أ. نجيب سعيد باوزير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 28 .. ص 70
رابط العدد 28 : اضغط هنا
أعترف أنه لم يكن سهلًا بالنسبة لي أن أخطط الشكل الذي يجب أن تبدو عليه هذه المقالة. كنت أفضّل لو كان باستطاعتي أن أقدم لكم وصفًا مباشرا لرحلة واحدة أولى، ولو كانت الأمور قد جرت كما توقعنا عندما عدنا أنا وزوجتي إلى حضرموت في 16 من نوفمبر سنة 1936، كنت أتمنى لو أخبرتكم عن رحلة على الطريق الضاربة في القدم ركوبًا على الجمال من حضرموت شرقًا عبر بلاد المهرة إلى ساحل البحر الذي يقع خلف رأس فرتك. غادرنا عدن إلى المكلا وكان مقررًا لنا من الجهات المسؤولة ستة أسابيع وكنا نأمل أن نقوم بتلك الرحلة بعد الانتهاء من المهام العاجلة التي تمخضت عن الرحلة السابقة في عام 1934. ولكن لم تسر الأمور كما كنا نخطط. ورغم أن الستة الأسابيع امتدت إلى شهور ورغم أننا أصبحنا الآن مقيمين دائمين في حضرموت فإننا لم نجد الوقت أو الفرصة لرحلتنا بعد. ولذلك تجدونني غير قادر أن أعطيكم تلك الانطباعات الأولى الطازجة عن بلد جديد حال زيارته والتي هي مثيرةٌ جدًا لاهتمام أولئك الذين عليهم القيام بسفرهم بوصفهم مستمعين أو قراء.
ومع ذلك ربما يسترعي الاهتمام أن أحاول من خلال تلك المعرفة التي تنشأ من الألفة اليومية رسم صورة أوسع لحضرموت من خلال وصف هذه البلاد التي ما تزال غير معروفة من نواحٍ عدة. وسأحاول أيضا أن أقدم وصفا لرحلاتنا القصيرة التي نقوم بها من وقت لآخر إلى بعض مناطقها التي لم يزرها أحد حتى الآن.
عندما أعود بذاكرتي عبر الأشهر الثماني عشر الماضية أتعجب للاختلافات الكبيرة بين حضرموت سابقا والآن، وهي اختلافات ربما تكون ملحوظةً أكثر من أي تغييرات أخرى شهدتها البلاد طوال تاريخها. صحيح أنه قبل ثمانية عشر شهرًا كانت حضرموت قد أصبحت من المناطق المعروفة أكثر من غيرها في الجزيرة العربية. لقد كتب وقيل الكثير عنها وخلال مدة قصيرة شهدت عددًا كبيرًا نسبيًا من الزوار الأوروبيين، لأنني أفترض أن العدد الإجمالي للأوروبيين الذين رأوها منذ عام 1843، عندما ذهب ڤون ڤريده إلى هناك، كان بين عشرين وثلاثين وجميعهم، باستثناء ستة جاؤوا عن غير قصد، زاروها ابتداءً من عام 1933. ولكن في هذه الأشهر الثماني عشر الأخيرة، ولاسيما خلال الشتاء الماضي، وصل عدد الزوار، الرسميين وغيرهم، إلى أكثر من مئة. بل إلى عدة مئات إذا أخذنا في الحسبان زوار الأساطيل والسياح الذين لا يتجاوزون الساحل، لأن المكلا حظيت مؤخرًا بشيء جديد عليها وهو رؤية حافلات محملة بالسياح من المسافرين بالبواخر تسير في شارعها الوحيد.
لا شك أن غزو الزوار الأوروبيين المكثف والمتكرر بشكل غير مسبوق هو في حد ذاته مفارقة كبيرة مع الماضي القريب، لكنني أظن أن الفرق الأكثر لفتًا لأنظار الزوار الذين عادوا إلى البلاد في العام الماضي هو حالة الأمان والهدوء النسبي التي تسود اليوم. منذ ما يزيد قليلا عن العام كنت ترى كل بدوي وقبيلي في هذه البلاد حاملا بندقيته معه حتى عندما يمر في الشارع. وكانت النزاعات الدموية منتشرةً على نطاقٍ واسع وحتى المسافرون المسالمون من الطبقات غير المسلحة كانوا في بعض الأحيان معرضين ليس فقط لخسارة ممتلكاتهم بل أرواحهم أيضا. وكان يتعين على المسافرين بالسيارات أن يصطحبوا معهم مرافقا عند العبور من قرية إلى أخرى. وفي بعض الأماكن كانت تنتشر شبكات كثيرة من الخنادق للانتقال عبرها من القرى إلى الحقول، وأنا أعرف أن هناك أشخاصا مضت عليهم عشرون سنةً دون أن يتخطّوا عتبات بيوتهم.
أما الآن فقد ولّى كل ذلك وأصبح من النادر نسبيا أن ترى قبيليًا يحمل بندقية، بل إن الكثيرين منهم لم يعودوا يحملون حتى (الجنابي) أو الخناجر المعقوفة التي تعد جزءًا من زيهم، تقريبًا بمثل ما أن عصا المشي جزء من زينا. كيف كان لكل هذا أن يحدث أمرٌ يتعلق بتاريخ حضرموت أكثر مما يتعلق بجغرافيتها، لكنني أود فقط أن أقول إن ذلك يعود إلى حد كبير إلى تصميم الناس الذين لديهم رغبة حقيقية في السلام وفي السعي نحو الأهداف البعيدة عن الصراع.
أدت هذه الحالة الجديدة من الأمان إلى إيجاد ارتباط أكثر بين القبائل وبين المناطق المختلفة من البلاد وسهلت الانتشار الواسع لوسائل الاتصال والانتقال. قبل ثمانية عشر شهرًا كانت هناك حوالي ست سيارات في الساحل وحوالي ستين سيارة في الداخل، نقلت أجزاؤها بواسطة الجمال. ولكن بعد إنجاز طريق الكاف أصبحت تريم مربوطة بالشحر وتنطلق الآن شاحنات نقل الركاب يوميا تقريبا بين الساحل والداخل. وعندما غادرت البلاد قبل شهرين كانت فيها مئتا سيارة على الأقل وكانت كل سفينة تأتي معها ببعض السيارات القليلة. لقد تم إضافة العديد من طرق السيارات، وتذهب السيارات الآن إلى جميع مناطق حضرموت تقريبًا، غربًا إلى العبر وشرقًا إلى السوم وكذلك على امتداد تفرعات الأودية. وتقوم حكومة المكلا أيضًا بإنشاء طريق سيارات آخر بمواصفات أفضل إلى حضرموت الداخل يتم العمل فيه من المكلا شمالا ومن دوعن جنوبا. وعندما غادرت كان قد تم إنجاز مسافة تبعد أكثر من 20 ميلا عن المكلا ومسافة تبعد 10 أميال عن دوعن. لم يتبق على الانتهاء من إنشاء هذا الطريق سوى ستين ميلًا، الجزء الأكبر منها يقع على الجيلان المستوية ولا يُتوقع صعوبات غير عادية في عملية الإنشاء. وإذا انطلقت من المكلا يمكنك الآن أن تسوق سيارتك في حضرموت لمسافة 300 ميل على الأقل دون أن تنحرف عن مسارك يمينًا وشمالًا، وهناك ما يربو على 500 ميل إجمالًا من الطرق.
وقد تم أيضًا إدخال تطوير كبير على قدرات النقل الجوي. قبل ثمانية عشر شهرًا كانت هناك ثمانية مدارج هبوط في السلطنات الخمس في الجزء الشرقي من المحمية، ثلاثةٌ منها فقط، في المكلا، وشبام، وقشن، كان يتكرر استعمالها على نحو ما. لقد أُنشئت مدارج هبوط جديدة في تريم، وسيئون، وحريضة والعبر وعزان وبلحاف ورسب وحصوين وحيلة، وذلك بجهود الناس أنفسهم فقط، ومعظم مدارج الهبوط السبعة عشر في البلاد تستخدم الآن كثيرا من قبل سلاح الجو الملكي. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من مدارج الهبوط هذه أنشئت بمبادرة السكان المحليين وأن جميع المدارج الجديدة تم إنشاؤها طوعيًا من قبلهم دون أن تتحمل الحكومة أية نفقات. وقد طالب الصيعر والبدو العوامر في الشمال وغيرهم ببناء مدارج هبوط عندهم حتى يمكن تفقد أحوالهم.
كان الاتصال مع حضرموت حتى الآن يتم من خلال الزيارات القصيرة غير المنتظمة للسفن في المكلا والشحر، لكن هناك الآن رحلات جوية تجارية أسبوعية تشرف عليها الخطوط الجوية العربية من عدن إلى المكلا وسيئون. ولم تتوفر من قبل خدمة بريدية أما الآن فيوجد مكتب بريد في المكلا وخمس وكالات بريدية في المراكز الرئيسية في الشحر وتريم وسيئون وشبام ودوعن. كما لم تكن توجد اتصالات لاسلكية، لكن الآن هناك خدمة تجارية مع المكلا والمواقع الحكومية في سيئون والعبر وتتجه النية لإقامة موقع آخر.
بقدر ما أن هذه التطورات في وسائل الاتصال جيدة فإنها لا تلبي حتى الآن جميع احتياجات البلاد، لأن مساحتها تبلغ أكثر من 60,000ميل مربع ويبلغ عدد سكانها حوالي 300,000 نسمة فقط، منهم ربما 50,000 يسكنون في المنطقة الساحلية و 100,000 في الداخل في أراضي الوادي الخصبة نسبيًا، في حين أن الباقين بدو أو منتشرون في مستوطنات بعيدة حيث التربة تسمح بتوفير ما يسد الرمق من الإنتاج. هذه المنطقة الواسعة، التي هي تقريبًا أكبر من إنجلترا وويلز مجتمعتين، قد شوهدت الآن كلها من الجو رغم كل شيء، لكن بالطبع لم تتم زيارة جميع المناطق على الأرض وهناك مناطق واسعة تسودها الوحشة والجدب ما زالت تحتاج إلى من يتفقدها.
إن المناطق التي يعوّل عليها أكثر من غيرها في عملية التنمية والتي على تنميتها تتوقف فرصة البلاد بأكملها في التطور والازدهار هي مناطق الساحل ومنظومة وادي حضرموت نفسها. وكما هو الحال في جميع البلدان الاستوائية، فإن الزراعة يجب أن تكون هي أساس الثروة الطبيعية المتواضعة للبلاد، والمنطقة التي تختزن أكبر إمكانية لذلك هي وادي حضرموت والأودية التابعة له، ولاسيما ذلك الجزء من الوادي بين هينن وقعوضة في الغرب والسوم في الشرق مع أودية دوعن وليسر وعمد وبن علي والعين وتاربة وعدم التي ترتبط معه من الجنوب. وعمومًا، فقد بذلت محاولات يسيرة للزراعة في الأودية ابتداءً من الشمال.
إن المستقبل المتوقع للساحل، وأهم مدنه المكلا والشحر، يتركز على التجارة والملاحة. والذين لا يعتمدون على التجارة من السكان ينزلون إلى البحر إما في المراكب الشراعية أو كصيادين، وإن كان هناك قدر معين من الزراعة. وأهم المناطق التي تتم الزراعة فيها هي ميفع وغيل باوزير. ومن ناحية التنمية، فإن حضرموت محظوظة بامتلاكها مجتمعًا متوازنًا أظهر مبادرته في كسب الأموال في الخارج. وهناك اعتقاد سائد لدى الرأي المحلي الواعي أن الكثير من الحضارم المئة ألف الذين يعيشون في الخارج سيعودون بما أنه قد ساد الآن الأمن ووجد أمل العثور على لقمة العيش في بلد يعتبرونه دائمًا موطنهم، وهذا الارتباط بالموطن الأصلي قد لا تجده عند كثير من الشعوب التي تعودت على الهجرة. وفي المجتمع المتوازن توجد طبقات تتأقلم مع كل مرحلة من مراحل تطور المنظومة الثقافية والاقتصادية للمجتمع، والبدايات الملحوظة الآن للتنمية ليس من شأنها أن تزعزع المنظومة القائمة بل إنها فقط تمنحها مجالًا أوسع. في المناطق التي يسكنها القبيليون فقط من الطبيعي أن تكون التنمية صعبة وبطيئة، لأن هناك العديد من المهن التي لن يشغلها القبيليون طواعية، وبما أنهم شديدو التمسك بتقاليدهم فسيحتاجون إلى وقت طويل ليتركوا مهنتهم القديمة ( أو بقاءهم بلا مهنة ) ويكيفوا أنفسهم مع الفرص الجديدة.
لكن في حضرموت الداخل إذا كانت منطقة الإنتاج الرئيسية هي منظومة الوادي الرئيسي فإن في تلك المنطقة سُكّانًا مهتمين أصلًا بالزراعة ويعشقونها. إن شبام في الأساس مركز تجاري، وهي السوق الرئيسية لمنطقة الداخل، ولكن خارج شبام وفي جميع مدن الوادي الأخرى يسود الجو الريفي وأهلها في الغالب ملاك أرض أو عمال يعملون في الأرض. بالإضافة إلى ذلك فإن القبائل قد استقرت وتجدر الإشارة إلى أن معظمهم قد استقروا في مواقع البدو. وإذا كانت القبائل التي تعيش في الوادي الكبير قد أصبحت مستقرة، فإن لهم أقارب من البدو في المناطق القاحلة. وإذا أمكن جعل الدولة ليس فقط أكثر اكتفاءً ذاتيًا من ناحية حاجاتها الغذائية، بل أيضًا جعلها منتجة لشيء من الموارد التي يمكن تصديرها، فسينتفع من ذلك لا المزارعون فقط ولكن أيضًا البدو القاطنون بين الساحل والوادي، فهم حاليًا يعودون بجمالهم إلى الساحل غير محمّلة، لأن حضرموت الداخل تستهلك فقط. لقد أرسلنا مؤخرًا عينات من بذور القطن وزيت الخروع، التي تنمو غالبًا طبيعيًا في حضرموت دون ري، إلى المعهد الإمبراطوري لفحصها وكانت النتائج مبشرة جدًا. هذا لا يعني بالطبع أن زراعتهما يمكن أن تتخذ مصدرًا للربح دون المزيد من الفحص المكثف وبعض التجارب، لكنهما مساران ممكنان للتنمية، والآن بعد أن تم تعيين مسؤول زراعي أصبح من الممكن العثور على محاصيل جديدة لزراعتها بصورة ممنهجة. لا شك أن الماء هو الحاجة الرئيسية، ولكن هذه مسألة نأمل أن نبحثها أيضًا، وهناك كل الدلائل على احتمال وجود وفرة من المياه في المناطق الأكثر صلاحيةً للتنمية الزراعية.
المكلا هي العاصمة السياسية والتجارية للبلاد كلها. يسكن فيها السلطان القعيطي، وهي مقر حكومة المكلا، ومقري الشخصي بصفتي مستشارا مقيما لعظمته وبصفتي الضابط المسؤول أمام حاكم محمية عدن لشؤون العلاقات السياسية مع السلطنات الخمس الواقعة في الجزء الشرقي الأقصى من المحمية. المكلا هي المكان الوحيد الذي شاهده معظم زوار البلاد الذين يبلغ عددهم عدة مئات. وهي أهم ميناء على الساحل الجنوبي للجزيرة العربية بين عدن ومسقط، ولكن يبدو أنها، على نحو ما، ما زالت ضمن فئة الأماكن التي لا يعطيها الرحالة كثير اعتبار، ربما لأنه حتى الوقت الذي اتخذنا أنا وزوجتي مسكنًا لنا هناك لم يوجد قط من الأوروبيين من يقيم بها إقامة دائمة. خلال الأشهر القليلة الماضية ارتفع عدد الأوروبيين المقيمين إلى ستة، ومع أن المكان يبدو لنا إلى حد بعيد كما عهدناه دائمًا، فإن الزوار يقولون إن تغييرا يطرأ عليه بين وقت وآخر. قبل مدة وجيزة كان قبطان سفينة قد نزل إلى البر وتساءل في السوق متعجبا كيف تحسنت خدمات الميناء، وكيف أصبحت المدينة تبدو أنظف مما كانت عليه من قبل. أعتقد أن أكثر شيء يعلق بذاكرة من يطأون بر المكلا من سماتها هو أسراب الذباب الهائلة وروائح الأسماك المجففة وغيرها من المواد التي تعافها النفس أكثر. لن أذهب إلى حد القول إنه قد اختفى الآن الذباب والروائح، ولكنّ مفتش صحةٍ محليًا تم تدريبه مؤخرًا مع توفير فريق من الكناسين ووضع حاويات للقمامة كل ذلك نتج عنه تأثير جيد إلى حد ما.
طقس المكلا عموما لطيف إلى حد ما وصحي على نحو مرضٍ بفضل أعمال النظافة التي بدأت تأخذ طريقها في المدينة. وهناك إجراءات تتخذ الآن للحد من إزعاج البعوض، ففي العام الماضي عشنا حالة خطيرة من وباء الملاريا نتيجةً للأمطار الغزيرة التي لم تشهد مثلها البلاد منذ اثنين وعشرين عاما كما يقول كبار السن من السكان. لقد كان صادما حجم الضرر الذي تسبب به هطول المطر بغزارة لمدة ساعات قليلة فقط، إذ جرف الماء المنحدر من الجبل المطل على المدينة معه الصخور والقاذورات وتسبب تدفق المياه في حدوث أخاديد عديدة في شارع السوق الرئيسي.
والمكلا، كجميع الموانئ البحرية، مدينة عالمية الطابع، فأنت تجد في أسواقها عناصر من عرب المدن الساحلية في الجنوب العربي والبحر الأحمر والخليج الفارسي بالإضافة إلى الصوماليين وغيرهم من الأفارقة. والعنصر الشاذ من الزوار غير المعتاد مشاهدتهم هم الحجاج المنغوليون أصحاب اللحى الطويلة الذين يبسطون أمامي جوازات سفر صينية غير مفهومة اللغة ويبدو عليهم أنهم يرغبون في تسهيل مواصلة سفرهم ولكنهم لا يستعملون للتعبير عن ذلك اللغة العربية ولا أي لغة أخرى مفهومة في المنطقة. وهناك عدد كبير من الهنود الزائرين والمقيمين أيضا، بمن فيهم أصحاب الدكاكين من الهنود البانيان، وفي الطبقة العليا من مجتمع المكلا تمتزج العناصر المختلفة، الهندية والعربية، في انسجام تام. ونحن كلنا نحضر مجالس بعضنا البعض، وقد أنشأ موظفو الحكومة في المكلا ناديًا جيدًا للغاية. وفي العام الماضي أو نحو ذلك، كانت احتفالات التتويج هي الأعظم بطبيعة الحال من بين جميع المناسبات الاحتفالية المختلفة. كانت الشوارع وأسطح المنازل مزدانة بالأعلام، ومن أجمل المشاهد التي يمكن أن يتذكرها المرء مشهد الأضواء في ليلة المناسبة. لقد تم تزيين واجهات القصر السلطاني ومقر المستشار والمكاتب الحكومية والمساجد الرئيسية بأضواء ملونة، وأظن أن المكلا في تلك الليلة قد أحرقت من البخور تقريبًا بقدر الكمية التي انتقد بلينيوس نيرون على إحراقها في مأتم بوبايا. أما البيوت العادية التي لم تزين بالأضواء الملونة فتكاد تكون كلها استبدلت بها كميات كبيرة من البخور على طول حواجز سطوحها، وكانت الأضواء الملونة والبخور المشتعل تنعكس على مياه المرفأ في منظر رائع، في حين ملأت سحب الدخان المنبعث من البخور الشوارع بضباب ذي رائحة زكية وبددت تمامًا رائحة السمك. إن المكلا الآن تنعكس بالطبع كل ليلة على صفحة الماء، لأن الإنارة الكهربائية تم إدخالها منذ وقت قريب، ويشاهد الآن من بعيد الوميض المخضر لأنوار الشارع الجديدة. وبناءً على طلب السلطان تتخذ الآن إجراءات لإعادة تنظيم قواته وتدريبها وكذلك لزيادة قوات السلطان الكثيري وتدريبها، وبفضل القائد هوبكنز، الذي مكث في المكلا لمدة حوالي ستة أشهر فإن القوات الآن بلغت فعلا مستوى أفضل بكثير مما كانت عليه قبل ذلك.
بعد الساعة الرابعة عصرا حتى غروب الشمس يخرج الرجال في المكلا من بيوتهم، فمنهم من يجلسون في المقاهي على الواجهة البحرية، ومنهم من يتمشون حتى يخرجوا من البوابة الغربية ثم يتحلقون في مجموعات على مبرك الجمال وعلى الطريق المؤدي إلى الداخل. وهذا هو الطريق المعتاد الذي مشى عليه ووصفه معظم الأجيال الأقدم من الرحالة، لكنني أظن أن لن يعبره في المستقبل إلا قلة من الأوروبيين على الأرجح راكبين على الجمال أو الحمير كما فعلنا نحن في زيارتنا الأولى قبل ثلاث سنوات، لأنني أتوقع ألا يتأخر كثيرًا إنجاز طريق السيارات الجديد. إن العشرين ميلًا أو نحوها التي تم الانتهاء منها تعتبر حقا إنجازًا عظيمًا، فهو طريق جبلي بني بمهارة بالحجارة على جوانب التلال بحيث يرتفع بقدر كاف عن مجاري السيول. لقد تم تتبع الخط ورسمه من قبل القائد أل. جي. بيتش آر.إي الذي قام أيضا خلال زيارة قصيرة بتحديد خطي الطول والعرض لمدينتي شبام وتريم، ولكن لم يكن هناك إشراف من خبير، وقد أثبت البناؤون، وجميعهم من المكلا، مهارتهم غير العادية في القيام بالعمل.
يذهب معظم المسافرين في الوقت الحاضر إلى الداخل بالسيارة إما بطريق السيف إلى الشحر وإما، في حالة عدم انفتاح السيف، بالطريق الداخلي الذي يمر بغيل باوزير، وهي مدينة مسورة وبيوتها جيدة البناء وتعد مقر النشاط الاقتصادي المتمثل في زراعة التنباك الحمومي. إن أمهر حفاري الآبار وقنوات وأنفاق الري ينتمون إلى هذا المكان، ونظام الماء الذي يروي مزارع التنباك نظام متقن للغاية.
والشحر مدينة عتيقة. وأسوارها الحالية ليست قديمة ولكن كانت هناك مدينة في هذا الموقع لمدةٍ لا تقل عن ثمانمئة أو تسعمئة عام، والمدينة الساحلية الرئيسية التي في الجوار كانت هنا منذ مدة أطول بكثير. والمكلا بالطبع أحدث بكثير. وتعد الشحر مركزًا مهمًا لصيد السمك ويتم جلب كميات هائلة من الأسماك يوميًا لتجفف في الشمس لاستهلاك المناطق الداخلية ولكن يؤكل بعضها طازجًا في نفس المنطقة. أما الحياكة والصباغة وصناعة الحصر فهي صناعات ثانوية ولكنها مهمة للمنطقة. وعلى بعد حوالي سبعة أميال من الشحر تقع تبالة التي بنيت على تل فوق الينابيع الكبريتية. وقد حاز هذا المكان على شهرة محلية بسبب مغاطسه الكبريتية التي يقصدها الكثير من مرضى الروماتيزم للاستشفاء. ويوجد في الحامي، التي تقع على نفس الساحل ولكن أبعد قليلا، عددٌ أكبر من الينابيع الساخنة، لكن موقع تبالة الرائع يوحي بإمكانية وجود فندق ومنتجع معدني يسهل الوصول إليه بالسيارة من الشحر، وقد درسنا ربما بطريقة سابقة لأوانها تحديد مواقع (البمب روم) و(الكونسرت هول) في المنتجعات الصحية المفترضة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأفكار الإصلاحية لعظمة السلطان وللسادة في الداخل، فإن توفير عدد قليل من الفنادق قد لا يعد تطورًا بعيد الاحتمال في وقت قريب وستكون البلاد منتجعًا شتويًا مثاليًا. وتعد الشحر السوق الرئيسية للجزء الشرقي من حضرموت بكامله، بما في ذلك كل المنطقة التابعة للدولة الكثيرية، ووارداتها عن طريق البحر ضخمة جدًا، على الرغم من أنها أسوأ حالًا من المكلا بالنسبة للمرافق المطلوبة للموانئ، فما هي إلا مرفأ مفتوح وليس بها أرصفة بحرية؛ ولكن بالإضافة إلى البواخر العدنية المحلية تمر بها حتى البواخر التي تبحر عبر المحيط مثلما تمر بالمكلا.
تسيطر قبيلة الحموم الكبيرة على الجزء الأكبر من تجارة النقل، وهذه القبيلة ليست لها قرى حقيقية خاصة بها ولا تمتلك إلا القليل جدًا من البيوت السكنية، ولكنها تمتلك عددًا كبيرًا جدًا من الجمال. ويمتلك زعيم القبيلة أيضًا عددا كبيرا من أشجار النخيل في مناطق مختلفة من بلاد الحموم. لقد قمت مؤخرًا بعدد كبير من الطلعات الجوية فوق بلاد الحموم التي تمتد على مساحة تبلغ حوالي 3000 ميل مربع، وهي معروفة الآن جيدًا لسلاح الجو الملكي.
عندما سلكنا لأول مرة الطريق المتجهة إلى تريم في نوفمبر من عام 1936 كان طريق السيارات طبعًا لم يكتمل بعد وكانت على بعد حوالي 20 ميلًا إلى الشمال من الشحر هوّة لا بد أن تُجتاز على الحمير عبرَ المعدي، وهي بلاد آل بحسن التانبوليين الذين قاوموا بشدة محاولات السيد بوبكر وعائلة الكاف لإكمال الطريق. وآل بحسن التانبوليون هؤلاء هم حلفاء الحموم، وقد لقبوا بالتانبوليين لأنهم الوحيدون في المحمية كلها الذين يزرعون ورقة التانبول وجوزة الفوفل، بالرغم من أن ابن بطوطة يشير إلى وجوده في ظفار التي تقع بعيدا إلى الشرق، وأتوقع أنه لا يزال موجودًا هناك. ليس في ملامح البحسنيين الكثير مما يوحي بأن لهم علاقة بالحموم، فإن رجال الحموم عموما يتسمون بالوسامة، بينما الجلافة وصف مخفف لما عليه البحسنيون بشكل عام. لقد قال لي الحموم أنفسهم بأنهم ليسوا من جنس البشر، وقال لي صديق عربي عندما كنا ننظر إلى البعض منهم ممن هم أكثر بدائية: “لا ينقصهم سوى الذيول فقط ولن تفرق بينهم وبين القرود.” ولكنك تزداد تعلقا بهم بمضي الوقت كما هو الحال مع القرود في اعتقادي، وأنا الآن مولع بهم بشدة. عندما صعّدنا إلى هناك في المرة الأولى أخذوا منا دولارين ثمنًا لكل قربة ماء ودولارًا مقابل أربع حبات من جوز الهند اضطررنا لشرائها لأنه لم يكن بحوزتنا أي طعام، وبقينا ليومين دون حيلةٍ ننتظر وصول السيارات من حضرموت. وفي تلك الزيارة الأولى كاد أحدهم يطلق النار علي لأنني حاولت التقاط صورة له، أما الآن فهو على أتم الاستعداد لأن يأخذ (وضعة) التصوير. في أثناء الليلتين اللتين قضيناهما ننتظر السيارات كان البحسنيون متوترين بعض الشيء لأنهم كانوا قد قتلوا شخصًا منذ مدة قصيرة وهو ما جعلهم يتوقعون هجومًا، لذلك توجب علينا أن نبني تحصينات سريعة من الحجارة. ونظرا لمشاركتنا في هذا العمل اقترحنا عليهم أن يدفعوا لنا أجرا مثلما طالبونا هم بثمن كل شيء أخذناه، ولكن لم تعجبهم الفكرة وأمضوا الليلة في الحراسة يدندنون على نحو رتيب لكي يظلوا يقظين. وممن التقينا بهم من البحسنيين سيدة طيبة تلبس كما يلبس الرجال بما في ذلك الخنجر والتوابع الأخرى وتحب أن تدعى الشيخ سالم، وهي المرأة الوحيدة من نسائهم التي لا تستر وجهها أمام الرجال. إن عادة ارتداء النقاب تختلف كثيرًا بين قبائل حضرموت، وهناك عدد كبير من القبائل التي تكشف نساؤها وجوههن.
حين تم إحلال السلام أصبح ممكنا استكمال طريق الكاف وقد افتتحه السير برنارد رايلي في شهر يوليو الماضي. وهو الآن طريق خاضع لرسوم مرور ويشرف عليه مجلس إدارة وتوفر نصف إيراداته للأعمال الكبيرة والتحسينات ويصرف النصف الآخر في الصيانة. إن نفقات الصيانة نفسها آخذة الآن في الزيادة الباهظة وذلك عائد إلى الأضرار الكبيرة التي يسببها مرور الحافلات يوميا. والهدف من فرض رسوم على استعمال الطريق ليس فقط أن تكون مصدر إيراد بل جزء منها يمثل حدا أدنى من الأجرة لحماية حركة قوافل البدو، ذلك أنه لا يسمح أن تنقل البضائع بواسطة السيارات إلا إذا كانت قابلة للتلف، أو ثقيلة على الجمال، أو عاجلة، وفي جميع هذه الحالات تكون أجرة النقل أعلى من أجرة النقل بواسطة الجمال.
تستغرق الرحلة بالسيارة من الشحر إلى تريم حوالي تسع ساعات ونصف إلى عشر ساعات من السياقة المتواصلة، وبالطبع فإن المسافر يتوقف عادةً لتناول وجبة وهذا ما يجعل مدة الطريق تقارب الاثنتي عشرة ساعة. بعد مغادرة المعدي يمتد الطريق خلال هضبة (جول) حُق لها أن تسمى (جول الفِقرِة)، والفِقرة تعني الظهر، وهي امتداد ضيق مرتفع من الأرض يمكن أن يقتنص الناظر من فوقه مناظر خلابة للبحر الذي يبعد 20 إلى 30 ميلا تتخللها الأودية العميقة. بعد ذلك يميل المشهد لأن يصبح رتيبًا، خاصةً إذا كنت قد سلكت ذلك الطريق مراتٍ عديدةً، لأنه يطوف بلا نهاية حول تلال مسطحة القمم ورؤوس أودية، وبعد أن تجتاز عقبة المعدي فإن المئة والثلاثين ميلًا تقريبا المتبقية عبارة عن سلسلة من المستويات التي كلما صعدت إلى أحدها انحدرت إلى آخر عبر تلال منخفضة جدا. بعد المعدي بساعتين تصل إلى ريدة المعارّة، منطقة قبيلة المعارة، وهي مجموعة من القرى المتناثرة في منطقة تتخللها أودية غير عميقة صالحة إلى حد ما للزراعة. وتوجد في المنطقة بعض الآبار، لكنّ أهلها يعتمدون غالبا على حفر واسعة مفتوحة تُنشأ للاحتفاظ بمياه الأمطار وتسمى الواحدة منها كريف. والمعارة قوم لطيفو المعشر تربطهم أيضا قرابة بعيدة بالحموم. إنهم لا يتسببون في أية مشكلة على أنه يوجد منهم أفراد قليلون مولعون بتقديم الدعاوى القضائية، ودائمًا ما يسعون إلى الجلوس معي في المكلا أو في حضرموت الداخل حول قضايا سبق أن حققت فيها من خلال محاكم مستقلة عديدة تنتهي دائما إلى نفس النتيجة. هذه النزاعات معظمها مشاحنات على الأراضي التي هي محور معظم حالات التقاضي في حضرموت.
الريدة هي المكان الذي يتم التوقف عنده عادةً لتناول وجبة الغداء لأنها تقع في منتصف الطريق تقريبًا. ويخيل لي أن أجمل مكان للجلوس هناك هو تحت شجرة قريبة من أحد (الكرفان)، فهناك توقفنا في رحلتنا الأولى إلى الداخل وكان علينا أن نطرد من المكان مجموعة كبيرة من القرود. كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها قرودا في مكان يبعد بهذه المسافة إلى الشرق، على الرغم من أننا رأيناها مرات عديدة إلى الشمال من عدن. وفي واقع الأمر، فإنه من النادر أن يصادف المرء حيوانات ثديية في حضرموت باستثناء الغزلان والثعالب، وإن كان قد عُرض عليّ مؤخرًا ضبع صغير في تريم، وتوجد هناك الذئاب والوعول والمها. ويفضل البعض الآخر عندما يتوقفون في الريدة أن يتناولوا الغداء في بيت لا يبعد كثيرا حيث إذا طلبت مسبقًا يمكنك الحصول على أرز مسلوق جيدا ولحم مسلوق. لقد أطلق أصدقاؤنا من علية القوم في حضرموت على هذا المكان اسم (شِبرد)، وربما كان هذا على الأرجح بسبب الأسعار المرتفعة التي تطلب دائما من الزبائن. في المرة الأولى التي مررنا بالقرية طلب شخص من زوجتي دواءً وأعطته ملح أبسوم. ثم خرجت بعدها الجموع ومدت أيادي متوسلة ملئت كلها، وبهذا فقد وزع رطل أو رطلان، ولكن لم يكن هناك شعور استياء حيال ذلك وكانت العلاقات مع القبيلة ودية دائما. ولهم شجرة عظيمة تعرف عندهم بأنها الحرم المقدس، وتحت هذه الشجرة تعقد كل الاجتماعات القبلية المهمة. وفي هذا المكان جلست مع الأكبر سنا منهم في زيارة لاحقة عندما وقعوا على هدنة السنوات الثلاث التي شملت عموم حضرموت.
بعد الريدة بقليل تأتي منطقة كثيرية تابعة لآل جابر، ويمر الطريق بالقرب من رسب، حيث يوجد مدرج هبوط. وكانت قد لصقت بسكان رسب سمعة سيئة جدًا تتعلق بنهب القوافل واعتراض السيارات بهدف السلب. بل إنهم كانوا يطلقون النار على السيارات قبل أن تطأ أقدامنا البلاد. وقد عوقبوا على اعتداء من هذا النوع قاموا به وهم الآن بصدق من أخلص أصدقائنا. وقد نزلنا زوجتي وأنا عندهم استجابةً لدعوتهم لنا وقد بالغوا في إكرامنا بطريقتهم البسيطة. وقد أخبروني أنهم كانوا يعتقدون دائمًا أنهم في حماية سلطان تركيا؛ ومطلبهم الوحيد الآن هو مساعدتهم في الحصول على الماء، وآمل بكل إخلاص ألا يمر وقت طويل حتى تكون هناك وسيلة لمساعدتهم، لأنهم يعتمدون كليًا على ماء المطر، وعندما تجف أحواضهم يضطرون لترك ديارهم ويهيمون على وجوههم ومعهم مواشيهم إلى مكان آخر يأويهم.
كانت آخر إشارة على وجود حياة ثابتة على هذا الطريق تقع بعد رسب بقليل في منطقة حِرو، حيث يوجد قلة من الشيوخ لديهم بعض حفر الماء المرغوبة التي يبقى ماؤها مدة أطول من معظم الحفر الشبيهة بها على الطريق ويكون عادةً حولها الكثير من الماشية. وكان مشهدًا رائعًا، بعد هطول الأمطار الغزيرة في العام الماضي بالقرب من حرو، رؤية الوادي المنخفض تسوده الخضرة باتساع عرضه وهو يمشي متعرجًا في كل اتجاه وقد زرع بالكامل على ما يبدو. ولا يكف الناس هنا عن الحديث عن بركات السلام الذي مكنهم من الزراعة بمقدار أكبر مما كانوا يزرعون من قبل، إذ تعزى الأمطار الغزيرة من قبل الجميع إلى رحمة الله المتجلية جزاءً للسلام.
يستغرق الطريق من حرو إلى تريم أربع ساعات وهو طريق مهجور تمامًا، إذ تسلك القوافل طريقا في الوادي وهو طريق وادي عدم حيث يوجد الماء، لأنه لا يُعثر على قطرة ماء على الطريق التي تسلكها السيارات، وبالطبع عادةً تحدث الأعطال في هذا الجزء من الطريق.
وصلت إلى تريم في الساعة الثامنة والربع صباحًا. تعد العقبة النازلة إلى تريم واحدة من أبرز الإنشاءات الهندسية في العالم. ويقول العارفون إنه لا يوجد مهندس أوروبي سيقدم على تشييد عقبة مماثلة لها. إنها تتكون بشكل أساسي من منعطفات حادة يتعين على السائق لكي يتخطاها أن يرجع إلى الخلف، وهناك أجزاء من العقبة بها انحدارات بنسبة 1 إلى 3 أو 4. وإذا أطلقت عيارا من بندقية في قمة العقبة فستعلم تريم أنك قادم وعندها تخرج المدينة كلها لملاقاتك. ويفضل كثير من الناس أن ينزلوا العقبة مشيًا، وعلى أية حال يتوقف السائقون في القمة ليربطوا الفرامل، ولقد نزلت مشيًا مرة واحدة فقط، وكان ذلك في صباح رأس السنة. جلست لمدة قصيرة في قمة العقبة، وكان حقًا من أجمل المناظر مشاهدة نور الصباح يبزغ فوق مآذن تريم وبيوتها البيضاء.
“تريم ولا شيء يعدل بتريم”، هذه مقولة محلية، وفي الحقيقة لا أعرف أماكن شعرنا بسعادة الحياة فيها أكثر من تريم وسيؤون. لن أنسى أبدًا انطباعاتنا الأولى عن تريم، ولا أظن أن أي أحد ينسى، ولكن سحر هذه الأماكن يزيد بالتعرف عليها أكثر ومجتمعها مضياف ومثقف. هناك القليل من المعرفة بالأدب في المكلا مثلا أو الشحر. قد يضيق المرء بالعيش في المكلا أحيانا، في حين أن الشحر تعد اجتماعية ومرحِّبة دائمًا. سيؤون وتريم لا تكتفيان بهذه الصفات، بل هما تتحدثان في الشأن العام والتاريخ والفلسفة. فالمنطقة كلها ملأى بالشعراء وهي لا تروي فقط عن الشعراء القدامى، بل تسجل دائما التاريخ المعاصر في (قصائد) ولهذا السبب يظل الكثير من هذا التاريخ حيا. في رقصة الشبواني يجتمع الشعراء وينظمون بالتناوب بيتين من الشعر ارتجالا يرددهما المنشدون الرئيسيون المرة تلو الأخرى ثم يتبعهم في التغني بهما جمهور المشاركين في اللعبة.
إن تريم وضاحيتها المترفة (عيديد)، التي يوجد بها عدة فلل جميلة تشعرك بأنك في الريڤييرا، هي بالطبع خاضعة لسلطة الكثيري ولكنهما بالإضافة إلى قرية الغرف الصغيرة تقع كلها في منطقة آل تميم. وقد علمت مؤخرا الحقيقة المثيرة للاهتمام عن تريم من أنها تضم دولة داخل أسوارها. وهذه عبارة عن منطقة مغلقة تحتوي على بضعة بيوت يسكنها السادة آل الحداد ويحكمها منصبهم بموجب عرف قديم. ويخضع رعايا هذا المنصب لسلطته القضائية المطلقة، حتى وإن ارتكبوا جرائم في مدينة تريم فلا تتم محاكمتهم من قبل السلطان وإنما يسلمون للمنصب. والنخبة المثقفة في تريم تطلق على هذا المنصب لقب (البابا)، وتطلق على دولته اسم (الفاتيكان). وفي تريم وسيؤون كلتيهما معاهد دينية قديمة (أربطة) يفد إليها الطلبة من مسافات بعيدة في غرب المحمية ومن اليمن. أتذكر أنه حين مررت للمرة الأولى برباط تريم منذ مدة طويلة كان هناك شعور عنيف ضد التأثير المفسد، وأسرعوا بإغلاق الأبواب ومصاريع النوافذ بقوة. تصبح الحياة أكثر جمالا عندما يكف الأطفال والمتطفلون البالغون عن ملاحقتك وهم يهتفون: (نصراني). وعندما عدت إلى المكلا من الداخل في مارس عام 1937 حدث أن صرخ ولد صغير عندما رآني: (نصراني)، ولكن صديقه أعلمه على الفور بأن ما دعاني به غير صائب، إذ قال له: “هذا ليس (نصراني)، وإنما هو إنجرامس.”
إن آل تميم الذين ينتشرون لعدة أميال على الطريق إلى سيؤون ونزولًا مع مسار وادي المسيلة إلى ما بعد قسم، عاصمة آل تميم، هم قبيلة تابعة للقعيطي ولذلك فتريم والغرف يمثلان جزيرتين وسط بلادهم. وليس هناك بدو رحل في آل تميم، فجميعهم يعيشون في الوادي ومنهم من يهاجرون إلى شرق أفريقيا وجزر الهند الشرقية في الغالب. لكنهم مع ذلك قبيلة مفككة على نحو يثير الاستغراب إذ تتحارب فروعهم فيما بينها باستمرار غالبًا حول مشاكل متعلقة بالأراضي. وهذا الأمر يجعلهم على النقيض تماما من جيرانهم المناهيل الذين ينتمون إلى نفس حلف بني ظنّة. والمناهيل كلهم بدو ولكنهم متفقون تمامًا في اتّباع زعيمهم الشاب عيضة بن طنّاف، ذي الخمسة والعشرين ربيعا الذي يمتاز بكثير من حسن الخلق. لقد اعتقدت في البداية أن المناهيل لن ينضموا إلى الهدنة، ولكنهم جاءوا ووقعوا بعد أن امتنعوا لمدة يسيرة، ولم تبدر عنهم قط أدنى مشكلة، مع أن عيضة واجه صعوبة كبيرة في منعهم من الثأر من الصيعر، الأعداء المعتادين لدى معظم آل حضرموت.
إن رجال المناهيل والمهرة وتلك الفروع النائية من آل كثير الذين يسكنون وسط المهرة على حدود الصحراء يُنسبون إلى أمهاتهم وليس إلى آبائهم. والعادة عند العرب طبعا أن تكون أسماؤهم مثلًا على شاكلة حسن بن محمد، أما هؤلاء القوم فيقولون حسن بن مريم. وبالنسبة للمناهيل والحموم وبعض القبائل الأخرى فجميع الرجال على الإطلاق لا يتزوجون أكثر من امرأة واحدة، أما النساء وهن غير منقبات في بعض المناطق فإنهن يتمتعن بحرية مطلقة. وإذا أراد الرجل الزواج من امرأة تقدم إليها مباشرةً، لأن والدها لا يعُدّ هذا أمرا يخصه. ومهر الزوجة مرتفع جدًا، ولكنها تحضر معها كثيرا من المواشي.
لم أسافر برا لمسافة طويلة بطريق وادي المسيلة في الرحلة الماضية، مع أنه كانت قد وجهت لي دعوة للذهاب ضمن الحملة الدينية إلى قبر النبي هود. ولكن بما أنني لم يكن لديّ وقت لهذا النوع من السفر فقد اصطحبني السيد أبو بكر في أول رحلة دينية جوية، كما سمّاها، وكان الضريح الجميل في محيطه الخلاب والمزدحم بحشد استثنائي من الزوار مختلفا تماما عن آخر مرة رأيناه فيها أنا وزوجتي في غير موسم الزيارة عندما كنا مسافرين إلى سيحوت بطريق الوادي. وفي هذه المرة لاحظت أطلال بلدة قديمة على حافة الجول تماما فوق عينات، وأظن أن هذه هي الأطلال الوحيدة تقريبا التي تظهر بتلك الحالة في حضرموت.
ربما لا حاجة لقول المزيد عن مدن الوادي الكبيرة، تريم، وسيئون، وشبام أو عن الأراضي الخصبة الواقعة بينها التي تسعد كلها الآن بالأمان. كما أن نظام الخندق الشهير المرتبط بمدينة الغرفة لم يعد ساري المفعول الآن وانفتحت المدينة لحركة المرور بعد أن كانت السيارات تضطر للالتفاف حول أسوارها وتتعرض للخطر. لقد أصبح المكان كله مكسوًّا بخضرة المحاصيل المزروعة ، ففي العام الماضي كان هناك محصول قياسي من الدخن، وعندما غادرت المنطقة في أبريل كان محصول قياسي من الشعير يحصد.
تغيرت سيئون في بعض النواحي فقد أصبح لديها مدرج هبوط جديد مثل تريم لا يستخدمه فقط سلاح الجوة الملكي بل أيضًا الطائرات المدنية، وفي سيئون نفسها لديّ مكتب لأنني عينت مستشارا مقيما للسلطان الكثيري أيضا، وتوجد قوة عسكرية ألبست بزة رسمية مؤخرا تسمى الشرطة الكثيرية المسلحة ويتم تجنيد معظم أفرادها من عبيد السلطان. وأظن أنه معروف لدى الجميع الآن أن هؤلاء الذين يسمون بالعبيد هم في الواقع أكثر استقلالية بكثير من العديد من الرجال الأحرار، ولكن الذي ربما ليس معروفًا أنه بالاتفاق التام والتعاون الكامل بين السلاطين اتخذت تدابير لمنح الحرية لأي عبد يطلبها. وقد نقل محط الجمال من الفسحة التي أمام القصر وتجرى تحضيرات لإنشاء حديقة صغيرة محاطة برواق معمّد يستوعب مركز الشرطة ومكتب البريد ومستوصفا صغيرا.
لقد اكتمل الآن بناء منزل السيد بوبكر الذي كان يجري العمل فيه عندما قمنا بزيارة سيئون لأول مرة منذ ثلاث سنوات. وأظن أن تصميمه المعماري لم ينل استحسان الآنسة ستارك، كما ستخبركم هي بذلك من دون شك، ولكنه منزل مريح إلى أبعد حد، وقد شعرنا بغاية السعادة في المدة التي قضيناها فيه عندما كانت العائلة تعيش هناك. ولكن أسرة السيد بوبكر فضلت أن تقيم لبضعة أشهر في بيت آخر كبير يعد من المباني ذات الطراز القديم في المدينة. وعندما سكنت في بيت (دار السلام)، كما يطلقون عليه، في الوقت الذي كان يخلو من أهله أعطاني شعورًا مشابهًا إلى حد بعيد لما شعرنا به أنا وزوجتي ذات مرة عندما قضينا مدة قصيرة جدا بوصفنا النزيلين الوحيدين في فندق كبير جدا في بلجيكا في غير الموسم السياحي وهو ما يجعلني أفضل دائما النزول في البيت الآخر الذي يسكن فيه السيد بوبكر. لطالما شعر الكثير من الناس بدفء الضيافة الكريمة لهذا الرجل في البيت الجديد خلال العام الماضي، وخلال الصيف الحار الماضي كان أكثر ما يبعث السعادة في النفس البقاء غاطسين في حوض السباحة وقت المساء والاستماع إلى ألحان الأوركسترا الإمبراطورية لإذاعة (بي بي سي). في ذلك الوقت كانت البرامج العربية لهيئة الإذاعة البريطانية قد بدأت وأصبحت تحظى بشعبية كبيرة في جميع أنحاء حضرموت التي تضبط الآن ساعاتها على دقات ساعة بيج بن. بعد الانتهاء من الغطس يوضع العشاء على السجاد بجانب حوض السباحة. وفي هذه الموائد نادرًا ما يجلس المرء ضمن أقل من عشرين شخصا من ضيوف بيت السيد بوبكر وكثيرا جدا ما يصل العدد إلى الأربعين. ويبلغ متوسط الاستهلاك اليومي حوالي 30 إلى 40 رطلا من الأرز، وثلاث أو أربع دزينات من البيض، ونصف دزينة من الدجاج، ورأسا أو رأسين من الغنم، وعدة أرطال من الخضروات. كنا قد ذهبنا لحضور عرس ابنته، وفي أثناء مراسيم هذا الزواج تم إطعام ما يربو على خمسة آلاف فرد من الجنسين خلال ثلاثة أيام.
لقد كانت سيئون مقرنا الرئيسي في الوادي، ومنها كنت أنطلق دائما لزيارة جميع الأماكن المجاورة فأمكث في شبام والقطن وهينن وقعوضة وحريضة. وقبل الوصول إلى حريضة لا بد أن تتوقف أولا لتناول وجبة في ديار البقري، حيث الناس في غاية الكرم حتى إنهم، كما يقال، كانوا يطلقون أعيرة نارية على أولئك الذين يحاولون العبور بسياراتهم دون التوقف عندهم لتناول وجبة. وآل البقري ينتمون إلى نهد، وعلى الرغم من أنهم مستقرون الآن فهم ما يزالون أقرب إلى الطبيعة البدوية. وفي زيارتي الأولى، عرضوا علينا منزلًا واسعا فقط لو وافقنا على البقاء لكي نحكم البلاد، وفي ذلك الوقت عرفت أنهم استقدموا من جاوة طباخًا على أعلى مستوى كي يكرموا وفادة الأوروبيين كما يجب. فبقدر ما كان كرم الضيافة واللطف عظيما عند جميع قبائل نهد، كانت ولائم ديار البقري لا تقل في جمالها وتنوعها عن أي مكان في العالم يمكن أن تتخيله. وكانت أفكارهم حتى بالنسبة لوجبة شاي العصر بالغةً أقصى حد من الإسراف. لقد تناولته معهم ثلاث مرات وفي كل مرة كانوا يقدمون مع الشاي الكعك والعسل والحلوى والعديد من أنواع الفاكهة المعلبة والبسكويت الإنجليزي والحلويات المشبعة بالكريمة.
بعد ديار البقري عند دخولك وادي عمد ينتصب حصن صغير عليه حارس دائم التحديق إلى الأمام. وقد مضت مدة من الزمن قبل أن أكتشف أن الحارس كان دميةً، وهي عبارة عن كتلة من الطين ملفوفة بشكل فني بقطعة قماش سوداء، ولكن في الأشهر الأخيرة لاحظت أنه آل إلى التلف. وتمتد قبيلة نهد باتجاه مسار وادي عمد حتى تكاد تبلغ بلدة حريضة التي يتألف سكانها بالكامل من السادة عائلة آل العطاس وأتباعهم. وقد حللت بهذه المنطقة أيضًا عدة مرات، ويوجد بها الآن مدرج هبوط. ولا حاجة بي إلى الإطالة في الحديث عن حريضة لأنه منذ مدة وجيزة فقط كانت الآنسة ستارك والآنسة كيتون-ثومبسون والآنسة جاردنر يقضين فصل الشتاء بها. لكن هناك شيئا مثيرا للاهتمام مرتبطا بحريضة قد يبدو تافها إلى درجة أن يغفلن عن ملاحظته، وهو أن أحد المساجد به ساعتان ضخمتان، إحداهما قطرها ستة أقدام والأخرى ثلاثة أقدام. وهذه الأخيرة فقط هي التي تعمل وهما بالطبع على قمة المئذنة العالية، ولكنهما موضوعتان داخل المئذنة ولذلك لكي تعرف الوقت عليك أن تصعد ستين أو سبعين درجة.
توجد قبيلة الجعدة أعلى الوادي بعد حريضة. لم أسافر أعلى الوادي إلى أبعد من حريضة وكان ذلك سيرا على الأقدام، لكن زوجتي قامت بالرحلة على ظهر الجمل قبل ذهابي إلى هناك لإجراء مفاوضات الصلح. والوادي مكتظ بالسكان وتوجد به العديد من القرى الصغيرة التي كانت جميعها تقريبًا في حالة حرب فيما بينها في ذلك الوقت. وقد دونت زوجتي تفاصيل اثنين وثلاثين نزاعا كبيرا بين المناطق السكنية بل بين البيوت التي تفصل بينها ياردات قليلة. وكانت هناك شبكات خنادق شبيهة بتلك الموجودة في قعوضة، تؤدي إلى الحقول من المنازل، ولكن بسبب الأحوال المضطربة تضررت الزراعة كثيرا وعمت البلاد رغبة في السلام من أجل مواصلة العمل في الحقول.
كانت زوجتي برفقة السيد علوي العطاس وجميلة، وهي خادمة مخلصة للعائلة كانت خلال الرحلة رابضة في وضع غير مريح على ظهر جمل زوجتي بينما كانت تغني أغاني بدوية عن الحرب. وقد حفظت زوجتي بعضًا من هذه الأغاني وواصلتا المسير نحو أعالي الوادي وهما تغنيان معا. وكانت جميلة مرافقة مفيدة جدًا إلى جانب كونها مسلية، إذ أثبتت أنها ماشطة ممتازة ومدلكة ماهرة أيضًا. كان السيد علوي قد تزوج من قبيلية، لذلك نزلت المجموعة في زيلع في بيت صهره الذي هو أحد زعماء الجعدة الرئيسيين. وككثير من الجعيديين فإن مضيفهم كان قد سافر إلى جاوة، لكن العلامة الوحيدة على أسفاره كانت دراجة هوائية كان قد أحضرها معه وقال إنه يفضلها على البعير. وبعد زيلع مروا راكبين الجمال بالكثير من القرى الصغيرة حتى وصلوا إلى عناق التابعة لآل الشعيبي الذين يعتقد بأنهم يصيبون الناس بالعين، ولذلك فالناس يتجنبونهم قدر الإمكان. ورأى السيد علوي من باب أخذ الحيطة ألا يركب بعيره إلى أن يكونوا قد تجاوزوا القرية بمسافة كافية خوفًا من أن يسقط من على بعيره بفعل عين من أحد المعروفين بالحسد. ثم أمضوا ليلة في عمد التي تقع تقريبًا عند نهاية منطقة الجعدة، لأنه على مسافة أبعد قليلًا أعلى الوادي يوجد موطن قبيلة المضي. وجميع قرى الوادي متشابهة إلى حد بعيد ويوجد بها عدد قليل من المنازل ذات الثلاثة والأربعة الطوابق موزعة بين المنازل الأصغر، وتتوفر في معظمها خزانات متقنة البناء للاحتفاظ بمياه الأمطار. وتوجد على الأخص في الضفة اليسرى من الوادي العديد من المغارات المحفورة التي تستخدم الآن غالبا للسكنى ولخزن الحبوب. وتقول الآنسة كيتون تومبسون إن هذه المغارات ربما كانت كلها مقابر حميرية. وأظن أن بعض ساكني المغارات الذين قابلتهم قد أزعجهم قولها لهم إنهم يعيشون في مقابر. وإن العديد من أفراد عائلة العطاس الذين لهم سلطة كبيرة على الجعديين قد تم تقديسهم كما أن قبورهم المقببة تعد موضع تبجيل عند كثير من القرى. ولم يلاقِ مظهر زوجتي استنكارًا في عمد حيث قضت ليلةً مع مجموعة من النساء اللواتي قد زرن جاوة، وشاهدن من قبل نساءً أوروبيات. وقد جلبن معهن بعض التذكارات من رحلاتهن وقمن بتعليق زوج رخيص من النعال الأوروبية ذات الكعب العالي ليبهرن صديقاتهن اللاتي لم يسافرن، وكان يدفعهن لذلك نفس الروح التي تجعلنا نعلق التحف الشرقية على جدراننا.
ومشوا في طريق عودتهم من عمد باتجاه مصب الوادي متتبعين ضفته الشرقية ومروا بالكثير من الخرائب التي كان معظمها يستر الرعون المنخفضة البارزة في المنحدرات. وتوجد في حصن باقاسم أطلال تعرف بعدية قضاعة، والتي ربما توحي بأنها موقع لما كان ذات يوم المدينة الرئيسية في الوادي فقد كان يسمى قبل الإسلام وادي قضاعة. وبالقرب من قرية باتح الكبيرة أمضوا وقت النهار مع رجل تحدث إليهم عبر نافذةٍ من الطابق الثاني لبيته حيث كان لا يجسر على الخروج لأنه كان يخوض بمفرده حربًا مع جميع جيرانه. وطالب بالسلام كآخرين كثر تحدثت معهم زوجتي. وقال آخر: “إننا نريد السلام. لقد تعبنا من الحروب. يعمل الرجل في حقوله ثم يقع ميتًا فجأة، ما الجدوى من وراء ذلك؟” ثم أوقفهم آخر وقال: “إن بلادا بلا حكومة ليست بلادا. امنحونا سلامًا وحكومة مستقرة”.
وبالعودة إلى شبام، التي هي بالطبع أهم مدينة تابعة للقعيطي في الداخل، يوجد إلى الغرب منها بعد القطن وعند مفترق طرق وادي دوعن جماعة من اليافعيين، مع عدد قليل من الكثيريين ما زالوا باقين في أماكن مثل عجلانيا عند مفترق الطرق نفسه وكذلك في وادي عمد. وقد استقر هؤلاء اليافعيون في هذا المكان منذ عدة قرون، وذلك لأنه في زمن يعود إلى بداية القرن السادس عشر استقدم بدر بو طويرق السلطان الكثيري المشهور- الذي عثر السلطان الكثيري مؤخرا على درعه الحديدية وترسه في قصر سيئون- هؤلاء الجنود المرتزقة من اليافعيين ومن زيدية اليمن والأتراك. وبمرور الزمن تكونت السلالة القعيطية الحاكمة من هؤلاء المرتزقة وأصبحت هي القوة الرئيسية في البلاد. وقد كانت مدة استقرارهم هنا من الطول بحيث أصبحوا حضارم أصيلين، وكبقية القبائل الحضرمة فإنهم يؤيدون بشدة الترتيبات السلمية الحالية. ويُعرف هؤلاء اليافعيون المتوطّنون (بالتلد) لتمييزهم عن (الغريب)، وهم اليافعيون الدخلاء الذين ما زالوا يفدون من جبال يافع الواقعة في الجزء الغربي من المحمية ويخدمون لمدة قصيرة بوصفهم جنودا. و تظهر الجماعة التي تعادي السلام من بين هؤلاء اليافعيين المذكورين للتو، لأنهم من أكبر المرابين وقد كانوا على مدى فترة طويلة يعتمدون في كسب عيشهم على استغلال الطبقات الفقيرة؛ فهم يدركون أنه إذا توطد النظام الجيد والعدالة فلن يحصلوا على فرص مماثلة في المستقبل.
ربما تعد القطن أقصى منطقة في الغرب توجد بها زراعة واسعة النطاق. وكان من المشاهد الخلابة في مايو الماضي رؤية الوادي الواسع مكتسيًا باتساع عرضه بالخضرة من الطرف إلى الطرف. وخلف اليافعيين ناحية الغرب يسكن آل نهد الذين تمتد أراضيهم تقريبًا إلى العبر. ويعيشون كلهم في الوادي، وفي الجزء الشرقي من منطقتهم يوجد مستوطنون، أما في الجزء الغربي حيث تغطي الرمال معظم الأرض فيوجد البدو الذين يربون قطعان الأغنام. وعاصمة هؤلاء هي قعوضة حيث يعيش حكيم مبارك، وهو زعيم شيخ مظهره يجل عن الوصف وذو سمعة واسعة يحسد عليها في إقامة العدالة الحقيقية. وأبناء قبيلة نهد ذوو بنية قوية والأكبر سنا منهم، الذين يمثلون نسبة كبيرة، لهم بطون ضخمة وأصوات جهيرة. ومن آل نهد قمنا بتجنيد شبان ممتازين للحرس الشخصي الجديد للسطان القعيطي من حاملي الرماح على الجِمال، وهم يبدون بمظهر جميل للغاية في زيهم القرمزي والأزرق. لن أنسى أبدًا اليوم الذي وقع فيه آل نهد على معاهدة الصلح. لقد كانوا يعيشون في الخنادق وكانوا محبوسين في منازلهم لسنوات، ثم خرجوا جميعًا في وقت واحد والتأم شمل الكثيرين.