بلفظة (خبيث)، فيَعُدُّها شهادة ذكاء، وعند التشبيه بالحيوان يقال: دودة أو سوسة، ويُعَـدُّ هذا إقرارًا بالقدرة على التفتيت والامتصاص للمعضلات والصدمات، وهكذا فإن الألفاظ – كما هو معروف – تُـفَسَّرُ بحسب سياقاتها، ومناسبتها وليس وفقًا لدلالاتها اللغوية أو حتى الاصطلاحية ، يقابل ذلك أو قريبًا منه كلمات المدح الإيجابية المباشرة وغير المباشرة، كأن يقال: فلانٌ طيِّبٌ، أو نَقِيُّ السريرة، فهي إذا لم تكن في سياقٍ مناسب، تصيرُ مُرَادِفَةً للسذاجة، وقريبة إلى الشتيمة المُغلّفة بالنصيحة والود.
ورغم أن إبليس عدو أبدي لبني آدم، ومبين، بتأكيد الكثير من النصوص الدينية، وبعض الأمثلة والمقولات الشعبية، فإنه حظي بإشارات تجعلُه يتفاخر (بفطنته) بشهادة أعدائه من البشر، لكنه في مواقف أخرى يتضاءل أمام كيد نظرائه من أبالسة الإنس ومكرهم، فمن أمثلة تفاخره عند سماعه للبشر وهم يصفون الشخص الإيجابي الذي أظهر قدرة على إنجاز فوق المتوقع أو المعتاد بأنه: (إبليس) أو (ابن أبالسة) ويستقبل الممدوح الإشادة (الإبليسية) بكل سرور.
وفي اتجاه مغاير كما نجد تقاربًا في الأهداف الخبيثة، بين إبليس ومن يتماهى معه من أبالسة الإنس من حيث كمية الشر الذين يفعلونه، والكيد الذي يضمرونه تجاه ضحاياهم، هناك حالات خاصة يتفوق فيها مكر (الإنسي الإبليسي)، ويمكن أن نعزو ذلك إلى أن إبليس عندما يفعل فعلته التي يفعلها – رغم أنه يلبس ثوب الواعظين – فهو واضح في عداوته، مكشوفة حِيَـلُه، ولا يسوق لنفسه من قبل المكيدة ولا من بعدها، وتنتهي سعادته عندما يجد آذانًا صاغية وعقولًا طائعة له، بعكس (الإنسي) الذي إذا ركب موجة النصيحة، وفعل الخير، إنما يبحث عن نفسه في مشهد البطولة الزائفة من قبل المكيدة وما بعدها، وهكذا فنحن هنا أمام ثنائية (إبليسية) طرف فيها لا يُرى، لكنه مكشوف العداوة، ومَنْ سقط معه برضاه “عمله غداه”، وطرف يُرى، لكنه يُخفِي العداوة، ومَنْ صدّقه “صار عشاه”، إنها المعركة الأبدية بين الخير والشر، والكيّس من تحذر من إبليس وعياله، وجنده، وخيله وأنصاره وانتبه قبل أن يلفوا عليه الذيل…