د. محمد صالح بلعفير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 28 .. ص 40
رابط العدد 28 : اضغط هنا
المقدمة
منذ سنوات عدَّة خلت، حظي التراث الحضرمي المخطوط باهتمام غير مسبوق بعد أن ظل ردحًا من الزمن حبيس خزائن الكتب الخاصة والمكتبات. وبغض النظر عمّا عدَّده المستشرق الإنجليزي (سرجنت) في دراسات عدة له من مخطوطات في التاريخ والتراجم والطبقات والأدب …إلخ، لعل أبرزها: مادة تاريخية عن جنوب الجزيرة العربية، والمؤرخون وكتابة التاريخ الحضرمي، والتي ترجمها سعيد عبد الخير النوبان، ونشرها في كتاب صدر عن جامعة عدن ومطبعة جامعة الكويت – بدون تاريخ – بعنوان: حول مصادر التاريخ الحضرمي، فقد هالني كمُّ المصادر التي اعتمد عليها العلامة المؤرخ عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف في تصنيف كتابه معجم بلدان حضرموت، المسمى: إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت، والتي تزيد عن خمسة وعشرين كتابًا مخطوطًا حضرميًا خالصًا، تنوعت بين التاريخ والجغرافية والأنساب والتراجم والشمائل، فضلًا عن كتابه بضائع التابوت في تاريخ حضرموت، ومن بين تلك المصادر أثرٌ عالميٌ نفيس، هو: النسبة إلى المواضع والبلدان، للعلامة المؤرخ والجغرافي الحضرمي الجليل جمال الدين أبي محمد الطيّب بن عبدالله بامخرمة المتوفى سنة ٩٤٧هـ/١٥٤٠م.
وكتاب النسبة الذي وجد طريقه إلى النشر محققًا قبل عقدين من الزمن بقدر ما يفهم من عنوانه أنه معجم جغرافي، فإنه يحتوي على مادة تاريخية وأدبية قيمة، فضلًا عن خوضه في أنساب الأعلام والقبائل والبطون والعشائر، مما جعله كتابًا موسوعيًا على درجة كبيرة من الأهمية قلما نجد نظيرًا له إلى زمن الفراغ من تصنيفه، والأكثر من ذلك أنه يدل على مدى غزارة علم المؤلف، وتنوع مواهبه، وتعدد تخصصاته، وتمكنه من تأليف المصنفات التاريخية والجغرافيّة الغنية بالشعر والأنساب، زيادة على المسائل الفقهية. كل ذلك رغم انشغاله الذي لا حدود له بالأنشطة العلمية والتعليمية، وبأعمال أرفع منزلة ومقامًا وأكثر عناءً ولاسيما تولّي القضاء والفتوى، وبتعبير آخر فبامخرمة بقدر ما كان فقيهًا ومؤرخًا، عرف عنه بالقدر نفسه بقاضي عدن في النصف الأول من القرن العاشر الهجري أيام دولة الطاهريين.
معضلة الاسم
يعد آل بامخرمة من الأسر الحضرمية الشهيرة، التي استقر بعض أعلامها في مدينة عدن منذ زمن بعيد، إلى جانب أسر أخرى، يأتي في الصدارة منها آل باشكيل. فمن هاتين الأسرتين العريقتين ظهر العلماء والقضاة في القرنين التاسع والعاشر الهجريين/ الخامس والسادس عشر الميلاديين، ومن هؤلاء الطيب بامخرمة، صاحب المؤلفات النفيسة: تاريخ ثغر عدن – تاريخ وتراجم – وهو مطبوع؛ وقلادة النحر في وفيات أعيان الدهر، وهو كذلك مطبوع، والنسبة إلى الى المواضع والبلدان ويعرف أيضًا بكتاب مشتبه النسبة إلى البلدان وهو مطبوع. ولبامخرمة كتابان آخران، هما: شرح صحيح مسلم، ذكر عبد القادر بن شيخ العيدروس في النور السافر عن أخبار القرن العاشر أن غالب استمداده فيه من شرح الإمام النووي، بل هو في الحقيقة شرح النووي مع زيادات وتحقيقات في بعض المواضع، والكتاب الآخر هو: أسماء رجال مسلم.
وفي الوقت الذي حظي فيه المؤرخ المذكور بشهرة واسعة، فإن المصادر وكتب فهارس الأعلام الحديثة قد اختلفت في إثبات اسمه الصحيح، وفي ضبط نسبه أو لقبه العائلي، ولعل ذلك الاختلاف يرجع وبلا شك إلى تصحيفات النساخ أو اجتهاداتهم، الأمر الذي ترتب عليه وصول اسمه ولقبه بأكثر من رسم. ومع ذلك يمكننا القول إن هُـوَّة الخلاف تكاد تضيق بل تنعدم تمامًا، بين من ترجم له من المؤلفين الذين عاشوا في عصره أو قريبًا منه معتمدين على ما كتبه هو بنفسه، أو على من عاصره أو عرف من بعض تلاميذه. فمن المؤرخين الذين ترجموا له وضبطوا اسمه ولقبه العائلي: العيدروس الآنف الذكر في كتابه النور السافر، ومحمد بن عمر الطيب بافقيه الشحري في كتابه حوادث السنين ووفاة العلماء العاملين والسادة المربين والأولياء الصالحين (تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر)؛ ومحمد الشلي في كتابه السناء الباهر بتكميل النور السافر في أخبار القرن العاشر. فهؤلاء جميعًا صرَّحوا بأن اسمه هو: الطيب بن عبد الله بن أحمد بامخرمة.
وأما من جهة المؤرخين المتأخرين، فقد ذهب فريق منهم باتجاه آخر، فأطلق عليه اسمًا مركبًا، وذلك ناتج عمّا وجدوه على أغلفة نُسَخٍ من كتبه، وأساسها كتاب النسبة إلى المواضع والبلدان، فسموه: أبو محمد عبدالله الطيب بن عبدالله بن أحمد أبي مخرمة، ومن هؤلاء: خيرالدين الزركلي في كتاب الأعلام، وأوسكار لوفجرين محقق كتاب تاريخ ثغر عدن، وأيمن فؤاد سيد في كتاب مصادر تاريخ اليمن في العصر الإسلامي، وكذلك محقق كتاب النسبة لبامخرمة الذي صدر عن مركز الوثائق والبحوث بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ومما سبق بيانه، نصل إلى حقيقة لا تقبل الشك وهي أن الاسم الصحيح للمؤرخ بامخرمة هو الطيب، ولعل ما يؤكد ذلك ما ذكره هو بنفسه في ترجمته لأبيه في كتاب قلادة النحر بقوله: “أبو الطيب عبد الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم المشهور بأبي مخرمة”.
وعطفًا على لقبه العائلي، نجد أنه يختلف من كتاب إلى آخر. ففضلًا عن وصفه لوالده بأبي مخرمة في سياق لغوي ونحوي وهو ما نلاحظه أيضًا على غلاف تاريخ ثغر عدن، نجد كذلك على بعض النُسَخ المخطوطة من كتاب النسبة (أبو مخرمة) حينًا، كما نجد اللقب مجردًا من (با) و (أبو) حينًا آخر، بل وعلى نُسَخ أخرى (بامخرمة).
وإذا ما أردنا الوقوف على مسألة إضافة لفظة (با) إلى نسب أو لقب كثير من الأسر الحضرمية، فالحقيقة التي لا مناص من قولها إن (با) هي لفظة مخففة لـ(أبا) الفصحى، التي عرفت إلى ما قبل القرن العاشر. وهناك من المعطيات التاريخية ما يقدم حجة على صحة ذلك ما ذكره ابن المجاور المتوفى بعد سنة ٦٣٠هـ/١٢٣٢م عن (أبا) في كتابه: صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز، في معرض حديثه عن التجار الحضارمة الوافدين إلى مدينة عدن في عصر أيوبية اليمن، ولاسيما في عهد سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، وهذا دليل كاف ودامغ على أن (أبا) الفصحى كانت شائعة في القرن السابع الهجري، وأنها بعد ذلك التاريخ بمدة تطول أو تقصر قد خففت إلى (با) التي سادت ألقاب كثير من الأسر الحضرمية، والأمر نفسه في مؤرخنا (بامخرمة) وبعض الأسر العلوية (باعلوي).
وخلاصة القول: إن بامخرمة هو اللقب الذي عرفت به الأسرة المذكورة، وأن لفظة (با) كانت معروفة في عصر المؤلف (القرن العاشر) في عدن كما حضرموت، وهذا ما أكدته المصادر التي ترجمت له أو نقلت عنه. وتأسيسًا على ذلك يكون الاسم الصحيح والكامل للمؤرخ بامخرمة مع كنيته ولقبه الفخري هو: جمال الدين أبو محمد الطيب بن عبد الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم بامخرمة، وأن الطيب هو اسم المؤرخ وليس لقبًا له.
الميلاد والنشأة
ولد العلامة الطيب بامخرمة بمدينة عدن ليلة الأحد ١٢ ربيع الآخر سنة ٨٧٠ هـ/١٤٦٥م، وبها نشأ في بيت علم في كنف أبيه وأخواله العلماء آل باشكيل؛ فأبوه هو القاضي والمفتي الذي ذاع صيته بين علماء عصره وفقهائه وقضاته في القرنين التاسع والعاشر الهجريين، وجده – لأمه – هو القاضي محمد بن مسعود باشكيل، أحد علماء عدن في زمنه. ففي هذه البيئة العلمية الفريدة نشأ الطيب، وتتلمذ على يد عدد من شيوخ العلم وعلماء القرنين التاسع والعاشر، وهم بعد أبيه وجده : بدر الدين الحسين بن الصديق بن عبدالرحمن الأهدل، وجمال الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بافضل، وجمال الدين محمد بن حسين القمّاط الزَبيدي، وعبدالله بن أحمد باكثير، والقاضي أحمد بن عمر المزجّد.
أقوال العلماء في بامخرمة
لاشك في أن عالِمًا مثل الطيب بامخرمة عرف بغزارة العلم وتنوع المواهب وتعدد الاختصاصات أن يحظى بتقدير العلماء المعاصرين له واللاحقين وثنائهم، ويجعل البعض ممن ترجم له أن يصفه بصفات قلّما يوصف بها عالِم. فقد ذكر العيدروس في النور السافر أنه “تفنن في العلوم، وبرع، وتصدى للفتوى والاشتغال، وكان من أصح الناس ذهنًا، وأذكاهم قريحة، وأقربهم فهمًا، ومن أحسن الفقهاء تدريسًا، حتى أن جماعة من الطلبة وغيرهم يذكرون أنهم لم يروا مثله في حسن التدريس وحل المشكلات في الفقه”. زيادة على ذلك فقد وصفه الشلي في السناء الباهر بأنه كان “علّامة علماء الإسلام، فهّامة فضلاء الفقهاء العظام، مالك ناصية العلوم وفارس ميدانها، وحائز قصب السبق في حلبة رهانها… وكان حسن السيرة والمحاضرة، لطيف المذاكرة والمحاورة، وكان كثير الاستحضار لفروع الأحكام، التي تخفى على كثير من العلماء الأعلام… وبالجملة هو من محاسن الدهر جمع الله تعالى فيه الصفات الحسنة، من حُسن الخُلق والسياسة، والتواضع والصبر والرفق، وتحمُّل أذى الناس، وحُسن التدريس والمواظبة على الطاعات”.
وفي هذا الصدد ذكر العيدروس أن العلامة بامخرمة كان مشاركًا في كثير من العلوم، منها: الفقه والتفسير والحديث والنحو واللغة وغيرها، فضلًا عن أنه كان يقرأ في أربعة عشر علمًا في حد قول أحد تلامذته وهو العلامة شهاب الدين أحمد بن عمر الحكيم. ومما يدل على المكانة العلمية الرفيعة للعلامة بامخرمة أنه تولى قضاء عدن، على كبر سنه وضعف قواه، بسبب إلحاح الدولة، في حد قول الشلي، وظل متوليًا للقضاء إلى أن أصابه مرض منعه من الحركة لمدة سنتين، وكان سبب موته في شهر محرم سنة ٩٤٧هـ/١٥٤٠م.
كتاب النسبة:
المنهج والموارد
القارئ لكتاب النسبة إلى المواضع والبلدان أو الباحث يصل إلى حقيقة لا غبار عليها وهي أن هذا الكتاب يعد سِفرًا عظيماً وأثرًا نفيسًا، بل ويعد من أهم مؤلفات بامخرمة وأكثرها فائدة، لكثرة ما جمع فيه من أسماء الرجال من العلماء والمحدّثين والرواة، وذكر المشاهير وأنسابهم، ونسبهم إلى المواضع والبلدان، معززًا ذلك بالأقوال والأشعار. وبتعبير آخر، فالكتاب يعد معجمًا جغرافيًا وتاريخيًا وأدبيًا ونَسَبيًا، وشملت مادته كل أصقاع العالَم الإسلامي، ولفترة زمنية طويلة تمتد إلى نحو عشرة قرون، وتقوم على نِسبة الأعلام إلى الناحية التي ينتسبون إليها، سواء كانت بلدًا أو قرية أو حصنًا؛ إذ يذكر البلد أو المكان لفظًا وموقعًا، ويغنيه كما قال المحقق بذكر ما يشتبه باللفظ المقصود من النسب إلى القبائل والطوائف وغيرها، فاجتمعت فيه النِسب والأنساب. ولعل مما يزيد من أهميته دقة ضبطه بالنص على الحروف والحركات والأوزان، وتوثيق ذلك بمصادر اللغة.
وبصدد موضوع الكتاب ومنهجه وموارده، فبامخرمة دبّج كتابه بمقدمة أفصح فيها عن سبب تأليفه له ومراحل جمعه فضلًا عن مصادره، بقوله: “وسبب جمعي له أني وقفت على كتاب في الأنساب إلى القبائل والآباء، وتطلعت نفسي إلى الأنساب إلى البلدان، ولم أقف على كتاب يخصه، ثم إني وقفت على مسوَّدة للقاضي مسعود بن سعد بن أحمد أبي شكيل الأنصاري الخزرجي، ذكر فيها جملة من البلدان مقتصرًا على ذكر البلد وصفتها، وبعض من ينسب إليها من العلماء والرؤساء المشهورين، ولم يتمَّه، بل وصل فيه إلى آخر باب الراء، ثم ذكر بعد ذلك في حروف متفرقة، من كل حرف بلدة أو بلدتين، فهممت بإتمامه وتبييضه، ففقدت النسخة المذكورة مدة طويلة، ولم أظفر بها، فشرعت في جمع شيء من ذلك حاذيًا حذوه في الضبط والتبيين، فجمعت من ذلك جملة صالحة، أخذت غالبها من تاريخ القاضي ابن خلكان، ولم يكن عندي من تاريخ ابن خلكان نسخة تامة بل أجزاء متفرقة، وأخذت بعد ذلك من طبقات السُّبكي الكبرى، ومن تاريخ الفاسي، ومن تاريخ الجندي، وغير ذلك، ثم إني رأيت ذلك قليل الجدوى والنفع، فضممت إليه من ينسب إلى تلك البلدة من المحدّثين المشهورين وغيرهم، لاحتياج قارئ الحديث، وطالب الفقه إلى معرفة ذلك، وإن كان ثمة من يشبه نسبه نسب المنتسب إلى تلك البلدة، وهو منسوب إلى غيرها، إما بلدة أخرى أو أب أو قبيلة، بيّنته، وعمدتي في ذلك كتاب (ما اتفق لفظًا واختلف صقعًا) للشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي، وكتاب (تبصرة المنتبه بتحرير المشتبه) للحافظ أبي الفضل ابن حجر، وأكثر اعتمادي على الثاني؛ لالتزامه الضبط باللفظ، بخلاف الأول فإنه اكتفى بضبط القلم، وقد أخلّ به النساخون، مع إن النسخة التي وقفت عليها من الكتابين المذكورين كثيرة السقم والتحريف، إلا أني أبلغت جهدي في تحقيق ذلك من كتب اللغة، كالقاموس المحيط للمجد الشيرازي، وتكملة الصحاح للإمام الصغّاني، فما نقلته عن أبي نقطة ، أو أبي العلاء الفرضي أو ابن ماكولا، وابن الخطيب، فمن الكتابين المذكورين، وما نقلته من غير الكتابين المذكورين عزوته إلى قائله، ثم ظفرت بمسوَّدة القاضي مسعود فنقلت أشياء لم أكن ذكرتها، وما نقلته عنه عزوته إليه، وحيث أطلقت الحافظ، كذكر الحافظ أو قال الحافظ فأردت به الحافظ أبا الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وحيث أطلقت الزوائد، فالمراد ما زاده الحافظ ابن حجر في التبصرة على كتاب الذهبي، وحيث قلت كذا في الكتابين، فالمراد كتاب الذهبي وكتاب ابن حجر المتقدم ذكرهما، وحيث قلت: قالا (بالتثنية)، أو قال الحافظان، فالمراد الذهبي وابن حجر”.
وهنا نجد أنفسنا أمام مقدمة تعبّر عن منهجية علمية حقيقية، ووعي تام بطرائق التأليف. ففيها أفصح المؤرخ بامخرمة عن أسباب جمعه لمادة كتابه وخطوات تأليفه له؛ إذ قُدّر له أن يقف على كتاب في الأنساب إلى القبائل والآباء لمؤلف لم يذكر اسمه – ربما مجهول – فحفَّـزه ذلك على التفكير في إعداد كتاب عن الأنساب إلى البلدان، وساعده في عزمه وقوفه على مسوَّدة جزء من كتاب لأحد أخواله، وهو القاضي مسعود بن سعد باشكيل، وبسبب من فقدانه لتلك المسوَّدة شرع في جمع مادة من هذا القبيل، وعلى المنهج نفسه من حيث ترتيبها على حروف المعجم، وطريقة ضبطها، وهي المسوَّدة التي عثر عليها فيما بعد، ونقل منها تفاصيل لم يكن ذكرها.
وسعيًا منه إلى جمع مادة الكتاب، وإتمام تصنيفه استعان بمجموعة من المصادر، التي توافرت لديه، وأبان عنها توخيًا للأمانة العلمية، وأهمها: كتاب وفيات الأعيان وإنباء ابناء الزمان، لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان المتوفى سنة ٦٨١ هـ؛ وكتاب السلوك في طبقات العلماء والملوك، لأبي عبد الله بهاء الدين محمد بن يوسف بن يعقوب السكسكي الجندي المتوفى سنة ٧٣٢هـ؛ وكتاب الطبقات الكبرى، لتاج الدين أبي عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السُّبكي المتوفى سنة ٧٧١ هـ؛ وكتاب العقد الثمين في أخبار البلد الأمين، لتقي الدين أبي الطيب محمد بن شهاب الدين أحمد بن علي الحسني الفاسي المكي المتوفى سنة ٨٣٢ هـ.
ولما كانت معطيات تلك المصادر – الموارد – غير كافية ولا تلبي إلا حاجة أهل التاريخ والأدب، فقد طعّمها بتفاصيل وإضافات مما يحتاج إليه قارئ الحديث وطالب الفقه، ثم وجد ضالته لضبط المشتبه من الأنساب والألقاب في كتاب: ما اتفق لفظًا واختلف صقعًا، للشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي المتوفى سنة ٧٤٨ هـ، الذي طبع حديثًا بعنوان: المشتبه في أسماء الرجال وأنسابهم، وكتاب: تبصرة المنتبه بتحرير المشتبه، للشيخ الحافظ أبي الفضل ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢هـ، وهما الكتابان اللذان كان جلّ اعتماده عليهما ولا سيما كتاب ابن حجر، الذي بسبب عبث النساخ به اجتهد في تحقيق معطياته عرّج على كتب اللغة، مثل كتاب: القاموس المحيط، للمجد الشيرازي، وكتاب: تكملة الصحاح، للصّغاني. ولم يغفل بامخرمة عن الإشارة وذلك من باب الأمانة العلمية إلى أنه يعزو ما نقله إلى أصحابه من أهل العلم والفضل، وهو أمر أراد منه أن يكون كتابه على قَدرٍ عالٍ من الصحة والضبط والتبيين، وكان ذلك بحق هو الهدف الذي رامه في ديباجة مقدمته وأفصح عنه صراحة من أنه لم يقم بجمع مادة الكتاب وتصنيفه لنفسه فقط، بل ولمن ينتفع به من بعده.
حصاد النسبة
بالنظر إلى أن بامخرمة قد اتبع منهجًا يقوم على ترتيب موضوعات كتابه على حروف المعجم – من دون احتساب أل التعريف – وعلى نسبة الأنساب إلى الموضع أو البلد، فقد كان حظ اليمن فيه ما يزيد عن ١٧٠ من النُسب والأنساب، وهذا عدد ليس بالقليل ولاسيما أن هذا المعجم شامل لأصقاع العالم الإسلامي كلها، بل إن حظ اليمن كاتجاه جغرافي وليس كيانًا سياسيًا يعد – في تقديرنا – أوفر حظًا، ويفوق أي بلد آخر. والصحيح أن المؤلف لم يأتِ على كل مواضع وبلدان اليمن لنقص المعطيات نفسها، لكن يُقدّر له اجتهاده وجهده في ظروف عصره وأشغاله المتعددة أن يشمل معجمه هذا العدد الذي لا يستهان به من النُسب والأنساب، وتراجم الرجال والمشاهير منهم، ثم إن المعلومات والتفاصيل التي حرص المؤلف على تقديمها ليست باليسيرة، بما يوحي إلى أنَّ إعداد هذا المعجم قد أخذ من وقته أكثر مما أخذته مصنفاته الأخرى؛ وذلك لاتساع الرقعة الجغرافية، ولأنه شمل أقطار العالَم الإسلامي وأقاليمه كلها.
حضرموت في النسبة
وأما حضرموت التي تعد أكبر أقاليم اليمن الجغرافي وليس السياسي – كما تمت الإشارة – فهي أكبر الأقاليم مساحة قديمًا وحديثًا، ولم تكن أصغرها كما قال خطأً أبي الحسن أحمد بن يعقوب الهمداني في القرن الرابع الهجري في كتابه: صفة جزيرة العرب.
وحقيقة، فمن قراءة متعمقة متأنية ومراجعة دقيقة في الوقت نفسه استطعنا رصد ٣٨من النسب والأنساب التي تخص حضرموت، وهي على النحو الآتي:
١- الأحقافي (نسبة إلى الأحقاف وهي الرمال ومفردها حقف).
٢- الأسراري (بالفتح وسكون المهملة، ثم رائين مهملتين بينهما ألف: نسبة إلى أسرار وهي قرية من أعمال ريدة المشقاص بنواحي الشحر).
٣- الأسقطري (نسبة إلى أسقطر، بضم الهمزة وسكون مهملة وضم قاف وسكون الطاء المهملة وبعدها راء مهملة: هي بقرب حضرموت غربي الشحر).
٤- البوري (بالفتح نسبة إلى بور، قرية من قرى حضرموت، منها آل كثير من بني ظنة آل حرام).
٥ – البويشي (بالضم وفتح الواو وسكون التحتانية ثم شين معجمة: نسبة إلى بويش، غياض بالقرب من الشحر من جهة المغرب ذات مياه آبار وأنهار وبها نخل وزرع وحولها موضعان على البحر أحدهما يسمى ” المكنى” ويسميه العامة المكلا ، والثانية روكب).
٦- التبالي (نسبة إلى تبالة بفتحتين وبعد المثناة موحدة وبعد الألف لام وهاء… وتبالة أيضًا قرية قرب الشحر… وتبالة أيضًا باليمن ببلاد روس).
٧- التريسي (نسبة إلى تريس، بالفتح وكسر الراء وسكون التحتانية ثم سين مهملة: قرية من قرى حضرموت شرقي محلة المشايخ آل باعباد المعروفة بالغرفة).
٨- التريمي (نسبة إلى تريم، بالفتح وكسر الراء وسكون التحتانية ثم ميم، مدينة قديمة بأرض بحضرموت… وقد خرج منها علماء فقهاء فضلاء ومشايخ اجلاء).
٩- التنعي (بالكسر وسكون النون وإهمال العين، نسبة إلى تنعة قرية قرب حضرموت، سميت بتنعة بن هانئ).
١٠- الثوباني (نسبة إلى ثوبان، بالفتح وسكون الواو وفتح الموحدة ثم ألف ونون: موضع شرقي مدينة الشحر).
١١- الحاسكي (نسبة إلى حاسك، بعد الألف سين مهملة ثم كاف: قرية من قرى ظفار الحبوظي).
١٢- الحبّاني (نسبة إلى حبّان، بالفتح وتشديد الموحدة ثم ألف ونون).
١٣- الحَجْري (بالفتح وسكون الجيم نسبة إلى حجر… وهذا الاسم يشترك بين موضعين أحدهما حجر علوان باليمن وفيه قرى وحصون… والثاني حجر بن دغار الكندي بفتح الدال المهملة والغين المعجمة المشددة ثم ألف ثم راء، وهي كثيرة المياه والنخيل ووادِ لها غيّال لا ينقطع، وهي وخيمة جدًا بضد الأولى، وعندها أسقطري الذي يضاف إليه الصبر السقطري).
١٤- الحُرَيْضي (نسبة إلى حريضة، بالفتح وضم الراء المهملة ثم ياء تحتانية ساكنة ثم ضاد معجمة ثم هاء: قرى بالكسر كضد الجبر أسفل من وادي عمد مقابلة لعندل).
١٥- الحصويلي (نسبة إلى حَصْويل، بالفتح وسكون الصاد المهملة وفتح الواو ثم مثناة تحتية ساكنة ثم لام: قرية مشهورة على ساحل البحر، وحولها آبار يزرع عليها، وهي من قرى المشقاص).
١٦- الحضرمي (نسبة إلى حضرموت بالفتح وسكون الضاد المعجمة ثم راء ثم ميم مفتوحتين ثم واو ساكنة ثم تاء مثناة من فوق : جهة واسعة…).
١٧- الحوري (نسبة إلى حورة بهاء آخره بدل الألف… هو اسم لقريتين باليمن، إحداهما قرية كبيرة لها قلعة حصينة من أرض حضرموت تسقى من وادي عين [العين] وسكان القلعة آل المليكي، وسكان أسفل القلعة آل باوزير المتصوفة…، والثانية قرية كبيرة شرق أحور سكانه قوم من حمير).
١٨- الحيرجي (نسبة إلى حِيْرج بالكسر وسكون التحتانية ثم راء مهملة مكسورة ثم جيم: بلد مشهورة على ساحل البحر بحر ظفار، وهم أهل المشقاص، ومحمد الحشريت وشيوخهم الأشعثيون من كندة من ذرية الأشعث بن قيس بن معدي كرب الحضرمي. وفي حيرج بندر يقصده أهل الهند ومقدشوه، ويتوسمه أهل الشحر وحضرموت ويُحمل منه الكندر والصينة إلى عدن وبربرة وجدة…).
١٩- الخريبي (نسبة إلى الخريبة، بالضم وفتح الراء المهملة وسكون التحتانية ثم موحدة مفتوحة ثم هاء: … مدينة بوادي دوعان الأيمن…).
٢٠- الخميلي (نسبة إلى الخميلة بالفتح وكسر الميم وسكون التحتانية ثم لام مفتوحة ثم هاء : قرية على وادي عمد بها فقراء صالحون يطعمون الطعام يعرفون بآل بايزيد).
٢١- دجيل (بالضم وفتح الجيم وسكون التحتانية ثم لام… وهو دجيل الحرث وعليه مزارع وحوله قرى ومدينة تسمى الغيل، ومخرجه من جهة الشحر، بينه وبين الشحر مسافة العدوى، حفره التبلي، وهو تبل بن حيدان بن مهرة بن قضاعة وهو من حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، واسم قضاعة عمرو بن مالك).
٢٢- الدوعاني (نسبة إلى دوعان، بضم أوله وسكون الواو ثم عين مهملة ثم ألف ونون، وهذا الاسم مركب فدو بكلام فارس عدد اثنين وعان المعد المرتفع من الأودية ، وهذان العانان أحدهما يمنة والآخر يسرة ، فالأيمن مدينة الخريبة والأيسر مدينة الروقة).
٢٣- ذي أصبح (بفتح الهمزة وسكون الصاد ثم حاء مهملتين وبينهما موحدة مفتوحة: قرية بحضرموت لآل أبي عباس).
٢٤- الرحابي (الرحاب بحاء مهملة وآخره موحدة: بلدة بدوعان).
٢٥- الريدي (نسبة إلى ريدة بالفتح وسكون المثناة من تحت ثم دال مهملة مفتوحة ثم هاء: وهي اسم لأربعة مواضع: بليدة باليمن، ومنها البرود الريدية، ومكانان بحضرموت، والرابع قرية بالصعيد).
٢٦- الشبامي (نسبة إلى شبام، بالكسر وفتح الموحدة ثم ألف تم ميم: مدينة عظيمة بحضرموت).
٢٧- الشبوي (نسبة إلى شبوة، بفتح الشين والواو بينهما موحدة ساكنة وآخره هاء: بلد ما بين مأرب وحضرموت، بين جردان وحضرموت، وبالقرب منها معدن ملح).
٢٨- الشحري (بالكسر وسكون الحاء المهملة ثم راء مهملة، نسبة إلى الشحر البلد المعروفة، سميت بذلك لأن سكانها كانوا جيلًا من المهرة يسمون الشحرات – بالفتح وسكون الحاء المهملة وفتح الراء المهملة ثم الف ومنهم من لم يكسرها – والكسر أكثرها، وتسمى الأشحار).
٢٩- الصدفي (… فنسبة إلى الصدف – ككَتِف – بطن من كندة ينسبون إليه إلى حضرموت).
٣٠- الظاهري (نسبة إلى الظاهر: موضع شرقي الشحر على ساحل البحر الهندي… والظاهري: نسبة إلى الظاهر بحذف الهاء: صقع باليمن فوق دثينة يجلب منه الحنطة وغيره).
٣١- الظفاري (نسبة إلى ظفار بفتح الظاء والفاء ثم ألف ثم راء، قال ياقوت إن ظفار مبني على الكسر، قال وهي مدينة بأقصى اليمن على ساحل بحر الهند… وتعرف بظفار الحبوضي، ومنها خرج جمع من الفضلاء الصالحين. وظفار أيضًا اسم لحصنين في اليمن قرب صنعاء… أحدهما في بلاد مراد يماني صنعاء ويسمى ظفار الواديين، والثاني شامي صنعاء ويسمى ظفار الظاهر).
٣٢-العلائي (أي بالفتح والتخفيف جماعة منهم عبد الرحمن بن محمد بن منصور الحضرمي العلائي وابنه محمد… وهم من ولد العلاء بن العلائي الحضرمي).
٣٣- العيني (بالفتح وسكون التحتانية ثم نون: نسبة إلى العين وهو اسم لخمسة عشر موضعًا… ومنها قرية تعرف بعين با معبد بين أحور والشحر).
٣٤- الغُرفي (نسبة إلى الغرفة بضم الغين المعجمة وسكون الراء المهملة وفتح الفاء ثم هاء: قرية بأعلى حضرموت ذات نخيل ومزارع، بها فقراء صالحون يعرفون بآل أبي عبّاد).
٣٥- الفوي (بضم الفاء وكسر الواو المشددة… وفوة أيضًا بالشحر).
٣٦- الإقشن (بالكسر وسكون الشين المعجمة ثم نون من غير هاء: قرية بساحل اليمن [قشن حاليًا]).
٣٧- القمري (… وأما عبد الرحمن بن محمد بن منصور الحضرمي القمري: فبفتحتين… وبنو قمر محركة: حي، وغب القمر موضع بين ظفار والشحر).
٣٨- الهجراني (… وما ذكره [الهمداني] من أن القرية التي قرب حضرموت، يقال لها الهجران يقال لها اليوم: الهجرين بالياء رفعًا ونصبًا وجرًا، والنسبة إليها هجراني).
زبدة القول
يعد كتاب النسبة إلى المواضع والبلدان للمؤرخ العلامة الطيب بن عبدالله بامخرمة المتوفى سنة ٩٤٧هـ/١٥٤٠م، وبكل المقاييس، أثرًا علميًا موسوعيًا نفيسًا، ليس فقط من عنوانه وفي منهجه وموارده، بل وفي محتواه ومعطياته، وعلى درجة كبيرة من الأهمية في النواحي الجغرافية والتاريخية والنَسبية والأدبية، ويشكل مع مؤلفات أخرى لعلماء آخرين ثروة علمية وفكرية لا تقدَّر بثمن، مثل كتاب (معجم البلدان)، وكتاب (المشترك وضعًا المفترق صقعًا) لياقوت الحموي، وكتاب (الروض المعطار في خبر الأقطار) لمحمد بن عبد المنعم الحميري.
وفي كتاب النسبة وقفنا على نسب المئات من الأعلام من العلماء ومشاهير الرجال وأنسابهم وتراجمهم في مساحة واسعة شملت كل أصقاع العالَم الإسلامي، ولفترة زمنية طويلة تمتد لما يقرب من عشرة قرون هجرية، وكان نصيب اليمن فيه من أقصاها إلى أدناها ما يزيد عن المائة والسبعين نسبًا – وحضرموت وحدها ما يقرب من أربعين نسبًا – وهو رقم إن يبدو صغيرًا، غير أنه يعد كبيرًا بدلالته المكانية في هذه المساحة الجغرافية المترامية الأطراف التي لم يغفل بامخرمة أن يشير في بعض الأحايين إلى من سكن في أقطارها المتعددة من أصول يمنية. ولعل مما يزيد أهمية الكتاب المذكور ما أضافه المؤلف من تفاصيل ومعلومات متنوعة ومفيدة للموضع أو البلد من حيث الموقع وأصل التسمية، والقبائل القاطنة فيه: أصولها وتاريخها والمشهور من أعيانها، مع تحلية كل ذلك بالأخبار والقصص والأشعار، وتبعًا لذلك كان الكتاب جديدًا في عنوانه وفريدًا في بابه، مما أضفى عليه قيمة موسوعية قلما نجد بها نظيرًا له.