أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 28 .. ص 10
رابط العدد 28 : اضغط هنا
تكمن صعوبة الإحاطة بهذا العنوان الواسع الدلالات في أنه مفهومٌ وليس حدثًا تاريخيًا، له بداية ونهاية يمكن ضبطها، ولنتمكن من السيطرة على ماهية هذا المفهوم المتحرك في الثقافة المحلية، والعابر للعصور، سنركز في هذه الورقة على أشكال الوعي الوطني الفطري، وصولًا إلى الوعي الإيجابي، الذي اتخذ له موقفًا من السلطة الحاكمة في حضرموت (القعيطية)، ابتداءً من ثلاثينيات القرن الماضي (العشرين).
وبنظرة سريعة لمفردات العنوان، فأولًا نقصد بلفظة (التطور) هو الانتقال من حالة إلى حالة مغايرة ليست بالضرورة أفضل مما سبقتها، أما (الوطن) فهو المكان الذي ولد فيه الشخص أو عاش فيه، ويُكِنُّ له ارتباطًا عاطفي، ويشعر بالانتماء له، و(الوعي الوطني) هو الشعور الواضح بالهوية بين مجموعات بشرية تجمعها وحدة الأرض، والعرق، والثقافة المشتركة، (التاريخ والدين، واللغة). وهناك علاقة بين الوعي الوطني، وإنشاء الأمة، فكلما ارتفع الوعي الوطني تسارعت الخطى نحن تعزيز الخصوصية والأمة، والكيان المستقل.
ولفظة (حضرموت) اسم يطلق على القبيلة، وهم سكانها القدماء أو الأصلاء، وعلى منطقة جغرافية واضحة المعالم في جنوب الجزيرة العربية، لها حدودها السياسية القديمة الثابتة، والمتحركة بخاصة مع جوارها الغربي فتتسع هذه الحدود، وتضيق وفقًا للتطورات السياسية، ولكن ظلت الحلقة العصية على حركة التاريخ لآلاف السنين هي صمود المسمى (حضرموت)، فصنع هذا الصمود هويتها العميقة، وشكَّل شخصيتها الوطنية، وجعل لها إطارًا معترفًا به في الأدبيات التاريخية المحلية، والعالمية، وبهذا تجاوز مسمى حضرموت صفته القبلية إلى الصفة المكانية لكل سكان حضرموت، بصرف النظر عن مسمياتهم ومكانتهم في التركيبة الاجتماعية، وهذه الجغرافيا الصامدة خلقتْ ما يمكن وصفه بالشعب الحضرمي أو الوطن الحضرمي، ونهدف من هذه الورقة تحديد مسارات واسعة لأجوبة التاريخ المرحّلة، ورسم مداخل سليمة للبحث العلمي المعمق.
الوعي الفطري
سبق وأشرنا إلى أن الصمود التاريخي لتسمية حضرموت صنع ما يمكن وصفه بشعب حضرموت، فعُزِّز ذلك الشعور بالانتماء إلى أرض محددة المعالم، بثقافة مشتركة في كثير من جوانبها، لكن هذه الحقيقة لا تلغي اختلاف وجهات النظر لمفهوم الوطن بين الحواضر والأرياف، فيضيق ويتسع عندهما لاعتبارات اقتصادية، واجتماعية، فعلى سبيل المثال يطغى التعصب لمثاوي القبيلة عند البادية على الانتماءات الجغرافية الوطنية الأوسع، وفي المناطق الحضرية، وخاصة في المدن الكبيرة يضيق مفهوم الوطن ليصل إلى حارة في مدينة تنظر بعين المنافسة، وأحيانًا الخصومة تجاه الحارات المجاورة، ولغياب الدور السياسي للقبيلة الحضرمية، وضعف دور النخب المثقفة في المدن، واضطراب مصالحها وأسباب أخرى ابتعد سكان المدن (الحضر) عن السلطة، وصارت البلدات والمدن الحضرمية خلال ثلاثة قرون بيد العشائر اليافعية، ومما ساعدهم على ذلك – إلى جانب غياب منافستهم على السلطة – أنهم جمعوا في التصنيف التراتبي بين ثنائية فئتي الحضر، والقبائل فهم من سكان المدن، وهم من حملة السلاح، ثم إنهم ليس لهم حاضنة جغرافية خارج أسوار المدن.
وينحصر مفهوم (حضرموت الجغرافي) عند الحضارمة أنفسهم في الثقافة الشفاهية في المنطقة، من منطقة الكسر حيث التقاء وديان وادي عمد، ووادي العين، ووادي دوعن، إلى المناطق المحاذية لوادي حضرموت الرئيس، لهذا يقول سكان دوعن أو وادي عمد على سبيل المثال إذا عزموا على السفر إلى مدن وادي حضرموت وبلداته: أريد الذهاب إلى حضرموت، ويقول لضيوفه منها: عندي حضارمة، أو عمال حضارمة، لكنه عندما يُعرّف نفسه خارج حدود حضرموت يقول: أنا من حضرموت، ويتطابقون في ذلك مع سكان السواحل الحضرمية.
ولشيوع المذهب الشافعي في حضرموت، وترسخه عبر قرون عدَّة بوساطة أسر من فئتي مشايخ حضرموت، وسادتها الذين استقروا في كل جغرافية حضرموت تشكلت الوحدة المذهبية السنية الحضرمية بفكرها الوسطي، فصنع هؤلاء ما يمكن تسميته (دولة حضرموت الثقافية)، وصاروا سلطة اجتماعية اختيارية على القبائل، موازية للسلطة السياسية في الحواضر، وذلك عبر مقام (المنصبة)، الذين تمكنوا عبره من التدخل لفك الاشتباكات القبلية، أو التقليل منها، هذا فضلًا عن دورهم في الإشراف على ماله علاقة بالأمور الدينية والتعليمية، وهم بهذا يمثلون سلطة روحية، ومرجعية اجتماعية، تضعهم في مستوى أرفع من مكانة زعيم القبيلة (المقدم) وأدنى من مستوى مقام الأمراء والسلاطين.
وهذا كله يدفعنا إلى القول: إن الوعي الوطني الفطري كان إحساسًا جغرافيًا ثقافيًا، وليس كيانًا سياسيًا، أو دولة تعبر عنهم، وتحمي مصالحهم، وترسم مستقبلهم، لكن ساعد الصمود التاريخي للبعدين (الجغرافي، والثقافي) في وجود رافعة قوية محفِّزة للحضارمة لتحقيق تطلعاتهم السياسية، ليكونوا أسيادًا في بلادهم.
الوعي الإيجابي
تحيل لفظة الموقف إلى حالة وعي؛ لأنها تؤشر إلى الاختيار أو القبول أو الرفض، وهناك عبارة شهيرة تقول: “إن وقوع الظلم ليس كافيًا وحده لاندلاع الثورة؛ بل لابد أن يتبلور الشعور بالظلم”، ولنتتبع موقف الأهالي في حضرموت (القعيطية) من القوى الحاكمة علينا أدراك طبيعة المجتمع الحضرمي، الذي ينقسم على قسمين جغرافيين واجتماعيين أساسيين، هما: حضر، وبادية، أو بالأحرى (ريف، وحواضر)، وهذا يختلف على التراتب الاجتماعي الذي يعتلي هرمه السادة والمشايخ، فكان القبائل، والعبيد التابعون لهم وللحكام هم فقط من يحمل السلاح في حضرموت، لهذا ارتبطوا بحالتي الحرب والسلام؛ ولأن الدويلات والدول في مدن حضرموت وبلداته قامت على العصبية القبلية بحسب نظرية ابن خلدون فكان الحفاظ على السلطة هي مهام القبيلة الحاكمة، أو التكتل القبلي الذي يسنده كمشيخة آل العمودي، لكن الموقف الحضري والقبلي من السلطات الحاكمة القائمة، سواء عند القبائل أو الحضر يختلف؛ فالحكام الكثيريون يعدون امتدادًا لحكم الاتحاد الشنفري، الذي يحكم أراضيه بحسب الحدود القبلية، فلهذا لم يكن هناك موقف ضدي واضح تجاههم من رعاياهم إلا في العصر العروبي القومي الناصري، وهذا يؤشر إلى حالة تطور وعي اجتماعي من فكرة القبيلة، إلى فكرة الوطن.
وبالنسبة للموقف الحضرمي العام تجاه اليافعيين (حكام الحواضر) كانت النظرة إليهم بوصفهم غرباء على المنطقة، ومما ساعد على ذلك – رغم هجرتهم القديمة إلى حضرموت – أن تقاليدهم الشعبية ظلت مميزة لهم، ومعبرة عن ثقافتهم المحلية؛ لاستمرار خط هجرتهم إلى حضرموت لقرون عدَّة، ويطلق عليهم الحضارمة لفظة (العسكر)، وهو توصيف شامل لهم. لكن هذا النظرة العامة لا تلغي وجود تباينات في وجهات النظر بين سكان الحواضر، والأرياف تجاههم.
فعند (سكان المدن) الموقف منهم شبه محايد، فما يعنيهم هو الأمن الداخلي والتسيير الإداري، وهي تتسق مع موقفهم من أي سلطة حاكمة عليهم، وينظرون إليهم بوصفهم (حماة الديار)، لهذا تجد الشاعر (الحضرمي) يصطف (مكانيًا) مع حاكم مدينته عند المساجلات الشعرية في الاتجاه المضاد لزميله الشاعر (الحضرمي) المنتمي لمدينة حاكم آخر، سواء كان يافعيًا أو كثيريًا، وقريب من ذلك نجده عند الشعراء الشعبيين، وبعضهم يغير (ولاءه المكاني) إذا استقر في حارة أخرى من المدينة نفسها.
وتؤكد الثقافة الشفاهية الشعبية على أهمية طاعة السلطة القائمة وقبولها تحت مظلة المثل المشهور (من تزوَّج أُمَّنا فهو عمُّنا)، وكما يؤشر المثل على فكرة الفصل بين السلطة، والرعايا (المحكومين) يؤشر على الموقف السلبي للناس من أهل الحكم، وبأنه شأنٌ ليس من شأنهم، لهذا تحركوا باستراتيجية مهادنة الحكام، وتجنب الصدام معهم، ومن أمثلة الموقف التقليدي (الحضري) من الحكم ترديدهم القول الشائع: “دولة ومحد يعصي الدولة”، وهي فكرة استسلام وخضوع، أكثر منها التزامًا لمنظومة الحكم، واحترامًا لها.
أمَّا الموقف القبلي من الحكم اليافعي فقد تميزت العلاقات بالحذر المشوب بالرفض وأحيانًا الصدام، لكن مع مرور الزمن شهدت الأوضاع نوعًا من الاستقرار، خاصة بعد أن تمكن اليافعيون من إبرام معاهدات السمع والطاعة (سمعه وتبعه) مع الكثير من القبائل الحضرمية بوساطة شخصيات حضرمية بارزة ومؤثرة، خاصة ممن ينتمون لفئتي سادة حضرموت ومشايخها، وأكدت غالب بنودها على التحالف بينهما (إلى أن يشيب الغراب ويفنى التراب) مقابل مكاسب اقتصادية يسيرة لهم. ومن أهم ما تذكره بنود المعاهدات هو احترام القبائل لمقام الحاكم (الدولة)، وهو مقام يعادل مقام الأب، في حين أنَّ القبائل في منزلة (عيال الدولة)، ولفظة عيال الدولة مفهوم أدنى من لفظة (الرعايا)، التي هي مفهوم أدنى من مفهوم المواطنة، والنظرة الفاحصة لمفهوم (عيال الدولة) سنراه يمضي حسب سياقات عصره، ومع درجة الوعي عند البدو، والحضر الذين هم أيضًا – أي الحضر- يستخدمون هذه اللفظة عندما يلتمسون من (الدولة) مطلبًا من المطالب المجتمعية.
وبعد دخول حضرموت مرحلة الحكم الاستعماري غير المباشر منذ أواخر ثلاثينيات القرن الماضي تغيرت الكثير من الأمور، فبعد أن كانت السلطنة القعيطية منطقة استثمار سياسي، منطلقًا من حيدر آباد، تدار بواسطة وزراء أقرب إلى الوكلاء الخصوصيين، أدخل البريطانيون النظم الحديثة المتعلقة بمؤسسات الدولة الإدارية، والعسكرية، وأسسوا التعليم الحديث، ومع تطور واتساع الحركة الصحفية العربية والحضرمية المهجرية، وتطلعات الشعوب العربية في الاستقلال بموجب مبدأ حق المصير الذي دعا إليه – ولو نظريًا – الرئيس الأمريكي (ويلسون)، والثورات العربية في كل من مصر وسوريا والعراق والمقاومة الوطنية الفلسطينية، ثم قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، الخاصة بإنهاء الحكم الاستعماري للشعوب، ومع تسارع حركة الملاحة البحرية، ومع دخول سيارات الشحن في حضرموت منذ بداية خمسينيات القرن العشرين وبداية ظهور الراديو وغيرها من العوامل، التي كانت غير بعيدة عنها حضرموت بثقلها المهجري، الذي اتسم بحركة متسارعة لحركة الذهاب والإياب، كل ذلك ألقى بظلاله على المشهد السياسي والموقف من السلطة القائمة.
لكن بدايات الوعي الوطني الشعبي انطلق من المدن، حيث توجد فرص لإيجاد زعامات شعبية، تطالب بحقوق عامة، وليس قبلية أو فئوية أو شخصية، وبالنسبة للمناطق القبلية عبَّرت المساجلات الشعرية عن الموقف القبلي لما يعتمل في (حضرموت الثقافية) والعالم العربي والإسلامي، لكن الموقف النخبوي ممكن ملاحظته في صوت المثقف الحضرمي المهجري، الذي التحم بشعوب وثقافات متطورة مقارنة ببلاده، وسعى عن بُعـدٍ لتنوير أهله، وأسهم الشعر الشعبي في التنوير، والتثوير، فخلقت حالة مغايرة وإن اتسمت بالجنينية وغير المنظمة.
وبالنسبة لمعاهدة الاستشارة التي وقَّع عليها السلطان صالح سنة 1937م فقد جوبهت باستياء واسع من الحضارمة، وتراوحت ردود الأفعال بين التوجس والرفض، وإذا كنا لا نستطيع قياس مؤشرات الرفض الشعبي بدقة؛ نتيجة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتخلفة وقتئذ، فإننا يمكن أن نلمس جوانب من ذلك من خلال الشعر الشعبي، والمقالات الصحفية التي كتبها الحضارمة في الصحف المصرية والعدنية، وكذا البيانات التي أصدرتها بعض مكوناتهم في مهاجرهم.
وتعد القصيدة الشهيرة للشيخ صلاح بن أحمد لحمدي القعيطي المهاجر بحيدر آباد بالهند من أهم الأشعار الشعبية التي عبرت عن الرفض لتلك المعاهدة ومما قال فيها:
قالوا جهة لحقاف لحمة فاس سرحت بالبرود
سرحت مع الصاحب بلا قيمة ولا سلم نقود
يا حر جوفي يا حياة الذل يا حر الكبود
أين الشنافر أين نهد اللي يزرون الشدود
أين الجعيدي أين كندة لتعزوى بن كنود
[عبدالخالق البطاطي ، إثبات ما ليس مثبوت من تاريخ يافع في حضرموت، ص101]
وتكمن أهمية قصيدة لحمدي في أنها لاقت بلهجتها العامية صدًى وانتشارًا كبيرين عند معاصريها في المجتمع الحضرمي، الذي لم تصله وقتئذ وسائل الإعلام الحديثة، كالصحافة والإذاعة. كما أنها أقلقت الدوائر الرسمية في حضرموت وأوعزت لحلفائها بالرد عليها للتقليل من تأثيرها، وهذا يدل على أنها أثارت حفيظة الأهالي، ونبهتهم إلى تبعات التدخل البريطاني في شئون حضرموت. [د عبد الله الجعيدي، في رحاب تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر، ص65]
وبموجب المعاهدة عمل إنجرامس بصورة منسجمة مع السلطان صالح القعيطي على تحديث مؤسسات السلطنة، وقد مسَّتْ هذه الإجراءات مصالح بعض القوى، كما أن الجديد في أي مجتمع محافظ أو تقليدي غالبًا ما يجابه بالرفض (والإنسان عدو ما يجهل)، وممكن نلمس درجة الوعي الوطني من خلال شعارات المسيرة، التي انطلقت في المكلا عام 1939م، والتي نشرت خبرها مجلة الرابطة العربية تحت عنوان (مظاهرة في المكلا)، ولما يحمله الخبر من دلالات نرده هنا بنصه:
“جاء من المكلا أنّ جمعًا غفيرًا من أهالي المكلا تجمهروا في الشارع الكبير، وساروا نحو قصر المعين (القصر السلطاني)، وصراخهم يملأ الفضاء قائلين: (لا نقبل البدع، لا نهضم الظلم، يكفينا ظلم الجمرك..) ولمَّا شاهدهم حرس القصر توهَّموا أنّهم أمام ثورةٍ خطيرةٍ فأقفلوا أبواب الحوش بسرعة، ولكن ما هي إلا دقائق حتى حطّم الجمهور بابًا من أبواب الحوش. ويقول من شاهد الحادث أنّه لما وصل الخبر إلى المستر “إنجرامس” المستشار المقيم، ركب سيارته، وخرج بها من باب جنينة الدار التي يسكنها، وتقع مقابل قصر السلطان، قاصدًا الدخول إلى القصر، فحال المتظاهرون دون سيره بالسيارة، مخترقًا جمعهم، فترجَّل ومشى نحو القصر، ودخل على عظمة السلطان، فإذا بوفد المتظاهرين هناك يهدِّد بالهجرة إلى بلاد أخرى إذا لم يمتنع التدخل الأجنبي في شؤونهم ولا سيما الدينية منها، ومما قاله الوفد إنّ بلادهم فقيرة لا تهضم المشروعات الإصلاحية بالأساليب التي يريد العمل بها المستشار الإنجليزي، وإنهم يرحبون بكل مشروع إصلاحي يتفق وحالة بلادهم الاقتصادية.. فردّ عليهم عظمته راجيًا أن يتفرقوا وقال لهم: “كلّ بدعةٍ مردودة، الآن أنا مسافر إلى حضرموت للزيارة، وعند عودتي يكون خير إن شاء الله” [مجلة الرابطة العربية المجلد 6، ص45]
سجل هذا الخبر صفحة مهمة من تاريخ حضرموت المعاصر، عبّر فيه أهالي المكلا عن موقفهم إزاء السياسة الاستعمارية البريطانية الجديدة في بلادهم، ونستشف من الشعارات المرفوعة أن المتظاهرين خرجوا بعد أن فاض بهم الكيل كما يقال، وما نود الإشارة إليه هو التمعن في مضامين الشعارات التي رفعها المتظاهرون، وهي: (لا نقبل البدع)، (لانهضم الظلم)، ويبدو أن من أطلق هذه الشعارات هم عناصر من النخبة الوطنية الواعية في المجتمع، التي رأت في أن التحديثات المتسارعة في مؤسسات الدولة، التي شرع فيها المستشار البريطاني إنجرامس لا تتناسب مع واقع المجتمع الحضرمي، أو ربما أطلقها عناصر تضررت من هذه الإجراءات، وربما يتخفَّى وراء هذه المطالب موقف الرفض من الوجود الاستعماري ذاته، والذي مثَّله إنجرامس وقتئذ، ولا نرى في شعار (لا نقبل البدع) شأنًا ما يتعلق بالدين؛ فمعاهدة الاستشارة نصَّتْ صراحة بقبول السلطان القعيطي مشورة المستشار البريطاني في كل الأمور ماعدا التي تتعلق بالدين الإسلامي والعادات.
أما الشعار الآخر (لانهضم الظلم) فهو أقرب إلى الصرخة المعبرة عن الإحساس بالظلم، والتهديد بترك الوطن من قبل المتظاهرين، وهو أقرب إلى الرجاء منه إلى التهديد، يتوارى خلفه خطاب يؤشر إلى درجة جنينية من الوعي الوطني، تجلَّى في التعبير عن الاعتراض على بعض الإجراءات الاقتصادية، ولم يصل بعد لمرحلة الرفض لسياسة السلطنة القعيطية ذاتها، وهو أمر حدث في مرحلة تاريخية لاحقة، عندما تظاهر سكان مدينة المكلا احتجاجًا على تعيين وزير (سكرتير) أجنبي للسلطنة القعيطية. [في رحاب تاريخ حضرموت، ص85]
وعلى أية حال فإن هذه المسيرة تؤشر على درجة من درجات تطور الوعي الوطني؛ فقد بدأ الأهالي يدركون أن أمور الحكم ليست قدرًا محتومًا عليهم، وأنهم إذا ما وحَّدوا أصواتهم يمكن أن يشكِّلوا أداة ضغط، تدفع لتحقيق المطالب المتعلقة بشؤون حياتهم،
وفي غمرة هذه الأجواء المشجعة بدأ الحزب الوطني يضع مقترحاته في تعيين سكرتير وطني بدلًا من السكرتير المنتهي عقده. وكان الشائع في الدوائر الرسمية ترشيح القدال سعيد القدال، وهو سوداني الجنسية، وجيهان خان باكستاني الجنسية، ومرة أخرى سجل بافقيه تلك اللحظات المهمة في تاريخ حضرموت بمقال عنونه (أسبوع البعث والخلود في حضرموت) واصفًا مظاهرةً شاركَ فيها ما يقارب عشرة آلاف من سكان المكلا، وذلك في يوم الأربعاء 13 ديسمبر 1950م، “… وخرج الناس من منازلهم… فلم يكونوا يجتازون الأعتاب ويدلفون إلى الشوارع والأسواق حتى يشاهدوا عجبًا: حيوية جديدة، وحركة غير عادية، وبلادًا غير التي ألفوها، وشعبًا غير الذي عهدوه، هذه منشورات ولافتات ملصقة بكل جدار تحمل معاني الوطنية (حضرموت تناديكم – تحيا حضرموت – رشحوا ابن الوطن، حضرموت تنتبه لمآلها… إلخ)، وتلك مظاهرات تطوف بالشوارع وتجوس خلال الديار، مؤلَّفة من النابتة الناشئة، رجال الغد، تمشي أفواجًا أفواجًا، وتهتف بعبارات الوطنية وتنشد الأناشيد الحماسية” [محمد بن ابي بكر باذيب، أحمد عمر بافقيه ودوره الصحفي، ص،574]
وقد رفع المتظاهرون ثلاث لافتات، كتبت عليها الشعارات الآتية: الأولى في مقدمة المظاهرة (الشعب يريد تحقيق مطالبه)، والثانية في الوسط (نريد سكرتيرًا وطنيًا)، والثالثة في الساقة (الوطن للوطني). وفي الخطاب الذي تقدم به المتظاهرون إلى ولي العهد الأمير عوض بن صالح القعيطي جاء فيه: “نحن نعتقد ونجزم أن الحكومة والشعب شيء واحد، غير أن للحكومة امتيازًا هو بمثابة امتياز مقام الأبوة، والشعب كالولد، ولابد للولد من التمتع بحقوقه كاملة مع الحرية التامة”.
إن القراءة التاريخية لهذه الشعارات المرفوعة والعرائض المقدمة ستساعدنا على تتبع كيفية تبلور الموقف الشعبي المواكب لمجريات الأحداث في حضرموت، ولاسيما حاضرتها مدينة المكلا، وواضح من صيغ الشعارات تطورٌ لافتٌ في الرؤية الوطنية، فبعد أن كانت المطالبات لا تقترب من شؤون الحكم صارت تحتلُّ الصدارة، وتنظر إلى الحقوق السياسية؛ بوصفها إرادة شعبية واضحة، يجب تحقيقها، إنَّ هذه الشعارات تستحق الكثير من الوقفات التأملية، وما نود الإشارة إليه بخصوصها أن ترتيبها لم يكن جزافًا، بل عكست التدرج التصاعدي للمطالب الشعبية، فالشعار الأول أشار إلى المطالب الداخلية التي سبق تقديمها، وهي تخص مدينة المكلا، والشعار الثاني حدد مطالب الشعب بأعلى منصب في السلطنة القعيطية بعد منصب السلطان (السكرتير)، في حين أن الشعار الثالث قد رفع سقف المطالب ليشمل حضرموت كلها وبنية الحكم فيها وحدد أن الوطن لأبنائه وليس للأجانب.[ في رحاب تاريخ حضرموت الحديث ، ص، 91 ]
وقد رصد أحمد عمر بافقيه تلك اللحظات بأسلوب لا يخلو من الحماسة قائلًا: “مر الأسبوع المنصرم على هذه العاصمة حافلًا بأحداث جسام، من حقها أن تمنحه صفة الخلود… يقف عندها المؤرخ فيقول: هنا ينتهي تاريخ، ويبدأ تاريخ! هنا تنطوي صفحة من تاريخ الشعب الحضرمي، تغيّم فوق سطورها سحابة سوداء من اليأس، ويجللها إطار قاتم من الخنوع والخذلان، لتبدو صفحة أخرى مشرقة وضيئة، كلها قوة وإشعاع وتضامن وإيمان” [ أحمد عمر بافقيه، ودوره الصحفي ص، 573]
وتساعد هذه الأجواء الساخنة على فهم الأحداث اللاحقة، التي شهدتها مدينة المكلا؛ فالسلطان صالح قطع إجازته وعاد من حيدر آباد مستشعرًا خطورة هذه المطالب، التي لامست ما يظنه حقًّا ليس للشعب رأي فيه، وأول إجراء قام به هو دعوة مجلس الدولة للاجتماع والموافقة على تعيين القدال سكرتيرًا للسلطنة، ويرى بعض المؤرخين أن السلطان نزل في هذا التعيين عند إرادة المستشار البريطاني (بوستيد)، وسواء كان ذلك إرادة السلطان أو مستشاره فإن هذا الاختيار جاء صادمًا للإرادة الشعبية، وفي اليوم التالي 27 ديسمبر تقدَّم وفدٌ من الأهالي للسلطان صالح قدَّم له مطالبه المتضمنة تعيين سكرتير وطني، وقد تناولت المصادر التاريخية تفاصيل اللقاء، وما أعقبه من تداعيات، أدت إلى مصادمات بين رجال الأمن والمتظاهرين، أسفرت عن استشهاد أكثر من سبعة عشر رجلًا من سكان مدينة المكلا، وهو أول صدام شعبي (غير قبلي) بين السلطنة القعيطية ممثلة في قواتها الأمنية، والسكان المدنيين.
وخلاصة القول إنَّ الموقف الحضرمي قد اتسم بحالة جديدة من الوعي، الذي يختلف عما كان قبله، وحتى السلطان صالح الذي حمل مشروع التحديث في حضرموت بالمساندة البريطانية كان يرى مسائل الحكم من شأنه الخاص، ولا شأن للأهالي به، ولعلنا لا نجانب الصواب لو وصفنا هذا الوعي بالجنيني، وطبعًا من المبالغة بمكان رفع سقف التوقعات بإمكانية حدوث تغييرات كبيرة في تلك المرحلة، لهذا بعد حادثة القصر التي سقط فيها سبعة عشر شهيدًا وخلال أربع عشر سنة بعدها اعتلى منصب الوزارة القعيطية أشخاص من خارج حضرموت. (سوداني – باكستاني).
لكن حركة التاريخ المتسارعة دفعت بالأمور إلى مسارات متعددة، وكانت الثورة المصرية وزعيمها عبد الناصر ملهمة لكل الشعوب العربية، وابتداء من عام 1959م دشنت صحيفة الطليعة في مدينة المكلا، الصوت القومي العروبي، الذي يدعو للوحدة العربية. وعمومًا يعد عقد الستينيات من أخطر المحطات التاريخية في حضرموت؛ فقد انقسم الحضارمة على أنفسهم بين الإبقاء على السلطنات بنظام اتحادي، وبين انضمام حضرموت لدولة الجنوب العربي، التي كانت بريطانيا ترتب لها قبل رحيلها عن المنطقة، وجرت مياه كثيرة إلى أن خرجت حضرموت عن ذاتها، وصارت منذ عام 1967م وحتى الآن (2023م) محافظة من محافظات (جمهوريتين) كانت فيهما رقمًا مُهمَّشًا ومُستَغَلًّا.
وبعد ما عرف بثورات الربيع العربي وتداعياته في اليمن بقيام (بثورة التغيير) عام 2011م حاول الحضارمة لملمة أنفسهم في شكل مجالس أهلية، ومؤتمرات أو ملتقيات شعبية، وعبرت حضرموت عن معاناتها تحت الكلمة الشعار (كفاية)، أي: يكفي تهميشًا لأهلها، واستغلالًا لثرواتها، ولاريب في أنَّها كانت حلقة من حلقات في تطور الوعي الوطني، ومع توافر الفرص الراهنة لتعبر حضرموت عن نفسها بقوة فإنها ما تزال تدفعها تيارات فوق استعدادها التاريخي. لكنها تحاول جاهدة ليكون لها مكان آمن وسط التيارات المتدفقة الجديدة القديمة.