أضواء
أ.د. علي صالح الخلاقي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 28 .. ص 31
رابط العدد 28 : اضغط هنا
توطئة:
ربما لم يسمع كثيرون باسم “دولة ابن مقيص”، التي ظهرت في حضرموت الداخل مطلع أربعينيات القرن الثالث عشر الهجري، وتحديدًا سنة 1242هجرية، وليس سنة 1243هـ، كما سنبيّن لاحقًا، ولم يكتب لها البقاء طويلًا؛ إذ شهدت نهايتها التدريجية خلال الثلاث السنوات اللاحقة، ولذلك ارتبطت في الذاكرة الحضرمية في كونها أقصر دولة تُذكر في تاريخ حضرموت، حتى أصبحت محل تهكُّم وسخرية؛ لقصر عمرها، الذي لم يتجاوز العامين، بل وغدت مثلًا يضرب به في قصر المدة، فيقال: (كما دولة ابن مقيص)؛ دلالة على عدم الثبوت والاستقرار والاستمرار. ومثلما كان عُمرها قصيرًا، فإن تاريخها ما زال مُبهمًا وغامضًا، والمعلومات التي وصلتنا عنها شحيحة ونادرة جدًا، تقتصر على شذرات ونتف من أخبارها، مما ورد هنا وهناك في بعض المؤلفات الحضرمية، التي تكرِّر المعلومات الشحيحة نفسها، مع بعض التضارب.
ما حفزني للكتابة عنها هو حصولي على ثلاث وثائق تاريخية مهمة، ذات صلة بدولة ابن مقيص، تعود إلى فترة نشوئها، وهي ليست وثائق رسمية، وإنما رسائل شخصية مُرسَلة من حضرموت إلى يافع، لكنها مصادر أصيلة، لا لبْسَ فيها، وتحتوي الجديد والمفيد، محفوظة في خزائن الوثائق بحوزة أسرة فقهاء بني بكر – يافع (آل عز الدين)، والفضل في ذلك يعود لخازن هذا التراث النفيس الشيخ ناصر علي محمد الفقيه بن عزالدين البكري، الذي بادر مشكورًا لإخراج هذه الكنوز من أقفاصها، التي ظلت حبيسة فيها لأكثر من قرنين، وأتاح تصوير الكثير منها؛ لتكون في متناول الباحثين، ولاسيما تلك الوثائق التي وردت فيها أخبار الأحداث التاريخية في حضرموت وعلاقتها بيافع، ومن ضمنها هذه الوثائق النفيسة، التي تعرضت لأحداث تلك الفترة ضمن الأخبار العامة، ومن ذلك شمولها على حلقات مهمة مفقودة من أخبار نشوء دولة ابن مقيص؛ إذ تكشف لنا جوانب مهمة من ذلك الغموض، الذي اكتنف تاريخها القصير منذ لحظة تأسيسها عقب وصول ابن مقيص من مهجره في جاوا (أندونيسيا)، بما كسبه من ثروات مالية، عاد بها معه إلى حضرموت وحتى نهايتها.
والرسائل هي حسب تسلسلها الزمني:
وتكمن القيمة التاريخية لهذه الرسائل المهمة في كونها معاصرة وقريبة من الأحداث، اثنتان من سيئون وواحدة من المكلا، وتعرضت بشكل متفاوت لبعض أخبار حضرموت في مجالات شتى، تفيد الباحث في الشأن الحضرمي عن تلك الفترة، وضمن ذلك أخبار دولة ابن مقيص، أو سلطنة ابن مقيص، حسب توصيف بعض تلك الرسائل، التي احتوت على حقائق ومعلومات جديدة ومفيدة عنها، من ذلك إعادة النظر في تاريخ نشأتها، ومواقف كثير من القوى منها، وأسباب فشلها. وهذه الوثائق مصادر أصيلة وأساسية، لا يرقى إليها الشك، وتميط اللثام عن بعض جوانب الغموض لهذه الدولة، وتبين المواقف المساندة والمعارضة لها. ومن بين تلك الرسائل ما يكتسب أهمية خاصة وهي رسالة منصب عينات، التي أوضحت لنا لأول مرة موقف عينات المعارض لهذه الدولة، والمتضرر الأكبر منها، خلافًا لمواقف بقية السادة الذين كانوا وراء قيامها، ودعموها بقوة لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقًا.
فضلًا عن الاستناد إلى ما جاء في هذه الوثائق، فقد تتبعنا ما ورد في المصادر والمؤلفات الحضرمية من شذرات متناثرة عن هذه الدولة؛ لإثراء هذا البحث الذي يعد الأول من نوعه عن دولة ابن مقيص.
ظروف وأسباب نشأة دولة بن مقيص:
سادت حضرموت في القرن الثالث عشر الهجري سلطات المدن المتعدِّدة، وغلبة الصراع بينها على الحكم والنفوذ والتسلط، فعمّت الفوضى والفتن، والجنوح إلى البطش والظلم والطغيان، ولم يستطع أحدٌ كبح جماحها وردها إلى صوابها.
وبالنظر إلى الوضع السياسي العام بحضرموت في ذلك القرن نجد أن أبرز مظاهره هو نهاية الدولة الكثيرية الأولى، وبروز سلطة الطوائف اليافعية وغيرها من القبائل الحضرمية، التي تقاسمت النفوذ في مدن حضرموت، بل إن تريم وحدها تقاسمتْها سلطة مثلَّثة، شملت آل غرامة، وكانوا مسيطرين على وسط مدينة تريم ومنافذها الجنوبية، وآل همام، أصحاب حصن الرّناد، وكانوا مسيطرين على حارتي السوق والخليف، وكان بينهم وبين آل غرامة من الإحن والعداوة ما لا يدخل تحت وصف، وآل عبدالقادر، أصحاب حافة النويدرة بتريم، وكان بينهم وبين كل من آل غرامة وآل همام بغضاء ومنافسة لا حدود لها، وفي سيئون آل الضُّبَي، وفي تريس بنو النقيب، وفي شبام الموسطة، وبنو بكر في مريمة، وابن يماني التميمي في قَسَم، والعمودي في دوعن… إلخ. أما الساحل الحضرمي فكان تحت سيطرة الكسادي في المكلا ونواحيها، وابن بريك في الشحر ونواحيها “إلا أن الحُكّام بالساحل كانوا على وئام مع الأهالي، وكان حكمهم متميزًا بالاعتدال ورعاية الحقوق، وبالأمن والاطمئنان”([1]).
وقد جرت محاولة لإحياء الدولة الكثيرية من قبل جعفر بن علي الكثيري؛ إذ استولى على شبام، سنة 1218هجرية، لكنه أخفق في توسيع نفوذه إلى سيئون وتريم وكانتا تحت حكم الطوائف اليافعية، وتوفي سنة 1223هجرية دون أن يحقق طموحاته. وعلى أنقاض حكم أسرة جعفر بن علي الكثيري قام حُكم أسرة آل عيسى بن بدر في شبام سنة 1239هجرية([2]).
وفي عشرينيات ذلك القرن تكرَّرت في حضرموت موجات حملة ابن قملا الوهابية، فأحدثت صدمة في ثوابت المجتمع الحضرمي، وانقسم الحضارم بكل فئاتهم في مواقفهم تجاه هذه الحملة، بين طرف مؤيِّد مناصر لها ومتقبِّل لأفكارها ومشارك في نشرها، وطرف آخر معارض ومقاوم لها ورافض لأفكارها ومبادئها التي نادت بها؛ لأنها تعرَّضت لمعتقدات ترسخت في أذهان الناس، ويصعب تغييرها بالقوة، وهناك طرف ثالث كانت مواقفه حَذِرةً من الحملة وقَبِلَ بها على مضض كأمر واقع([3]). وقد يكون من أسباب قيام هذه الدويلة هو تخوُّف العلويين من المد السلفيِّ، الذي يقوده الأمير ابن غرامة، الذي كان من أشد أنصار حملة ابن قملا، وعُرف بتشدُّده للدعوة الوهابية (نسبةً للشيخ محمد بن عبدالوهاب)، وفرضها في تريم([4]).
كما نشبت حرب ضروس بين عينات وبين آل تميم، في ثلاثينيات القرن الثالث عشر الهجري، من جراء الحصون المسماة بالغرفة، خارج بلدة “قَسَمْ”، واستمرت هذه الحرب نحو سبع سنوات، تضرر الناس منها أيَّما ضرر، وجنَّد كل منهما جنودًا من المقاتلة، عادت عليهما وعلى غيرهما بالخسارة والدمار([5]).
وفي ظل تلك الفوضى التي مدَّت أطنابها، ونصبت خيامها في حضرموت الداخل بشكل خاص، ساد التمزق والتشتت والفتن والصراع، وكانت تلك الدويلات والكيانات والشُّلَل تصارع أقدار الحياة وتتنازع على البقاء، ولكل من أولئك الفرقاء يخضع قطاع من الرعايا الحضارم المستضعفين في الأرض، المحرومين من كل حق إنساني أساسي، إلا من حق الموت جوعًا وقهرًا، ويحيط بهؤلاء جميعًا قبائل سيبان وبالعُبَيْد والقَثَم والدَّيِّن ونَوَّح، وهؤلاء كانوا يقتتلون فيما بينهم على أتفه الأسباب. ولم يكن العلويون في المنطقة ذوي جاه ونفوذ روحيين فحسب، ولكنهم كانوا أيضًا من الناحية الذاتية الإيجابية أكبر قبيلة في حضرموت من حيث العدد والثقافة والمال، ومتانة العلاقات فيما بينهم، وشدة الغيرة عليها والتأثير الفكري في مجتمعهم، وكان فيهم السياسيون والدعاة وأرباب الشجاعة والرأي والكرم والصلاح والإصلاح، وبلغ بهم وبالناس الآخرين سوء الحال في وادي حضرموت حَدًّا حَدَا بهم إلى أن يمسكوا بالقشة أمَلًا في النجاة من سيل الظلم الجارف، الذي كانت أمواجه تتقاذف بهم في كل اتجاه([6]).
ولمواجهة تداعيات تلك الأوضاع المضطربة، وما تعج به من فتن وحروب، وتفشي الظلم والجور والقتل وبالأخص في وادي حضرموت في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري جرَّاء تصرفات السلطات اليافعية والكثيرية القائمة حينذاك في تريم وسيئون وشبام ونواحيها، ظهرت دعوات للإصلاح وإقامة العدل، تصدَّرها السادة العلويون، الذين يحظَوْنَ بثقة الأطراف المتنازعة؛ لحياديتهم في تلك النزاعات والتجاذبات، وكانت دعواتهم مقبولة، وكلمتهم مسموعة؛ لما لهم من تأثير روحي، ومكانة اجتماعية في إطار النظام التراتبي الاجتماعي في حضرموت، ودورهم المشهود في النشاط الدعوي والتعليمي الواسع، ومكانتهم الدينية والثقافية في حضرموت.
من هو ابن مقيص؟
لابد لنا في البدء أن نتعرف على شخصية مؤسس هذه الدولة أو الدولة التي لم يطُل بها المقام، وهو الشيخ المقدم عمر بن عبد الله بن مقيص الأحمدي اليافعي، أو التميمي، فهناك تضارب في نسبه بين يافع وتميم. ويرجع ابن عبيد الله في (إدام القوت) نسبه إلى يافع، ويذكر أن مسكنه كان “دحّامة آل قصير”، إلى الشمال من الصومعة([7])، وبالمثل يرجع ابن هاشم وبامطرف وغيرهما ابن مقيص ليافع([8])، غير أن ابن عبيد الله يذهب غير ذلك في (بضائع التابوت)؛ حيث يذكر أن ابن مقيص من آل أحمد التميميين، وليس من يافع، وحجته أن بعض المعمِّرين أخبره أن ابن مقيص هو الذي اشترى حصن ابن مطهر أولًا، ولـمَّـا تلاشت دولته قام آل حتيش وهم من آل قصير التميميين بالنيابة عنه أو عن ورثته، ويظهر أن شراء عبود بن سالم له كان منهم، ومنه يتأكد القول السابق في أخبار ابن مقيص بأن آل أحمد الذين كان ابن مقيص منهم هم من آل تميم لا من يافع، وإلا فلماذا كان أمره وإرثه إليهم من دون يافع مع كثرتهم ودولتهم!([9]).
وفي قصيدة طويلة للسيد عبدالرحمن بن محمد بن شهاب في مدح ابن مقيص ما يشير إلى نسبه، فقد جاء فيها:
فاسمع كلامي بلطفٍ يا غريب الدار
ذا الأحمدي قد وصل قادم من الأسفار
غاير على أهل النبوة (شيخه المحضار)
عمر إذا ضاقت ادعه معدن البرهان
فقلت ما في كلامك يا أخي تكذيب
هذا محقق لدينا نحسبه تحسيب
الأحمدي في بلدنا يحكم الترتيب
دعوة (علي بن بوبكر) ضياها بان
هذا عمر خو علي لحمدي قد قام
عسى الله به يصلح دعائم الإسلام
تمسي ذياب الفلا ترعى مع لغنام
إذا أتى العدل فاضت رحمة المنان
وبقوله إن شيخه المحضار مما يتأكد به أن ابن مقيص من آل أحمد التميميين، لا اليافعيين، كما جاء عند ابن عبيد الله([10]). وهناك من يوافقه هذا القول([11])، وحجته أن المقدم عمر عبد الله بن علي بن مقيص الأحمدي التميمي وليس اليافعي؛ لأن الأحمدي اليافعي من آل القعيطي من يافع ومساكنهم بحضرموت العنين والريضة بمنطقه القطن وليس لهم وجود في مناطق تريم لا قديمًا ولا حديثًا.. ثم إن وزيره السيد عبد الله بن أبي بكر عيديد العلوي كان منفيًّا من مدينته تريم ولاجئًا في بلدة السويري، بعد مقتل أخيه سالم على يد يافع، مثله مثل كثير من العلويين الفارِّين من مدينه تريم، إبَّانَ حكم يافع لها، فليس من المعقول أن يساعدوا في بناء دوله يكون أميرها يافعيًا، فهذا أمر يؤكد لنا نسب ابن مقيص إلى آل أحمد التميميين لا اليافعيين، زيادة على ما تضمَّنتْه قصيدة السيد أحمد علي بن شهاب الدين من إشارة واضحة إلى نسب ابن مقيص في آل أحمد التميميين.
وأقول: إن نسبه التميمي أقرب إلى الصواب، استنادًا إلى ما أفصحت عنه الوثائق التاريخية التي بحوزتنا، بدليل اصطفاف تميم معه في الحرب ضد يافع، فلا يعقل أن تحاربه يافع أو تخذله وتقف ضده إن كان من بني جلدتها، كما سنوضح لاحقًا، ثم إن الوثائق الثلاث لم تذكر اسمه الكامل ولا نسبه، واكتفت بذكر لقبه (ابن مقيص)، ولو كان من يافع لأوردت اسمه ونسبه. ومع ذلك يظل نسبه محصورًا بين يافع وتميم، وقد تظهر في المستقبل وثائق جديدة محفوظة في خزائن البعض تقطع بصحة نسبه، وتنهي الجدل الدائر حوله.
كان ابن مقيص ضمن أسراب المهاجرين من حضرموت إلى جاوا في الجزر الأندونيسية، وهناك كوّن ثروته طوال سنوات غربته التي لا معلومات عنها، وعاد بما جمعه من أموال إلى مسقط رأسه في حضرموت، وعند عودته ساءَهُ وأحزنه ما وقعت عليه عيناه من حال البلاد والعباد؛ إذ رأى الفوضى تعم المناطق، والقبائل متفرقة شذر مذر “متشعطرين”([12]).
ومن الواضح أنه فور وصوله من مهجره بما أحضره معه من جاوا من أموال لم يكن طموحًا في السلطة والنفوذ أو ساعيًا إلى ذلك، كما أنه لم يكن طرفًا في الصراع الدائر حينها بين قوى النفوذ القبلية، لكنه كان، كما – يصفه ابن هاشم -: “رجلًا ذا نيةٍ صالحة وميلٍ للصلاح والخير، وذا شجاعة وعزم، ولديه عصبة لا بأس بها، ولهذا السبب رأى العلويون ومن نحا نحوهم من المجاهدين لتخليص الوطن من ويلاته أن الرجل يملك شيئًا من الجدارة بأن يتصدى لهذا الأمر الجلل بمساعدة أهل الإصلاح من الأمة، الذين ألجأهم ما يلجئ الغريق إلى التشبث بما هو أوهن من بيت العنكبوت”([13]).
التمهيد لقيام دولة بن مقيص
بالنظر إلى اليأس الذي استقر في نفوس الدعاة إلى الإصلاح من سوء الأوضاع واضطراب الأمن وانتشار الفتن والحروب سعى بعض العلويين، من دعاة الإصلاح، وفي مقدمتهم أحمد بن عمر بن سميط، وعبدالله بن حسين بن طاهر، وحسن بن صالح البحر الجفري، لإنشاء دولة تعيد الحق إلى نصابه، وتبث الاطمئنان في النفوس، وتوطد دعائم الأمن والاستقرار في النفوس في ربوع الوادي، الذي نُكب بحكامه وقبائله، وكان أولئك العلويون، شأنهم شأن الغريق الذي يتشبث بالقشة رغبةً منه بالنجاة، فوقع اختيار أولئك العاملين لنصرة الحق، على الشيخ المقدم عمر بن عبدالله بن مقيص الأحمدي اليافعي ليكون أميرًا لدولتهم المرجوَّة، بعدما رأوا أنه وجماعته من آل الأحمدي جديرون بمهام النهوض بمهام الدولة الجديدة المنتظرة، فعرضوا عليه الخطوط العريضة للفكرة، فأبدى استعداده للعمل أميرًا يؤيد الشرع الشريف، وأنه سوف يعمل بما يشير عليه أعيان العلويين وعلماؤهم شريطة أن يمدوه بالمال ويعضدوه بنفوذهم([14]).
وبالفعل عضد العلويون ابن مقيص وأمدوه بما يلزم، وقدّموا له الآراء السديدة، وجمعوا له الأموال الكافية، وقُبَيْل إعلان قيام الدولة رأوا ضرورة وجود قاعدة حربية لهذه الدولة، تكون رمزًا لهيبتها ومنطلقًا لحركاتها العسكرية، وترسانة لمهام الغزو والفتح، فاشتروا له (حصن مـُطَهَّر) بوابة تريم([15]) من آل مطهر اليافعيين، ويقع هذا الحصن في سفح تل صغير في المكان المسمى “حيد قاسم”، جنوب مدينة تريم، ووضعوا فيه مدفعًا باروديًا توكيدًا منهم لهيبة الدولة المنتظرة، وحينها فكر العلويون في وزير كفء للأمير المرتقب، ووقع الاختيار على عبدالله بن أبي بكر عيديد وزيرًا ومشيرًا على الأمير، يستنير برأيه، ويستضيء بإرشاداته، وتهللت أسارير العلويين باليوم الموعود، والمهدي المنتظر، الذي سوف يملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا!([16]).
مباركة العلويين في رسالة ابن سميط:
مما لا خلاف عليه أن العلويين هم من أقنع ابن مقيص بإقامة دولته، وكانت مباركتهم ومناصرتهم له تفوق التصوُّر، وجاء موقفهم ذلك ضمن مساعيهم الدائبة ومجهوداتهم المتوالية في إقامة والٍ عدل، يريح الناس مما هم فيه من الفتن، التي لا حد لها ولا نهاية.
ولعله من المناسب الاطلاع على نص رسالة السيد أحمد بن عمر بن سميط العلوي الموجهة إلى السادة العلويين بالجهة الشرقية، يبارك فيها قيام دولة ابن مقيص، ويدعوهم لمؤازرته، نوردها هنا كاملة للوقوف على تلك المساعي العلوية، التي كانت المحفِّز الأول لقيام هذه الدولة([17]):
بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة، يخص سادتي الأجلاء الأعلام الحبيب عبد الله بن الحسين بن طاهر والحبيب عبد الله بن أبي بكر عيديد، وكافة السادة من آل أبي علوي حفظهم الله وأدام النفع بهم لنا ولسائر المسلمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نعلمكم أنه وصل خط للفقير من السلطان عمر بن عبدالله بن علي بن مقيص الأحمدي، وعرض بالشأن الذي تصدَّى للقيام به، فالله يبارك له ولنا ولجميع المسلمين في ذلك، ويسخر له على ذلك أعوانًا وبطائن من أهل العلم والفضل والصلاح، إذا نسي ذكَّروه، وإن ذكر أعانوه، ويشرح صدره لقبول نصحهم وإرشادهم، في عافية للجميع، وإن رأيتم يا سادتي أن ترشدوه وتعولوا عليه في أن يقيم علمه خاصة لتعليم مهمات الدِّين، التي يلزم الكل تعلمها ولو بالرحلة ولو إلى الصي،ن ويحمل الكل من جهال طبقات الناس على دخولها من شريف وقبيلي وحراق (حراث) وساني وسائل، سواءً كانوا ذكورًا أو إناثًا، ويكون ذلك تلقينًا من غير حضور قلمٍ ولا دواةٍ لما فيهما من المضرة لبعض الناس ممن يقل خوفه من الله كما تفيدون ذلك، ويجعل لذلك ما يرغب أهل الفاقة والحاجة في دخولها للتعلم، كما لا يخفاكم أن ذلك من أجَلّ المهمات، ومن أقوى داعي لحصول النفحات، ورسخوها في الجهات المشار إلى ذلك بحديث: إن لربكم في أيام دهركم نفحات أَلَا فتعرَّضُوا لها، وهذا إن شاء الله من التعرض ولا ترون علينا، فالحاضر يرى ما لا يرى الغائب.
ومن عجب إهداء تمر لخيبر… وتعليم زيدٍ بعض علم الفرائض والسلام وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
من المستمد أحمد بن عمر بن زيد بن سميط… عفا الله عنه.
قيام الدولة وهيبتها لحظة إعلانها:
ينفرد ابن عبيد الله بالقول إنها قامت سنة 1242هجرية([18])، وهذا هو الأقرب إلى الصواب حسبما تؤكده الوثائق التاريخية الجديدة التي حصلنا عليها، والتي تبيِّن أنها قد كانت قائمة قبل ذلك التاريخ المتعارف عليه لدى غالبية المؤرخين.
ومن بين تلك الوثائق الأكثر أهمية، الرسالة المؤرخة في 15 صفر سنة 1243هجرية([19])؛ لأنها تصف هيبة الدولة الوليدة السائدة حينها، بما يعني أنها كانت قائمة قبل التاريخ الشائع والمتعارف عليه في بعض المراجع المكتوبة والمنشورة، أي قبل 15ربيع الآخر من ذلك العام 1243هـ، بفترة زمنية لا بأس بها، مكَّنتْها من فرض هيبتها وتعزيز نفوذها، حتى حظيت بقبول واسع، إما عن رهبة أو عن رغبة، ولا سيما أنها جاءت كالمنقذ للمِّ أشتات القبائل المتفرقة والمتنافرة والمتحاربة، فطغت هيبتُها وانتشرت في محيطها فورَ الإعلان عنها، وتسابق الجميع لإعلان الولاء إلى مقام (السلطان ابن مقيص) كما تصفه الوثيقة، وتذكرُ تَسَارُعَ وصول كل قوى النفوذ حينها من دويلات المدن المتنافرة، مثل آل تميم، وابن عوض غرامة، وابن عبدالقادر، وابن همام، وابن متاش، والزغلدي؛ خوفًا وخشيةً من عواقب تأخرهم في الوصول إلى الحاكم الجديد المدعوم من العلويين، وحتى لا يُسَاء فَهْم تأخرهم عن تأييدها فتكون الدولة الوليدة ضدَّهم (عليهم)، ولهذا تسابقوا للوصول إلى ابن مقيص بعد لبعوس، أي بعد ابن عوض غرامة، وقدَّموا له رهائن (محابيس)، وطرحوا (الرضا) كعربون للولاء والتبعية. وهذا ما كشفتْ عنه بوضوح الوثيقة التاريخية؛ إذ ورد فيها بالنص:
“…وبعد وصول بن مقيص من جاوة ولحق القبايل مشعطرين وقام في مقام الدولة، وحبسوا له آل تميم الجميع، وبعد لبعوس وقع بينهم سباق إلى عند السلطان بن مقيص واختافوا على أن كلّن يقول السلطنة عليَّ، واندر([20]) بن عوض غرامة وحبس وطرح الرضا، وبعد عَقَّبوا بن عبدالقادر وبن همام وبن متاش وحبسوا له وطرحوا له أربعه محابيس من بن غرامة وبن همام وبن عبدالقادر([21]) وبن متاش([22]) والزغلدي([23]) وترجَّو الوطا له والباطل الذي با يدهم”.
ومن أساليب فرض هيبة الدولة في المناطق التي خضعت وأعلنت ولاءها له، تذكر الوثيقة، أنه أبقى على ممثِّلين له (نَقَّالة عندهم لشاكي ومشتكي) وحدد مهمتهم بتلقي الشكاوى من الناس ونقلها له عن أية مظالم تلحقهم، وأقام الشريعة وهي من المطالب الرئيسة التي وضعها العلويون عليه عند إعلان دولته.
ومن نتائج هيبة الدولة أن ساد الأمان بعد خوف، والعدل بعد ظلم، وهُيِّئَت سبلُ الاستقرار في جهة الحدر، وهي المناطق الواقعة شرقي مديرية تريم، التي عم فيها الأمان بعد أن سادتها الفوضى “رَحْمَة من بعد الشتات”، وأصبح المرء يسير بأمان إلى المحجلة، وهي إحدى قرى مدينة القَطْن، من فرط محولة محدر إلى الشق البحري، دون أن يعترضه أحد أو يسأله من أين جئت، بعد أن عانوا كثيرًا من الرعب والخوف من (بعد الباطل الذي قد شافوه)؛ إذ لم يكن أحد يقدر أن يؤدي صلواته في المسجد.
وعن فرحة الناس بقدوم ابن مقيص من جاوا وإعلان سلطنته بعد أن ضاق بهم الحال، يشير السيد عبدالله بن عمر بن يحيى في مكاتبة له يقول: «والجهة لم يقيض الله لها سلطان، يدفع عنها كل شيطان، فهي حالكة خاربة، والهجرة منها واجبة، والناس فرحون بالرجل الخارج من الجهة الجاوية، إذا كان صالح النية، وله همة علية، ومستبد بنفسه، بكثرة العبيد والمدافع الكبار القوية، تاركًا الاستهانة بقبائل الجهة بالكلية، ولا يعطيهم إلا ضرب السيوف والبنادق الروسية، منفذ للأحكام الشرعية المحمدية»([24]).
بل إن البعض عدَّ ظهور ابن مقيص وسلطنته، وطاعة الناس له بالاختيار، وانقيادهم بلا تكليف ولا إجبار إغاثة من الله وفرج منه بعد الشدة، كما جاء في كتاب من الشيخ عمر بن عبدالكريم بن عبد الرسول العطار في شهر محرم 1243هجرية، بعثه للسيد محمد بن عيدروس بن عبد الله بن أحمد الحبشي، قال فيه([25]): “وما ذكرتم من الفرج بعد الشدة، بإظهار الله بن مقيص وسلطنته، وطاعة الناس له بالاختيار وانقيادهم بلا تكليف ولا إجبار، فهذه إغاثة من الله”.
موقف سادة عينات وبعض القبائل:
عرفنا سلفًا أن السادة العلويين بمكانتهم الروحية وبتأثيرهم ونفوذهم القوي كانوا وراء قيام دولة ابن مقيص والداعمين لها؛ أملًا في إقامة العدل والانقياد لسلطتهم الروحية، لكن الوثائق التاريخية التي بحوزتنا تكشف لنا أن بعض السادة لم يكونوا متحمِّسين لسلطنة ابن مقيص، بل وغير فرحين لقيامها، ونقصد بذلك سادة عينات، الذين لم يباركوا قيام دولة ابن مقيص، بل كانوا فارِّين منها، ولم يقبلوا بسلطنتها عليهم إلَّا على مضض وبالإكراه؛ لأنها قاسمتهم بالإجبار بأخذ نصف موارد مطبخهم، والمقصود بذلك النذور والهبات والموارد التي يحصلون عليها من أتباعهم، وخاصة من يافع، وهذا ما يتضح مما جاء في رسالة الجحوشي وابن شهابي إلى فقهاء بني بكر في يافع، المؤرخة منتصف شهر صفر سنة 1243هجرية، ويعنون بسادتنا الحبايب، سادة يافع مناصب عينات؛ إذ ورد بالنّص: “… ومن بعد سادتنا الحبايب كانوا فارين من السلطنة ولا هم فارحين لذلك، وبعد أن سار عليهم جعث من لبعوس من بن عوض غرامة قبض الشابه محمد باعبده ويافع متشعطرة في بعضهم البعض وبعد ان الحبايب لقطوا لهم من بعد قبض محمد باعبده وخسروه خمسمئة قرش غرامة والـ(….) على الحبايب من يافع والعثث من يافع، وبعد أنهم انطروا واجتمل شورهم على أنهم يسلطنوا بن مقيص على أهل بوبكر بن سالم اجبار وعلى ما جاتهم أنصاف نصف لمطبخ الحبيب أبوبكر ونصف للسلطان من بعد الرتبة الذي في عينات ستة أنفار وقامت دولة ما نقدر صفها لكم”([26]).
نعرف من نص هذه الرسالة تردد يافع وحامية سيئون (رُتبة سيئون) وبعض القبائل في القبول بسلطنة ابن مقيص مثل العامري وباجري، بدليل وصول العامري بالأمان (بالوجه) إلى رتبة سيئون، وطلبه من الرُتبة أنهم تُبعة بعضهم لبعض، حتى أنهم لم يلبّوا طلب ابن مقيص من الرُتبة بمقابلته (القَبَل،) ولم يقابله أحدٌ منهم، بل كانت وجهتهم إلى عينات كعادتهم، تعالوا نتعرف على بقية تفاصيل الرسالة الخاصة بهذا الموضوع؛ إذ جاء فيها بالنص:
” كذلك أخبار يافع والقبايل الجميع رتبة سيئون زيان هم والعامري وباجري من بعد سلطنة بن مقيص في الوجه وصل العامري إلى رتبة سيئون وفتح على الرتبة أن نحن تبعة بعضنا البعض ومن شان بن مقيص سار منه كتاب للرتبة وقعت لنا همة إلى الحدر وطلب قَبَلْ ولا حدن (حدًا) قابل من الرتبة، وبعد أنه سارت لنا همة إلى عينات أنا يا عبد الحبيب بن صالح وطلب قَبَلْنَا وقابلته وفتح علينا أن بينه وبين الرتبة حلف سابق وقَصَدْنَا مقره على الحلقة لتقروب الخير وإبعاد الشر ولا مرادنا سلطنة في جهة أرضهم ولا محابس منهم دون تكافي الشر منهم إن بقوه تبعة وإن بقو معاه والرتبة مشخين منصورين وكلّن يخب لهم والرتبة معاد حدًا عاقل منهم والسعد قايم، ونحن فتحنا على الرتبة ولا بعد شي كلام قام، كذلك بن عيسى بن بدر وصلت منه خطوط في طلب حلف ومنافعته في الدنيا والرتبة في شبام وتقروب للخير ومارين السعد إن الدول في حضرموت تطلب المنفعة منهم والصافيه منهم ليس عليهم دولة دوين الصيانه، كذلك أخبار رتبة سيئون بعضهم البعض حال الكتاب ساكنين في عرض سيدنا المالك أبوبكر ماشي خالف مستمرين”.
وبعد أن يئسوا وعادوا فولَّوا وجوههم مرة ثانية شطر منصور بن عمر الكثيري وإذا هو لا يزال منهمكًا في إيقاد نيران الفتن، وارتكاب المناهج العمياء في سلوكه السياسي المذبذب.
[1] – المعلم عبدالحق، محمد عبدالقادر بامطرف، دار الهمداني للنشر والتوزيع – عدن، ط2، 1983، ص 127، 128.
[2] – في سبيل الحكم، محمد عبدالقادر بامطرف، دار الهمداني للطباعة والنشر، عدن، ط2، 1983م، ص14.
[3] – انظر:حملة بن قملا الوهابية على حضرموت، د.علي صالح الخلاقي، مطابع وحدين للأوفست-المكلا، ط1، 2021م، ص 49-74.
[4] – انظر: يافع في حضرموت، المجلد الثامن من الموسوعة اليافعية، تأليف طارق بن سالم سعد الموسطي وآخرون، دار الوفاق، ط1، 2015م، 8/63.
[5] – تاريخ الدولة الكثيرية، محمد بن هاشم ، تريم للدراسات والنشر، ط1،2002م، ص182.
[6] – انظر: المعلم عبدالحق، ص127، 128، 129،130.
[7] – إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت، تأليف السيد عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف، عني به تاريخياً: محمد أبوبكر عبدالله باذيب، عني به أدبياً: محمد مصطفى الخطيب، دار المنهاج – بيروت ، ط1، 2005م، ص 845.
[8] – ينظر: تاريخ الدولة الكثيرية ، ص 191. المختصر في تاريخ حضرموت، محمد عبدالقادر بامطرف، دار حضرموت للدراسات والنشر، ط1، 2001م، ص104.
[9] – بضائع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت، السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف (مخطوط في ثلاثة أجزاء): 3/3.
[10] – بضائع التابوت:2/278،279.
[11] – تاريخ حضرموت، مراد صالح عوض بن مرساف التميمي الظنِّي، مكتبة تميم الحديثة، ط1، 2017م: ص89-90.
[12] – انظر صورة الوثيقة رقم (1).
[13] – تاريخ الدولة الكثيرية، ص191.
[14] – المختصر في تاريخ حضرموت، ص 104، 105.
[15] – الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي، سعيد عوض باوزير، دار الطباعة الحديثة، مصر، ص201.
[16] – انظر: المعلم عبدالحق، ص131.
[17][17] – تاريخ الدولة الكثيرية، ص 192، 193.
[18][18] – انظر: إدام القوت، ص 846.
[19] – انظر صورة الوثيقة رقم(1).
[20] – اندر: بعث أو أرسل.
[21] – بن غرامة، وبن عبد القادر، وبن همام كانوا يحكمون تريم التي توزعت بينهم، فآل غرامة كانت لهم رئاسة عامة، ثم لم يتبق لهم إلاَ الحوطة والسحيل والرضيمة، وآل همام ولهم الخليف وعيديد، وآل عبد القادر ولهم النويدرة [بضائع التابوت: ج2، ص 172].
[22] – من الحاميات اليافعية القديمة بحضرموت، كان تواجدهم في مدينة تريم، ولهم حصن مشهور فيها لا زالت آثاره باقية، يُعرف حالياً باسم حصن (نافي)، في الشِّعب المسمى باسمهم في جنوب غرب دمون [يافع في حضرموت: 8/406].
[23] – كانت لهم حامية صغيرة في شرق تريم، وكان عوض بن محمد الزغلدي قائمًا بها، وما زالت البقعة التي كان بها تسمى حصن عوض، وهي الآن منطقة كبيرة من مناطق تريم بذات الاسم، وآل الزغلدي لم يعد لهم وجود في تريم [يافع في حضرموت، 8/72].
[24] – بضائع التابوت: 2/276.
[25] – بضائع التابوت: 2/ 277.
[26] – انظر صورة الوثيقة رقم (1).