أ. صالح حسين الفردي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 28 .. ص 23
رابط العدد 28 : اضغط هنا
الأديب والروائي الأستاذ صالح سعيد باعامر، له الكثير من الأعمال القصصية والروائية.. بدأها في العام 1983م بمجموعته القصصية (حلم الأم يُمْنَى) وأتبعها بمجموعته القصصية (دهوم المشاقصي) ورواية (الصمصام) في العام 1993م، ثم مجموعته القصصية (احتمالات المغايرة) في العام 2002م، ليتبعها برواية (المكلا) 2004م، وليواصل رحلة العطاء الأدبي حتى اليوم في (إنه البحر) و (ملكة الناصر) وغير ذلك من الأعمال الإبداعية.
حاوره / صالح حسين الفردي
أهلاً وسهلاً بكم وأنا سعيد جداً بإجراء هذا الحوار مع مجلة (حضرموت الثقافية) التي صارت تشغل حيزاً بارزاً في ثقافتنا المعاصرة في حضرموت، وسعيد بكم شخصياً أ. صالح.
– هي تلك التي أعبر فيها عن هجسي، بادي ذي بدء، وكان الهجس الحرية.. حرية الذات.. حرية القول.. حرية الوطن.. حرية التفكير والتعبير ومحاربة العادات المعيقة لحياة الشباب الطامح في حياة متحررة من أسر العقل الجامد، فكان بدء الجهر بما أريد، و كان بدء التكوين التعليم والتعلم والثقيف والتثاقف، وحب الكتاب، والمجلة، والمذياع، والتتلمذ، والتلقي عن الذي سبقني إلى عالم المعرفة ومد الجسور التواصلية.
– أهم المحطات في حياتي الإبداعية مدينة المكلا التي خصصت لها رواية خاصة بعنوان (المكلا) وقد جذبتني، فبحرها امتداد لبحر قصيعر، وقد صار وجداني في المكلا أكثر رقة، وأكثر حباً للجمال، فعاطفتي مع المكلا غير، وتليها عدن التي فاقت أخيلتي وعواطفي، أما رقيي فيتصل بالكويت، وإذا كانت قصيعر رعت النبتة فالمكلا والكويت أخصبتاها، وعدن أينعتها، وكل هذه المدن أوجدتني، وأيقنت أني مهما سرت الهوينى، وخببت، أو ركضت فلا هناء ولا مأوى ولا ملاذ إلا في حضن المكلا، فقصيعر تعني البراءة، والكويت التفتح، والمكلا التفتق، أما عدن فهي الخيال والتخييل والفضاءات التي لم تقل من قبل، ففي المكلا وجدتني أقترب شيئا فشيئا إلى الكتابة السردية وفيها أنجزت خمس مجموعات قصصية، وخمس روايات كلها طبعت ووزعت، وما زال في الخاطر هجس لما هو جميل، والجمال هنا جمال إبداعي. وتلعب اللغة الدور الأهم في المعالجة الفنية، والكاتب الروائي مهمته أن يبحث عن الفكرة غير المتداولة وأن يجود من أدواته التعبيرية، وأن يجدد من إبداعاته.
– في أثناء تحملي إدارة الثقافة في حضرموت ظل الهجس بالحرية هو الهجس، لكن لا أخفيك سرًا إذا قلت لك إن الإدارة تعرقل الإبداع، والراوي يجب أن ينطلق دون عائق، ولكن أجدني آنذاك في أثناء العمل أدون فكرة ما أريد أن أجد لها موقعًا في مشهد روائي، وأحيانًا، فإن قضية إدارية معينة قد تنقض ما غزلته فنيًا، وأشياء أخرى لا أحبذ ذكرها.
– علقت بالسياسة، ومجازًا بالنضال في وقت مبكر من حياتي، وكان الفضاء قصيعر من خلال نادي الوحدة الرياضي الثقافي الاجتماعي في عامي 1960م، 1961م الذي كان مناصرًا لعبدالناصر، وقد اتسم هذا النشاط بالعفوية، ولم يتبلور النضال الحقيقي إلا في الكويت، وانضمامي إلى تيار الحركة القومية ممثلًا في حركة القوميين العرب الذي فتق أمامي طرقًا وسبلًا واسعة للسير من أجل التحرر، واستقلال حضرموت والجنوب، وكنا في ضمن إطار قاعدي (حلقة خلية قيادية)، ورابطة تنظيمية مع عدد من شباب اليمن عمومًا، لكن التطبيق على أرض الواقع كان في حضرموت الساحل، عاصمة السلطنة القعيطية بعد عودتي في منتصف عام 1966م، وكنت مع رفاقي نناضل ضمن الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل إلى يوم الاستيلاء على حضرموت الساحل ثم الوادي فالمهرة وسقطرى وبلاد الواحدي إلى أن أنجز استقلال الجنوب عام 67م وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
وفي هذه الأثناء عملت محرراً في صحيفة الشرارة لسان حال تنظيم الجبهة القومية الحاكم في حضرموت ثم انتقلت إلى سكرتير دائرة الفكر والثقافة والإعلام في سكرتارية التنظيم بحضرموت، وآخر عمل لي هو مدير الثقافة بحضرموت، والآن متفرغ للكتابة.
السياسة علم، وكما عرفها مفكروها لا سيما الماركسيين، السياسة علم تغيير المجتمع، وليس بالضرورة أن تكون احترافاً، ومما سبق كان نشاطي السياسي على مستوى التغيير الاجتماعي في وطني، ولست نادماً على ما حدث، حتى لو كان سلباً فالشيء المكتسب في التجربة هو طموحنا في التحرر، وإن كانت المسألة نسبية فثمة من يحن على الماضي ويصفه بأنه (الزمن الجميل) بينما الجميل والقبيح في كل الأزمنة.
– الفكرة تبتدع من خلال الغوص في قضايا الإنسان وهي لا تنضب، الفارق بين الأمس واليوم هو أن الحلم كان لا يتعدى الحلم القريب الذي لا يجاوز الآن، فصار الحلم أعمق، وارتبط بسعة الخيال والحس الجمعي، وبالقضايا الكبرى والخلاص من معيقي حرية الإنسان وانعتاقه من كل ما يعيق تقدمه. بالأمس تسيد عبق الرومانسية المحلقة في فضاء الخيال وتعمقت مواجهة حقيقة ثالوث الخرافة، والتسطيح وعدم معرفة الواقع، وتجاوز معادلة الشكل والمحتوى، والاهتمام بجماليات الشكل، واليوم صرنا أكثر تشبثًا بجماليات التلقي بحيث يشارك القارئ الكاتب في نقده، وبذلك يكون مشتركًا في كتابة النص الذي يتعاطى معه.
– كل عمل إبداعي مهما ابتعد عنه مبدعه عند الكتابة لا يمكن أن يكون مكتملًا بأبعاده الفنية والإنسانية والوجدانية، فلا بد أن ينطلق الكاتب من شيء يكتوي به ولو من بعيد وإلا سينتج عملًا خاليًا من الحياة لا سيما السرد الذي يبنى فنيًا على أشخاص يتم الالتحام معهم دمًا ومشاعر حتى تينع الرواية بالإنسان الذي يفكر، يحب ويكره، ويتبنى، ويتعلم ويعلم، ويتأثر سلبًا وإيجابًا مثلا رواية (المكلا) الجانب الذي يمكن أن نبحث فيه عن شيٍء له علاقة بالرواية هو التخييل فيما يتعلق باختطافي الذي لم يحدث أساسًا، لكني أوردت ذلك ليحدث مقارنة بين ذلك الاختطاف الكاذب الذي عمدت إلى إيجاده في ظل نظام الوحدة، وبين سجني بصورة قانونية في ظل نظام الحزب الاشتراكي اليمني. الاتهام الذي وجه إلي قبل الوحدة هو (الانحراف)، والذي وجه إلي بعد الوحدة هو (الماركسية)، الاتهام الأول حدث من قبل الاشتراكي والاتهام الثاني لم يحدث (تخييل) ولكن القارئ الحصيف يستطيع أن يقرأ النص بعيدًا عن قصدية الكاتب أي يمكنه أن يفصل بين النص وكاتبه، كذلك هو الحال بالنسبة للقصص والروايات الأخرى.
وفي (الصمصام) كانت حسناء الفتاة السقطرية التي لعبت بعقولنا ونحن نحاور براءتنا واختطفها بدوي أكثر جرأة وجدية ووسامة في قصة (العيك العيك) التي تعني باللغة السقطرية (أكرهك)، ودهوم المشقاصي الذي كنا نتمثله وهو يشق البحر ويمتطي قاربه ليعارك الأمواج العملاقة والأسماك الكبيرة، ويسابق أمهر الصيادين ليكون له قصب السبق في تدشين موسم الاصطياد.
– ثمة تقريرية أو مباشرة في رواية (المكلا)، فتأثير الواقع يكون أبلغ من أي خيال أو تخييل أو تزويق، فاللحظة التي تنزل على الكاتب وهو يعالج نصه هي التي تجد سبيلها على الورق.
– من أصدقائي الفنانين والشعراء عبدالقادر الكاف، الملحن، الإنسان، العاشق الذي رحل وهو في قمة العطاء الإبداعي، هذا الفنان الحق الذي غاير ما هو سائد لأنه ابتعد عن نمطية الغناء الحضرمي الذي كان يدور حول أجواء الدان واللون الغنائي العوداي أو الصوفي إذا استثنينا تجربة المحضار، فعبدالقادر الكاف بدءاً من أغنية (شمس الضحية غابت) بدأ يطلق لوناً يمكن أن نطلق عليه غناء الوادي والصحراء، وشكل مع تجربة الأخوين حسن ومحفوظ باحشوان ومحمد عمر بن طالب وحسن بن طالب العامري تجربة خاصة، فعبدالقادر الكاف لم يأتِ من فراغ، فنحن أمام مدرسة غنائية اتسم بها الوادي تشم فيها عبق التربة، ونكهة البر الهلباء.
ثمة شيء ينفث رقة، ضمخ أغنيتنا، رقة يمكن إدراجها في سياق الرومانسية من حيث طغيان الحب والجمال يا (لذيك المناظر) أو قسوة الحبيب (لا تغرك شبعة العيد) صالح عبدالرحمن المفلحي.
وفي الشعر أميل إلى ما يكتبه خالد عبدالعزيز وطاهر عاطف و د. سعيد الجريري وصالح المفلحي وعبدالقادر الكاف، وفي المقدمة منهم المحضار وفي السرد ما يكتبه سالم العبد وعلي باذيب ووجدي الأهدل وآخرون، وفي النقد د. عبدالله البار، وطه حسين الحضرمي.
– بلد المشقاص يضج بكنوز الثقافة الشعبية المتعددة التي تتوزع بين الريف والساحل، فمن خلال البحر الزاخر بالعطاء تنهل من ثقافة البحر التي تعلمك الحياة فيه كيف تعرف البطولة؟ وكيف تواجه المجهول؟ وكيف تعانق الأمواج وتواجه العواصف؟ وكيف تعارك أسماكاً عملاقة شرسة سمتها أن تأكل حتى لا تؤكل، وعلى الضفاف تتعلم أو تتثقف كيف (توشّر) السفينة؟ وكيف تصنع بفنية ومهارة وإتقان؟ وكيف (تقلفط) جوانب السنبوق بالمطارق التي تقرعها أيدٍ ألفت تناغم النقرات فوق المسامير الكبيرة المغروسة فوق الألواح الخشبية الملتصقة ببعضها مشكلة لوحة أخاذة ومتكاملة للسنبوق على أيدي النجارين من آل بن ربيد وآل بازياد، وكيف تلم بأسماء مفردات ما تريده السفينة للإبحار من دقل، وشراع، وقلمي، وشلمان، وأين وتقع السطحة الأمامية التي تتصدر السفينة والسطحة الخلفية التي تقع بها قمرة النوخدة والصرنج والسكوني وصاحب (الديره) وأسماء البحارة الكبار والصغار من البحار الماهر إلى الطحان إلى صغير درك، ومتى يتم تكوير السمبوق وكيف (يجحب) والأهازيج التي تتردد في أثناء ذلك قبل الإبحار.
أما الريف ففيه ثقافة الأعراس، وذري البذرات في باطن الأرض، والحصاد، وكيف يحاول شاب أن يقترن بفتاه ليست من قبيلته؟ وكيف ينبري له ابن عم الفتاه؟ وكيف يراقص الرجل المرأة في (المدارة)؟ وكيف تقام الزوامل؟ وكيف تردد (التنصيورة)؟ ومتى؟ وكيف تطلق الرصاصات فوق الرؤوس دون إصابتها أحداً؟ وكيف يزف العريس والعروسة؟ وكيف يربى الطفل على الرمي بالبندقية؟ وكيف يدافع عن نفسه؟.
– وجود شخصية المرأة في كتاباتي السردية ليس وجوداً ديكورياً تزينياً، بل هو ضرورة فنية تعبر عن حياتنا الانسانية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ووجدانياً، فنجدها في رواية (ملكة الناصر) كاتبة ومناضلة شرسة وصحفية مثابرة وحبيبة تحب من اجل النجاح المهني والصحفي ومن أجل القضية، وحين تستشعر أن هناك ضعفاً سرعان ما تضحي بحبها وتناصر البعد النضالي، ونجدها في رواية (إنه البحر)جزءاً من نسيج مشروع قرينها الذي يهجس – وهو النوخذة – للأمواج والسفينة وجماليات الحياة.
وإلى ما قبل بضع من السنين ظلت بعض نزوعات حنامينه تؤثر في صناعة الإناث كتابياً لاسيما شخصية المرأة العاشقة، وثيمة البحر، لكن مع مرور الأيام أخذت أتخلص من التأثر، وأستحضر شخصيتي السردية، وأظن أني نجحت في إيجاد شخصيتي الروائية انسجاماً مع كينونة المرأة في بلادي.
– البحر جميل ساحر المنظر إلى حد أنك قد تقدم على مغامرات لامتطائه بل احتضانه. البحر لوحة كونية، تحدق فيه وكأنك تهفو إلى الجنان. وكنت أصابحه وأماسيه منذ نعومة حياتي الأولى ونحن لصيقان معاً إلى الآن، لا يمكن الفكاك عن بعضنا، ولأنني لم أمتطه من اجل امتهانه على الكبر حفر ثقباً كبيراً من الحسرة في كل دواخلي فأجدني من البدء أقف متفرجاً عليه وعلى أقراني وهم يجولون فيه، ويرتطمون به، ويخبطون أمواجه بأيديهم وأرجلهم، ويشقون صفحته، ويغوصون في أعماقه، ويهيمنون عليه طولاً وعرضاً، وكأنهم يقومون بدور السلطان عليه إلا حين يثار فيستبيح كل القوى.
لقد ترعرعت من النظر إليه، أحلم به كما تحلم كل أم دون أن أحقق حلمي لكنني مدين له إلى ما لا نهاية. وكنت أعود إلى أبي منكسر الخاطر حزيناً تائقاً إلى انبلاج يومٍ جديدٍ لألعب معه لعبة الحلم والتشهي، وكلما أدبر الحلم ولم يتحقق أنتهي لتبدأ الكتابة السردية، وبربك أضل أسيراً لتضمخه في كتاباتي السردية، وكانت مناهل القصة والرواية والحب وجماليات الكتابة تأتي منه، من البحر.
– حياتي العائلية كحياة أي زوج وأب وجد حميمية أريحية، واذا ابتلاني الله أقابل ذلك بامتنان، ورب ضارة نافعة وكنت قبل ذلك أغرق في الحلم والتفاؤل، وفي كل حالة تمر بي تمسني اللغة بصورة خاصة تعبر عن الحالة النفسية
– المسألة نسبية فعندما تظهر رواية للتو أسعد وأكون راضياً عن نفسي بها، وبعد وقت من الزمن أنحيها جانباً وأشتغل غيرها، وفي الرواية الجديدة أكتب وضعاً مختلفاً مستفيداً مما لم أفعله في الأولى، وإذا حدث ذلك أرشح رواية (ملكة الناصر).
– شكل الشاعر الرقيق الملحن العذب والصديق صالح عبدالرحمن المفلحي نقلة نوعية في مجال التنوع الجميل في ثقافتي الغنائية شعراً ولحناً وموسيقى إذ إن مفردات قاموسه الشعري الغنائي مختلف عن المألوف وفقاً للقضية العاطفية الوجدانية التي تتوهج في الأفئدة وقد توطدت علاقتي به بعد أن ارتبطنا أسرياً، فالمفلحي أحسن جليس. إنه ينفث رقة وإنسانية، ويجيد النكتة ورواية الحديث والنوادر، وكانت أسرته مثالاً للمحبة والأريحية والأنس والعلاقة المثلى، رحمه الله.