مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

أرض بلا ظلال .. الفصل الثامن .. شيكاغو الصحراء – للكاتب الألماني هانس  هيلفريتس (Hans Hilfritz)

ترجمة

د. خالد عوض بن مخاشن


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 28 .. ص 64

رابط العدد 28 : اضغط هنا


الفصل الثامن .. شيكاغو الصحراء

إن كان ثمة شيء يمكن أن يحفّز الـمُستكشف على تجهُّم المخاطر والمتاعب في رحلته إلى الجنوب العربي، فذلك هو الأمل في اكتشاف شيء ما عن التاريخ القديم لهذه المنطقة المجهولة، أو يجد مصادفة أثرًا من ذلك الماضي البعيد.

بالقرب من شبام وعلى جبل يسمى جبل القطن وجدت نقشًا يعود للعصور السبئية، موجَّه إلى إله القمر (سين)، ورسوم حيوانية غريبة رُسمت نقشًا أو وشمًا في الصخر حيث يتم تثقيب وجه الصخرة لتكوين حفر صغيرة متقاربة بعضها من بعض ثم تُملَأ بمادة حمراء.

كان هذا الجبل في وقت ما في الماضي مكان تجمع عام، يقع على طريق القوافل العظيم، الذي يمر عبر صحراء حضرموت إلى اليمن، أي: من شبام إلى صنعاء، رابطًا بين الممالك القديمة: سبأ، ومعين، وقتبان، وحضرموت.

وشمال الجزيرة العربية يختلف عن جنوب الجزيرة؛ إذ سكنت الجنوب أمم متحضرة من ألف سنة قبل الميلاد؛ فلقد كانت مملكة سبأ موطنًا لأقدم حضارة، وفي القرن السادس قبل الميلاد احتل الأثيوبيون او الأحباش كما يسمون اليوم هذا البلد. أخبرنا البدو بوجود نقوش وتماثيل ومبانٍ كثيرة في منطقة (الجوف)، ولكن لسوء الحظ لم أستطع أن أسلك طريق القوافل القديم، الذي يؤدي إلى أرض الملك ابن سعود مرورًا بالجوف رغم أن البدو لا زالوا يسلكون ذلك الطريق بانتظام إلى يومنا هذا، لقد فشلتُ في أن أجد ولو بدويًا واحدًا يستطيع أن يكون دليلًا لي في تلك الطريق الخطرة، فكون البدوي مسؤولًا عن سلامة رجل أجنبي هناك يجعل حياته هو نفسه في خطر كبير. لقد قيل لي إن جبال “القبلة” الواقعة على ذلك الطريق بها قبيلة عربية متوحشة تسمى قبيلة الصيعر، لذا فقد كان من المستحيل عليَّ الوصول إلى سبأ، وهذا الأمر خلق لدي خيبة أمل، ولكن زيارتي لمدينة شبام أقدم مدينة في حضرموت وأقواها خففت كثيرًا من وطأة خيبة الأمل تلك. لم تخلق في نفسي أي مدينة في حضرموت انطباعًا عن ناطحات سحاب مثل ما فعلت شبام.

شبام التي تقع في وادي حضرموت، في المكان الذي يلتقي فيه وادي حضرموت الرئيس بوادي العين ووادي سر، هي فعلًا شيكاغو الصحراء.

تقع المدينة في وسط ربوة، تحيط بها أودية كبيرة، لا يوجد سور للمدينة، ولكن البيوت (بيوت طويلة ضيقة لها فتحات للرماية، وأسطح بيضاء) بُـنِـيَ بعضُها قريبًا من بعضٍ، في تراصف يقوم بدور السور. إنَّ الشخص الآتي من سيئون عبر الوادي سيرى من بعد أميال عدَّة تلك المدينة العظيمة ذات البنيات العالية المكوَّنة من اثني عشر طابقًا أو أكثر.

يقطن المدينة ستة آلاف شخص، ولها بوابة وحيدة تشبه مدخل قلعة البارون اللص التاريخية، غيرَ أنَّها ليس بها خندق مائي، ولا جسر متحرك. تجعل الجدران الطينية الصلبة وأبراج المراقبة العالية المنصوبة بعيدًا في الوادي وعلى قمم الجوانب الصخرية للوادي من شبام قلعة منيعة جيدة التحصين. لكن وعلى الرغم من موقعها المناسب للأغراض الدفاعية، فإنَّ شبام عرضة لغارات قبائل البدو وهجمات العصابات؛ فعلى مقربة من شبام في وادي العين ووادي دوعن تنتشر وبكثرة الحروب القبلية والكمائن، فخلف كل تل رملي وكل قلعة صخرية قد تجد بدوًا متربصين عازمين على السلب، وقد عانينا نحن كثيرًا في سبيل التغلب على مشاكل كهذه.

في إحدى الليالي وصلنا إلى بلدة صغيرة تسمى (بلدة البقري) في وادي العين(3) بعد المغيب، وعند اقترابنا من تلك البلدة الصغيرة سمعنا أصوات طلقات رصاص، تطلق من بنادق على فترات متقاربة، وهذا ما منع البدو من المغامرة بالاقتراب ولو خطوة واحدة تجاهنا، فأمضينا تلك الليلة في برج مراقبة صغير، به عدد من الجنود القعيطيين. فيما بعد علمنا أن بلدة البقري التابعة للقعيطي تحاصرها قبيلة بدوية منذ أكثر من سنتين، وقد دافع السكان والجنود بشجاعة عن بلدتهم طيلة هاتين السنتين. وبوابة البلدة تُفتح في الصباح، فيدخل البدو البلدة بسلام، ويمضون بعض الوقت مع السكان، ويشترون ما يحتاجون، وعند حلول الليل تبدأ الحرب من جديد، وتتعرض جدران البلدة الصلبة للرصاص، ولكن لا يستطيع المهاجمون اقتحامها. إنَّ ما ينبغي التنبه له هو إغلاق النوافذ بإحكام، ففي إحدى الليالي نسينا أن نغلقَ نوافذَنا بإحكامٍ نفعل فتعرَّضْنا لإطلاق نار، لتستقر بعض الرصاصات في جدار الغرفة، ومع طلوع النهار يتوقف إطلاق النار مرة أخرى؛ ليتسكع البدو في البلدة صباحًا، ويتبادلوا الحديث بابتهاج مع السكان، الذين أقلقوا سكينتهم في الليل، وكأن شيئًا لم يكن.

يحكم شبام سلطان قعيطي، هو ابن عم سلطان المكلا، وأثناء وجودنا كان قد استقبلنا في مقر إقامته الصيفي.

سلطان شبام طويل القامة ونحيفًا، ملامحة جميلة وجذابة. جلس ذلك السلطان مع ابنه الصغير على الأرض أمام سفرة من المعجنات والحلويات العربية اللذيذة، فأكل منها بشراهة رغم أنه يعاني من الديسنتاريا منذ فترة طويلة. ذاع صيت صديقي بسرعة في كل حضرموت كطبيب مقتدر، وقد قمْنا بمساعدة الكثير من الناس، ولكن تدفَّـقت علينا حشود من المرضى الحقيقيين والمدَّعين. أراد سلطان شبام أن يستشيرنا في مرضه الذي لم يستطع الأطباء العرب علاجه، ولحسن الحظ كان لدينا ما يمكن عدّه أفضل علاج لمرضه وهو الإيميتين emetin، الذي يُستخرَج من جذور نبات عرق الذهب، فقمنا بإعطائه حقنة من ذلك الدواء الـمُرِّ فتحسَّنتْ حالته سريعًا، بل وشفي تمامًا، فقد أثَّر استعمال هذا الدواء، الذي تم اكتشاف خصائصه العلاجية في السنوات القليلة الماضية، وهو فعّال جدًا، فقد أفاد الناس كثيرًا في المناطق الاستوائية، ولكنْ ليست الصعوبة في علاج الناس من هذه الأمراض، وإنما الصعوبة تكمن في كيفية إقناعهم بعدم تناول الشراب والأطعمة الملوَّثة والضارَّة بالصحة، وسلطان شبام وليس استثناءً قد التزم بالحِمْيَةِ ليوم واحد فقط، وفي اليوم الثاني شوهد وهو يأكل لحم الضأن المليء بالشحوم مع صلصة الفلفل الحلو، وكان من الصعب إقناعه بعدم شرب الماء غير المغلي، ولم يلتزم إلا بعد تحذيره مرارًا بأن شرب الماء غير المغلي يسمح لأعداد مهولة من الديدان بدخول معدته مُسبِّـبةً له أمراضًا مخيفة.

بعد ذلك أصبح سكننا مكانًا يقصده الكثير من المرضى الباحثين عن علاج، وصارت سمعتُنا في الآفاق بعد علاجنا للسلطان. يوجد أطبَّاء عرب يسمون (حكماء)، يلجأون إلى الحجامة في محاولة لعلاج كل أنواع الأمراض، بما فيها أمراض العين. يخضع المرضى لهذا النوع من العلاج، فتراهم جالسين على جوانب الطرقات، ولديهم أوعية أو قصاع، والحكيم يباشر عمله. تُوضَع صفيحة من الصفر أو النحاس فوق الجراح المفتوحة وتربط برباط. وأحيانًا يُستخَدم هذا العلاج في أوربا حيث اكُتشف أن لهذا المعدن خصائص تساعد على الشفاء، لكن يقف هؤلاء الحكماء عاجزين عن علاج الـحُمِّـيَّات، كالملاريا (وإن كانت غير شائعة)، وأمراض العيون، والتقرُّحات، والجراح المتقيِّحة بأحجام كبيرة ومخيفة. وفي حالات كثيرة تتقيَّح أطراف المرضى، ولكنهم يتحمَّلون الألم بصبرٍ لا حدود له. حشودٌ لا تتوقف من الناس تلاحقُنا أينما ذهبْنا، وكُلُّهم يردِّدون العبارة نفسَها (قليل دواء)، إنَّهم بكل تأكيد يفضِّلون دواءَنا الرحيم إلى حدٍّ ما على الكَيِّ، الذي يعشقُه الحكماء ويقومون باستخدامه في علاج كل الأمراض، الداخلية منها والخارجية، وتكاد تجد شخصًا قد نجا منه.

أرانا كثيرٌ من المرضى قوارير أدوية، بها كتابة عربية أو هندوستانية، تمَّ إحضارها عبر عدن من أوربا، ويدَّعي بعض المخادعين أنَّها علاج لكل داءٍ من الـحُمَّى إلى كسور العظام وتصلُّب بثور أصابع القدم.

لا يعتقد المرضى أن أسباب المرض هي أسباب طبيعية. إنهم يُصِرُّون وبعناد شديد على أنَّ السبب وراء أمراضهم وآلامهم دُودَةٌ، يرسلها الجن إليهم، فيأتي مع المرضى بعض المخادعين مُدَّعين أنَّهم مرضى؛ كي يحصلوا على الدواء، ويقوموا بخزنه إلى حين يمرضوا فعليًّا. وقد تظاهر أحدهم بأنه يعاني مشكلة في السمع، ولكنه لم يسمح لنا أبدًا بعلاجه لنكتشف فيما بعد أنَّ سمعَه أقوى من سمع الكثير منا. إنَّ الأمر الأصعب في كل هذا هو إقناع الناس بأن كل الأمراض لا يمكن علاجها، فقد سبب لنا الكثير من المرضى، الذين يعانون من مشاكل في العين، عناءً لا يوصف. لا يمكننا أن نقول لهم ببساطة لا يوجد علاج، وإن قلنا ذلك لن يصدقونا؛ فقد أتى إلينا بدويٌّ مُسِنٌّ، لا يكاد يرى، وعندما أخبرناه أننا لا نستطيع علاجه، مشى خلفنا لساعات في الصحراء، ثم فجأة أخذ يهدِّد بإطلاق النار علينا إنْ لمْ نساعده، فارتبك حُرَّاسُنا وتباعدوا عن بعض، فانتظروا ليروا كيف سيتعامل الفرنجة مع هذا البدوي العجوز.

للبدو في حضرموت طريقتهم الخاصة في علاج الصداع، فهم يضعون رمادًا بين الشفاه والأسنان. هذه الطريقة أيضًا تقوم بتعقيم الفم. لم أكتشف هذا العلاج إلا في حضرموت فقط؛ فلم أجده في اليمن أو أي مكان آخر في الجزيرة العربية.

تعتبر مدن حضرموت نظيفة نسبيًا، والفضل يعود للاستخدام الحكيم لنظام القنوات، ولذلك نادرًا ما تنتشر في أوساط الناس الأوبئة، مثل الطاعون، والكوليرا، كما أن حضرموت خالية من الأمراض الشائعة في أوربا؛ لسبب بسيط، وهو انعدام التواصل مع الأوربيين. إن تدهور صحة السكان المحليِّين في كثير من المستعمرات يعود في حالات كثيرة إلى انتقال الأمراض والرذائل الأوربية إليهم، فيعانون منها أكثر مما يعاني منها الأوربيون أنفسهم.

كم من الوقت ستبقى فيه حضرموت قادرة على إغلاق الطريق إلى ما يسمى “بالحصار”، إنَّـه أمرٌ لا يمكن التنبؤ به. إلى يومنا هذا والناس في حضرموت في مأمن من تلك الحضارة، ولا يسعنا إلا أنْ نأمل في أن يُسمح لواحدة من البلدان الأصيلة القليلة ان تبقى كما هي.

الفصل التاسع

في وادي دوعن

أعطانا السلطان جنديين (مبروكًا وناصرًا)، وهما من قبيلة المرفدي، وأعطانا أيضًا حمارَيْنِ وبعيرًا لحمل أمتعتنا خلال رحلتنا إلى مدينة حريضة، وكان لدى الجنديين شيء من السذاجة لدرجة أنَّ خادمنا (سيِّدًا) استطاع التحكم بهما، وورَّطهما في أعمال مشبوهة كثيرة، جلبتْ لهما اللَّوْمَ، فنشب بينهم خلاف مخيف، استمر ليوم كامل. وبما أنَّ الجنديَيْنِ كانا على خلقٍ وسلوكهما كان حسنًا، فلمْ يتخطَّ خلافُهما الكلام، وكان كلامًا يستحق الاستماع إليه.

إنَّ إبداعَ خادِمِنا سَيِّدٍ وتفنُّنَه في خلق المتاعب لنا كان لا حدود له، لقد بِـتْـنَا ليلةً في (هينن)(4)، وهي بلدة صغيرة في وادي العين، وفي الصباح اكتشفْنا أنَّ الحمارَيْنِ والبعير قد اختفوا، لقد سمح خادمُنا المحترم (سيد)، وعلى مسؤوليته الشخصية، حادي الجمل الذي أرسله معنا سلطان شبام أن يذهب إلى بيته آخذًا معه الحمارين والبعير. كان حادي الجمل مسرورًا بالطبع؛ فقد وفَّر على نفسه عناء السفر معنا إلى حريضة مقابل دولارَيْنِ دفعهما لخامدنا. ماذا بوسعنا أن نعمل الآن فليس أمامنا سوى البقاء حيث نحن، ومضتْ أيامٌ عدَّةٌ قبل أن نستأجر حمارًا بائسًا وجملًا من بدوي سيِّئٍ، تلك كانت قافلتنا التي دخلنا بها إلى حريضة، التي تقطنُها أسرة السيد العطاس.

إنَّ نفوذ السادة آل العطاس، وهم أيضًا يمتلكون استثمارات ضخمة في جاوا وسنغافورة، يشمل المدن والقرى في وادي عمد، ووادي الكسر، وهذه المناطق بها كثافة سكانية من بدو قبائل الجعدة، ونهد، والصيعر، وسيبان، ونوَّح، والبارشيد، إضافة إلى قبائل صغيرة أخرى، وبعض فخائذ القبائل.

تقع حريضة في ملتقى وادي عمد ووادي الكسر، بمحاذاة جبل شاهق يسمى جبل جندم، والمدينة بها آثار كثيرة تعود إلى الحقبة السبئية، استطعْتُ تصوير عدد من النقوش، اكتُشِفَ بعضُها تحت مسجدٍ متهدِّم، والبعض الآخر في مدخل إسطبلٍ للحمير. أحضر لي أحدُ البدو أواني من المرمر وبعض العملات المعدنية الرومانية القديمة، وهو ما يؤكِّد وجود اتصالات بين روما القديمة وهذه الأماكن، وهذه العملة المعدنية تحمل اسم الإمبراطور أنطونيوس بيوس Antonius Pius، وسُكَّتْ بتاريخ 200م، وعليها ختم مصري.

في هذا المكان يضيق الوادي، ولكنْ تزداد الكثافة السكانية، فتجد مدينةً تليها مدينة، وقريةً تليها قرية أخرى، والكثير منها لم يصلْها أوربي قبلنا، والتربة هنا خصبة جدًا، ومزروعة على نطاق واسع، حيث تُزرَع أنواع كثيرة من الذرة. مشينا لساعات عبر أرض مزروعة جميلة. كانت احتياجات الناس هنا متواضعة، وتتكفَّل أرضُهم بتوفيرها لهم. يربي البدو قُطعانًا كبيرة من الضأن والماعز، ولا يهتمُّون كثيرًا بخصوص إطعامها؛ فهناك الكثير من الحشائش والنباتات، التي تنمو بين الجبال والصخور، وتوفِّـر الغذاء الوفير لهذه الحيوانات، كما تمدُّ أشجار النخيل الـنَّـاسَ بالتُمور، وهي السلعة التي يتاجرون بها مع سكان المناطق الساحلية، فيأخذون بها الأسماك المجفَّفة والعَيْدَ والأرز المستورد من الهند، كما يتاجرون أيضًا بجلود الحيوانات مع تُـجَّار الفَرْوِ الكِبَار في عدن.

تقع الهجرين في وادي دوعن، الذي يعتبر امتدادًا موازيًا لوادي العين، وقد أتيناها عبر بلدة (فضح) ومشهد علي، والهجرين هي أُولَى المناطق الداخلية، التي وقعتْ في يد القعيطي، وتكمن أهميَّتُها في موقعها الواقع على طريق التجارة بين الساحل والداخل، يسكن الهجرين ألفان إلى ثلاثة آلاف شخص، وبها عدد من البيوت الجميلة. تقع المدينة على رأس جبل، في مكان تلتقي فيه عددٌ من الأودية الصغيرة أو الروافد بوادي دوعن. أُصِيب صديقي بضربةِ شمسٍ، وتحتَّم علينا البقاء في الهجرين لبعض الوقت، في قلعة قديمة، بُني جدارها الخارجي على حافَّة الجبل، شديد الانحدار، مشكِّلًا معه خطًّا مستقيمًا، وقد شاركَنا عددٌ من البدو والجنود غُرَفَها الصغيرة المظلمة.

وجد خادمُنا (سيد) عملًا عند أحد العرب في حريضة، ولكنه سيرافقنا إلى منطقة (عورة) آخر منطقة سنزورها في دوعن، بعدها سيعود إلى حريضة. لم نعترض على هذا الأمر؛ فالرجل سبَّبَ لنا الكثير من المشاكل والمتاعب، والسبب الرئيس وراء قراره هذا هو علمه المسبق بالعقاب الشديد الذي ينتظره حال عودته إلى المكلا.

في الهجرين أيضًا أظهر (سيد) مرة أخرى سوء أخلاقٍ وسلوكٍ؛ حيث انفجر فجأة غاضبًا يصرخ ويرمي بالأشياء من حوله لسببٍ تافهٍ لا يستدعي هذا الهيجان كُلَّه، ثم تذكَّر أنَّ في جيبه رسائل تعرِّف بنا، مُوجَّهة لأشخاص مهمِّين في المناطق التي ننوي زيارتها، كُنَّا قد سلَّمْناها له من قبل، فوِفْـقًا للعُرْفِ السائد أنْ يذهب هو قبلنا إلى كل منطقة ليُعلِن عن قدومنا، ويسلِّم تلك الرسائل. أخرج تلك الرسائل من جيبه وأخذ يلوِّح بها في الجو مهدِّدًا بحرقها، حينها قام عددٌ البدو والجنود بأخذها من ذلك الوغد بالقُوَّة، فأنهتْ هذه الحادثةُ علاقتَنا به تمامًا، وقرَّرْنا بعدَها تدبيرَ أُمورِنا بأنفسنا دون الحاجة لمساعدته.

مررْنا في رحلتنا إلى دوعن ببلداتٍ وقُرًى متعدِّدة، سالكين أوديةً ضيِّقةً بين الجبال، بها غاباتُ نخيلٍ لا تنتهي، وأرضٌ رائعة بها غطاءٌ نباتي كثيف. الشيءُ الوحيد غير الموجود في هذه الأرض الجبلية الاستوائية العجيبة هو المملكة الحيوانية، التي عادةً ما تكون موجودة وبكثرة في أرضٍ كهذه. لم نشاهدْ من الطرائد الكبيرة سوى الغزلان والظباء، وكانت أعدادها قليلة؛ لأن غالـبَها تعيش في السهول الواسعة في أعالي الهضبة. توجد بعض الثعالب وغرير الجبال. يقوم البدو بجمع أسنان الغرير الطويلة ويثبتوها في أعقاب بنادقهم، أما الفهود والقرود فتوجد في اليمن الأعلى. توجد في حضرموت أعداد كبيرة من السحالي والأفاعي، لكنَّ معظمها غيرُ ضارٍّ.

بعد (صيف) وصلنا إلى (بضه) حيث استقبلنا السكان المحليُّون بحفاوة، معبِّرين عن رضاهم، فنحن أوَّلُ مَنْ زارهم من الأوربيين، غير آبهين بمصاعب الرحلة الطويلة ومخاطرها، بعد ذلك توغَّلنا أكثر في هذا الوادي ذي الجمال الساحر الأخَّاذ، وادي دوعن، وزُرْنا (الجبيل)، و(مطروش)، و(هدون)، و(القويرة)، و(الخريبة) وهي عاصمة الوادي، و(عورة) مقر السلطان. تنتصب القرى والبلدات في أماكن عالية، ملاصقة لجوانب الجبال الشاهقة، وكأنها أعشاش طائر السنونو. فهمْنا الآن كيف أسر جمالُ هذا البلد ادولف فون ريدي، الذي زار هذا البلد قبل حوالي مئة سنة، كأوَّل أوربي يزور هذه المنطقة، ولكن لسوء الجظ قُدِّر لرحلته أنْ تتوقف فجاءة في الخريبة، بعد أن انقضَّ عليه مجموعة من البدو وانتزعوه عنوة من على ظهر جمله، وتعاملوا معه بخشونة، ويربطوا بعد ذلك يديه خلف ظهره، ثمَّ أحضروه إلى السلطان الحاكم باعتباره جاسوسًا أوربيًا، وطلبوا من السلطان أن يأمر بإعدامه، غيرَ أنَّ اثنين من أصدقائه العرب حَالَا دُونَ ذلك ونجحا في إطلاق سراحه بعد أنْ صُودر متاعه ومذكراته.

حتى في هذه الأيام يُعرِّض الأوربي نفسه لمخاطر جمَّةٍ إذا أظهر نفسه في شوارع الخريبة، فعندما مشيْنا في هذه البلدة أحاط بنا حشدٌ كبيرٌ من الناس، وأخذوا يدفعون بنا باتجاه الأزقَّة الضيِّقة، مردِّدين صيحاتِ الغضب. لقد كان الوقت الذي أمضيْتُه في الخريبة أسوأَ وقتٍ في كل رحلتي؛ فالحشود العدوانية هناك أمر في غاية الخطورة.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. ديار البقري ليست في وادي العين كما أشار المؤلف وإنما في أرض نهد.
  2. هينن لا تقع في وادي العين كما أشار المؤلف وإنما تقع في الكسر شمال وادي العين وغرب القطن.