د.عبدالقادر علي باعيسى
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 28 .. ص 17
رابط العدد 28 : اضغط هنا
تعريف الوعي:
سنعمد بدءا إلى تقديم تعريف إجرائي لمفهوم الوعي في صيغته العامة وهو أنه “ما يمتلكه الإنسان من أفكار ووجهات نظر تتعلق بالحياة ومفاهيمها وما يحيط به من بيئة، ومن الممكن أن يتصف الوعي بالزيف حيث يتباين واقع الإنسان بهذه الحالة مع وجهات نظره وأفكاره، وقد يقتصر هذا التباين على أحد جوانب حياة الفرد أو جميعها”(1) ومع أن الفلسفة تعد الوعي بهذه الصيغة العامة “جوهر الإنسان وخاصيته التي تميزه عن باقي الكائنات الحية الأخرى”(2) أي إنه وعي تلقائي يصاحب كل أفكار الإنسان وسلوكه، فإن اتجاهات تعريف الوعي بين مختلف المدارس والاتجاهات شديدة الاختلاف، فرغم “آلاف السنين من التحليلات والتعاريف والتفسيرات والمناقشات بين الفلاسفة والعلماء، ما يزال الوعي أمرا محيرا ومثيرا للجدل، كونه أكثر الجوانب ألفة وأكثرها غموضا في حياتنا”(3) ولعله من هذا المنطلق قامت الدراسات النفسية بوضع الوعي “موضع نقد إذ اعتبر “من خلال تلك الدراسات غطاء خارجيا لا يمثل الجهاز النفسي العميق، بل هو يمثل فقط سطح الذات، أما اللاوعي فهو يمثل أعماق الذات الإنسانية”(4) فضلا عن أنه يتمظهر في الحياة العملية من خلال عدد من الأشكال والمظاهر كالوعي السياسي، والوعي الأخلاقي، والوعي الاجتماعي(5).
الوعي والبنية اللاشعورية:
وأخطر ما في الوعي أن ينعكس في البنية اللاشعورية للفرد والمجتمع، كما في الوعي ببعض الأفكار والتصورات الاجتماعية والأخلاقية التي إذا تكررت خلال فترة تاريخية طويلة تكرس الوعي بها بصورة صلبة، وقلّت في أثناء ذلك ظواهر التعدد والكثرة لصالح رؤية واحدة كما في الوعي الطبقي والفئوي، وكلما اكتشف الإنسان وعيا جديدا اكتشف كينونة جديدة له سواء كان ذلك الوعي إيجابيا أو سلبيا، وغالبا ما تتشعب شخصية المجتمع داخل سياقات متعددة من الوعي من خلال تكريس عدد من المفاهيم والتعاملات عبر أجيال كثيرة بحيث يتحول الوعي إلى نموذج صارم في المجتمع، ويتجلى من خلال الخطاب المكتوب والشفوي على حد سواء، ومع أن بعض التطوير الإيجابي الذي يحدث في حالات الوعي يعد لحظات تصحيحية إلا أنه يعد عند آخرين مواقف غير جيدة.
الوعي الوطني والوعي السياسي:
ويتصل مفهوم الوعي الوطني بمفهوم الوعي السياسي من حيث ارتباطه بسيادة سلطة سياسية معينة على وطن معين، بسكان معينين، واستقلاله، وحماية ثرواته وموارده ، واللافت أن مفهوم (الوعي الوطني) يتصل بالاستعمار الحديث عن طريق المفارقة، فلم يكن مفهوم الوطن -وهو مساحة جغرافية من الأرض ذات حدود معلومة يعيش عليها شعب معين- معروفا بصورة رسمية قبل حركة الاستعمار الذي أخذ يتشكل على أساسه مفهوم الأوطان التجزيئية حتى اتضحت صورتها بشكل جلي.
لقد برز مفهوم الوعي الوطني في إطار النضال ضد الاستعمار في أثناء الثورات التحررية العربية، وأخذ يتشكل من خلال ما أخذ يشعر به الإنسان العربي من أهمية وطنه، واستقلال حدوده، واستغلال الاستعمار له، ونهب خيراته، واستعباد مواطنيه، أي إن الرؤية انطلقت -على ثوريتها- لتحرير رقعة جغرافية محدودة من الوطن الكبير حاملة رغبة الأفراد القوية في الدفاع عنها أكثر من أي وطن محلي آخر شاعرين في أثناء ذلك بخصوصية بلادهم(6) وفي هذه الحالة يكون مفهوم الوعي الوطني مرتبطا بالدوائر الاستعمارية عن طريق المفارقة أو المخالفة، وهو مجموعة الإجراءات الثورية النظرية والعملية التي أخذ يدركها الشعب وطليعته المناضلة على وجه الخصوص لإخراج الاستعمار الأجنبي وركائزه من بلادهم، ومن ثم فالوعي الوطني مفهوم حديث يندرج في إطار مفهوم الوعي السياسي في صورته التي انبثقت مع وجود الاستعمار.
الوعي الوطني والواقع:
وعلى هذا عمل الوعي الوطني في البلاد العربية على تحقيق إنجازات للمجتمع وعلى أرض الواقع بحيث لم يعد إطار نظريا فحسب بل فاعلا في إطار التحقق، وبذلك يحصل نوع من التفاعل بين الوعي والواقع، ولا يظل الوعي مجرد أطر نظرية شكلية، بل يزداد تطورا، وتتجسد من خلال ذلك إمكانات التغيير القوي والفاعل في المجتمع مما يتطلب أهمية الحفاظ على مثل هذا النوع من الوعي وتطويره والعمل على تحويل مبادئه إلى إجراءات لا تستمد قوتها من الوعي نفسه بل من إمكانية تجسيده على الواقع. وتبرز حقائق الوعي في الواقع عبر عدد من العوامل التي تعمل على إبرازه وترسيخه وهي الإعلام، والسلطة السياسية، والسلطة التعليمية بمختلف أنواعها بما فيها الدينية بحيث يتحرر الإنسان ويتطور ويرتكز على قيم أكبر في استيعاب الوعي الوطني في كثير من أبعاده وتجلياته النظرية والواقعية.
وتمثل الجماهير المرتكز الأساسي الذي يمكن أن يعتمد عليه لتنفيذ الوعي الوطني إجرائيا، ويمكن لمفكريها أن يبدعوا في هذا المجال بحيث لا يعود النظري هو الفاعل المعلق في الفضاء، ولا يعود الواقعي تائها لا يسترشد بأطر من الوعي، وبذلك تظهر تجليات مثلى في التاريخ، وينشغل المجتمع بما يمكن تسميته بالتغيير الجذري الذي يحدث فيه والذي يلامس مختلف جنباته، فيرى الإنسان وجوده متجسدا ومتحققا على الواقع ومتفاعلا مع الأطر النظرية التي يؤمن بها، وفي هذه الحالة يكبر الإنسان ذاته ومجتمعه ووطنه.
ولا يمكن لأي وعي أن يظهر بصيغة واحدة في كل المراحل، أو أن يظل ثابتا، فثمة تغييرت تطرأ عليه، وأي محاولة لتجميد الوعي هي فكرة خطيرة على المجتمع، وغير علمية، وغير موضوعية، فلا يُرسم الوعي الوطني مكتملا ونهائيا، فثمة تغييرات وإضافات وانتقادات وتحسينات تحدث في إطاره، وقد يأتي ما يتعارض مع ذلك الوعي ويطيح به إذا استنفد مسيرته وقوته التاريخية، ذلك لأن الوعي الجديد يفرض نفسه محكوما بفكرة التفاعل الزمني حيث يأخذ الجديد البؤرة أو مركز الإشعاع ويشير إلى حدوث تطور في التاريخ المعاصر كما حدث مع قوة اندفاع الوعي القومي في منتصف القرن العشرين في البلاد العربية.
ويبدو أن الوعي في بلادنا بحاجة إلى كثير من الدراسات لمعرفة ما إذا كانت تجليات التغيير في الواقع أجلى أو تغيرات الاتجاه نحو الأبنية النظرية كما حصل في المرحلة الاشتراكية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي لم يجد فكرها ما يمثله على أرض الواقع من حقائق البروليتاريا وقوى الإنتاج ووسائله وعلاقاته، وكان عليه حينئذٍ أن ينتظر واهما لتحقيق ذلك بعنف ثوري، أو أن يختفي ويعود إلى الأدراج التاريخية للنظريات التي لم تتحقق. فليس المهم أن يظهر الفكر بل أن يترك أثره في الواقع والإنسان دالا بذلك على قيمة كبرى تتعلق بالوجود الإنساني نفسه الذي يعني أنه التقى فيه النظري والواقعي، وتبينت طريقه أمامه بوضوح، ولم يعد يختفي في إطار وعي نظري لا يدركه ولا يعرف من يوجهه فيه، وإنما يمضي فيه أشبه بآلة، لا يتبينه، ويغدو مكيفا به من الخارج، ومن ثم إشاعة وعي وهمي مع ما يترتب على ذلك ويفضي إليه.
واللافت أن الوعي الوطني حقق في المرحلة الاشتراكية إنجازا كبيرا على مستوى إحساس الطبقات المظلومة اجتماعيا بذاتها وقوتها، ومازال أثر ذلك واضحا، بل يتنامى مستفيدا من حركة التطور الحديث على مستوى التعليم والديمقراطية والمفاهيم المشاعة عن سلطة الدولة الحديثة، فنظر من خلال ذلك إلى ذاته الإنسانية مجسدة أمامه وهي ترى حيثيات إمكاناتها انطلاقا من وعيها بذاتها في إطار سياق عام يجسد إرادة الإنسان الذي لم يعد خاضعا لوعي آخر مفروض عليه حتى من داخل مجتمعه.
الوعي الوطني من منظور القراءة الثقافية:
وإن ما نسميه وعيا وطنيا من منظور القراءة الثقافية قد لا يكون كذلك عندما يتم قراءة عدد من خطاباته وشفراته فقد يكون وعيا ذاتيا، أو وعيا قبليا، أو وعيا مشوشا يضيع في زحمة هذه التعددات. إننا لا نستطيع أن نحدد مفهوم الوعي الوطني إلا بكثير من القراءة الدقيقة، فنحن قد نستجيب شخصيا لمفهوم الوعي الوطني، ولكن هل هذه الاستجابة الشخصية هي الاستجابة الحقيقية التي تمثل الوعي الوطني، أو أنها واقعة تحت تأثير الإعلام ومنتجة به، وأنه يكمن في بنيتنا الداخلية ما هو أعمق منه؟. إن إغراء المفاهيم والمصطلحات يلعب دورا كبيرا في التضليل، فمثلا لو أردنا أن نبحث في مفهوم الوعي القومي عند رجال الجبة القومية علينا أن نعود إلى الأرشيف الخاص الذي كتبوه أو سجلوه لنفهم بدقة تقدير كل واحد منهم لمفهوم الوعي الوطني، وربما نجد أن هذا الوعي غير موجود أساسا لديهم، أو موجود بصورة إعلامية خارجية كما هو متمثل في الأدبيات السياسية (الخطابات والبيانات) بدليل الصراعات التي قامت بينهم، فلو كانوا ينطلقون من وعي وطني واحد عميق ومؤسس فإنهم لن يختلفوا، وإذًا فثمة مفاهيم أخرى أكثر تأثيرا فيهم تدخل في التأثير على وعيهم الوطني قد تكون مفاهيم قبلية، أو شخصية، وقد تكون انفعالات ذاتية أنانية راغبة في الاستحواذ العشوائي على السلطة. فالوعي الوطني الذي يبدو واضحا كما تحدده الأدبيات السياسية، هو من حيث المنظور الثقافي غير كذلك عندما يتم مراجعته من خلال كثير من الوثائق والأرشيفات الخاصة والعامة، ودراستها، وتحليلها.
علينا أن نفصل بين مفهوم الوعي الوطني في النصوص القانونية والرسمية ومفهوم الوعي الوطني في النصوص الخاصة، فالنص الذي يقال في الدستور، أي دستور، عن الوعي الوطني هو غير النص الذي ننتجه نحن عن وعينا الوطني، فالنص الصادر عن الذوات الخاصة هو أكثر مصداقية، وقد مرت حضرموت الآن في تاريخها المعاصر بعدد من التحولات، فهل الوعي الوطني في كل هذه التحولات واحد؟ لنأخذ الحالة التي تعيشها الآن وهي حالة الوعي الوطني في إطار الاتصال مع الجنوب والبناء معه، أو حالة الوعي الوطني بحضرموت وحدها دون غيرها حسب المواقف والاتجاهات، فإن أمام القارئ الثقافي -لتبيان ذلك- أن يقرأ النصوص الرسمية وينظر ما تحويه بداخلها من أنساق خفية، فضلا عن الأرشيف الخاص لاسيما أننا الآن في إطار بنية اجتماعية اقتصادية سياسية كثيرة الاضطراب يتحدد وعينا الوطني من خلالها بكثير من الاضطراب. كما أن الوعي الوطني يكون مختلفا من وسط شعبي، إلى وسط قبلي، إلى وسط ديني، إلى وسط أكاديمي، بمعنى أن الوعي الوطني قابل لأن ينفصل بعضه عن بعضه الآخر بموجب ثقافة هذه الفئات ورؤاها، لكن المهم أن تلتقي هذه الرؤى في الخطوط العامة بوصفها وعيا وطنيا شاملا في اللحظة التاريخية الراهنة. ولعلنا نتفق في أننا ننظر جميعا برؤية عاطفية إلى حضرموت من حيث كون حضرموت موطنا للحضارة والثقافة والتاريخ كما نردد دائما، لكن التاريخ لا يقول ذلك باستمرار، فثمة تاريخ صراعات مسلحة عنيفة شهدتها حضرموت بين القبائل، أو داخل القبيلة نفسها، وهناك حالات اعتداء على السكان المحليين، فهذه مسائل ليست حضارية يجدر أن يلتفت إلى خطورتها وتأثيرها السلبي عند دراسة الوعي الوطني ومحاولة فهمه وتحديده.
الوعي الوطني وفق مفهومات مستحدثة:
وينبني الوعي الوطني في الوقت الراهن من خلال مفهومات جديدة تشرّع له، فالوطن تتحدد مساحته كيانا وجغرافيا بالصورة التي تكشف عن خصوصيته في مقابل خصوصيات بلدان أخرى في إطار الثنائيات الصغيرة بين البلدان المتجاورة بحيث يتقابل وجوده مع وجودها، وتطوره مع تطورها، أي في تميزه واختلافه عنها، واختلافها عنه سلبا وإيجابا، فترتبط حركته بحركة محيطه من الدول، وبذلك يمكن أن ينبني الوعي الوطني على أساس منهج معين من التقابل، فيدل على ذاته من خلال ما ينجزه لوطنه، وليس بالاعتماد على الجغرافيا بصورة كبيرة، فقد أثبتت الجغرافيا عدم أهميتها بصورة مطلقة، فالدول ذات المساحات الصغيرة الآن في المنطقة تلعب دورا كبيرا لا تلعبه كثير من الدول ذات المساحات الجغرافية الواسعة، فمفهوم الجغرافيا، جغرافيا الوطن، يمكن أن يظل فاعلا ويمكن أن يجمد، والمهم العلاقات التي يمكن إنشاؤها مع الدول الفاعلة على النطاق العالمي على مختلف الأصعدة لاسيما الاقتصادية والسياسية وما يرتبط بذلك من تفعيل مناح مختلفة تأخذ مداها في حركات الواقع المعاصر.
الوعي الوطني والتاريخ:
ويجدر في سبيل إدراك الوعي الوطني أن نفهم تاريخنا والتغيرات التي حدثت فيه بعمق، وأن نفهم المجالات التي التحم فيها الوعي بالواقع، بغض النظر عن كون مفهوم الوعي الوطني لم يكن معروفا في التاريخ، فالمهم أن يكون الوعي قادرا على رؤية أبعاده المختلفة سواء كان وعيا اجتماعيا أو سياسيا أو وطنيا يمتلك إمكانية الإرادة والتغيير، ففي تلك الحالة يكون أكثر تأثيرا وقوة كما حدث في المرحلة الإباضية التي تأسس على أساسها في حضرموت مشروع ثوري كبير لمواجهة الدولة الأموية تجاوز منطقة حضرموت إلى خارجها بحيث صارت حضرموت هي التي تحمل الثورة والوعي وتنشره وتدفع به إلى الخارج مما لم يتحقق بعد ذلك في مراحل تاريخية لاحقة مما أدخل حضرموت في فلك التفاعل السياسي والفكري القوي في ذلك الوقت وجعلها تتمثل وجودها بصورة جيدة إن لم نقل عظيمة، وبغض النظر عن عدم انتشار الوعي الإباضي المقاوم لأسباب تاريخية متعلقة بقوة الدولة الأموية ومهاجمتها لحضرموت في عقر دارها وغير ذلك، فإنه يكفينا منه أنه قد تجسد عمليا وحدث فيه التلاحم بين الفكر والواقع، وتحقق من خلاله مشروع الإنسان الذي رسمه لنفسه في ذلك الوقت، ولم يكن ليضطرب لولا الهجوم الكاسح والقوي الذي تعرض له من دولة نظامية كبيرة حينئذٍ هي الدولة الأموية، فمن المهم أن نفهم هذا المنحى وأن نتعمق في دراسته وفهمه لنعلم إلى أين يمكننا أن نتجه؟ وإلى أين يمكن أن نكون؟ ولا يظل وجودنا ينحصر في تفكير نظري معلق عن الواقع، أو في واقع يمشي بغاثا بخليط من أفكار مختلفة يتضارب الوعي فيما بينه على أساسها(7) ومن ثم ينحصر الوعي في إطار صراعات مختلفة قد تفضي إلى شكل من هذه الأشكال، وقد تفضي إلى صراعات بينها، وقد تفضي إلى شكل مختلف.
ويمتاز الوعي في تاريخ الأوطان بأنه عبارة عن سلسلة من التميزات والانقطاعات، فلا يمضي على وتيرة واحدة، وقد يشهد عددا من المراحل المختلفة والمتنابذة كما في تاريخ حضرموت بين الإباضية والصوفية التي انبثق من خلال وجودها وعلى مدى قرون في حضرموت وعي ديني عمل على نشر سلوك المسالمة بعيدا عن المواجهات العنيفة، أي إنه وعي يقوم على معيارية معينة لا ترغب في الحرب وممارسة القوة بقدر ما تشتغل على مستوى الروح وتهتم بنشر مبادئها وأفكارها بصورة ناعمة على ما في ذلك من سلبيات وإيجابيات.
ارتباط الوعي بالتسمية والمثل:
وللتسمية ارتباط بالوعي فحضرموت تطلق عليها عدة أسماء هي حضرموت، وبلاد الأحقاف، ووبار، وعبدل، وبرك الغماد، وهذه التسميات دليل كما يقول عبدالرحمن ابن عبيدالله في كتابه (إدام القوت) على عهود مختلفة، أي إن التسمية تأتي انطلاقا من تشكل وعي معين تجاه حضرموت من قبل أهلها أو من قبل الآخرين من خارجها في عصور مختلفة، ونحن في التسميات كما في الأمثال نكون ألصق بما نقوله وما نتداوله من خلال التسمية والمثل، فعندما يقول الحضرمي ((وطنك حيث ترزق)) فإنه يجسد هذا المثل تماما عندما يهاجر إلى بلاد أخرى ويستقر بها وتطيب معيشته فيها، فيتعامل معها على أنها وطنه يؤسس الشركات ورؤوس الأموال الضخمة، ولا يرسل إلا القليل، وقد لا يرسل شيئا إلى وطنه الأصلي حضرموت، بخلاف غيره من الأجناس المهاجرة الذين يحولون أموالهم إلى بلادهم سريعا حتى لو أقاموا في بلدان المهجر عشرات السنين، يبني الحضرمي ويستقر هادئا هانئا حتى لئن لم يأخذ جنسية ذلك البلد، وهنا يتحول موقع المعيشة إلى وطن، وليس الأمر مرتبطا بظروف سياسية في بلاده يمكنه أن يتذرع بها، وهو صادق، كقوله إنه في المرحلة السابقة كان الحزب الاشتراكي يمنع نشوء رؤوس الأموال الضخمة انطلاقا من النهج الاشتراكي، وفي العهد الأخير عهد الجمهورية اليمنية كانت رؤوس النظام تقتضي المشاركة بالنصف في رؤوس الأموال مقابل (الحماية) ولكن لنتجاوز هاتين المرحلتين، إلى ما قبل عام 1967م قرنين من الزمان عندما كان الحضرمي يهاجر إلى افريقيا وجنوبي شرق آسيا فإنه ما كان يحول أمواله إلى حضرموت رغم أن الإمكانية كانت متاحة أمامه، على الأقل في المدن، إذًا فالسبب كامن فيه انطلاقا من الفلسفة السلوكية التي يتضمنها هذا المثل، وقوة النص تكمن في تأثيره وليس بالضرورة أن يكون مطولا، كتابا مثلا، قد يكون مكونا من عدة كلمات لها تأثير بالغ ككلمات هذا المثل الثلاث، أو الأربع، لو عددنا الكاف (الضمير) كلمة مستقلة (وطنك حيث ترزق) مما يغني عن عشرات الكتب في قوة تأثيره، بل إن النص قد يكون كلمة واحدة، فهل يعني هذا أن حضرموت كانت موطنا لرزق جماعات معينة هاجروا إليها، ثم إذا ضاقت بهم سبل المعيشة فيها غادروها إلى غيرها، فهي بهذه الحال لا تختلف عن أي بلاد يعيشون فيها لأجل الرزق ثم يهاجرون عنها إذا قلت فيها أسباب رزقهم ومعيشتهم؟ هذا احتمال وارد على مستوى القراءة الثقافية التي تبحث عما وراء الظاهر، وهل يعني هذا أن جزءا من تفكيرنا مازال تحكمه الطريقة البدوية الباحثة عن الكلا والماء مكتفين بالحنين إلى الوطن الأول، مجرد الحنين؟ ربما.
وكما أشرنا في ثنايا هذه القراءة الموجزة فإن الوعي الوطني والوعي بعامة في حضرموت مازال بحاجة إلى مزيد من الدراسات وفق مناهج التحليل الحديثة لرؤية مواطن الخلل والتغلب عليها.
الهوامش:
المكلا
مايو2023م