قصة قصيرة
صالح سعيد بحرق
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 28 .. ص 112
رابط العدد 28 : اضغط هنا
كنت في العاشرة من عمري، ألعب مع الصِّبية خلف البيت، فجأة ارتعشت عيني اليمنى، ولم تستقر في مكانها، ظلت تهتز اهتزازات متكررة، حتى ناداني أخي، فدخلت البيت مسرعًا، وتركت ما بيدي من أدوات اللعب، كانت أمي قد أخبرتني أن اهتزاز العين معناه أن هناك هدية لك تنتظرك، وبالفعل وجدتُ أمامي هدية ثمينة، عبارة عن حقيبة مدرسية، بداخلها مجموعة من الدفاتر، أرسلها لي أخي من عدن.
كنت فرحًا بهذه الحقيبة التي اختصرت لي العالم، وأرتْني حدود المعرفة الأولى، وأول شخص حدَّثْتُه عنها أمي، أذكر في ذلك اليوم، أنها كانت تُوقِدُ الحطب؛ لتجهز طعام الإفطار من الذرة الخالصة، وضعتْ تلك العيدان وسط التنُّور، وأضرمتْ فيها النار، فغطَّى اللهبُ وجهَها، فاحمرَّتْ جبهتُها، وأشفقْتُ عليها، فدلفت إلى الصالة، وقمْتُ بإخراج الدفاتر، وكان ورقُها من النوع الأصفر، وكانتْ سطورُها مرتَّبة، ولم يكنْ بها أي نُتوءات، ولم تكنْ متلاصقة، وكانت تتحرَّكُ مع دخول الرِّيح إلى الصالة، وقد رصَّت بطريقة عجيبة، ووُضِع عليها حاجزٌ من قماش، حتى لا تتضرَّر من المطر أو نحوه.
قالتْ لي أمي إنه ينبغي عليك منذ الآن، أن تكون فتًى صالحًا، وأنْ تُذَاكِرَ دُرُوسَك، كانتْ تقولُ ذلك بحماس، وهي تضعُ يدَها على كتفي.
لم تكنْ أمِّي تحدِّثُني كثيرًا، كانتْ تَمضِي غالبَ الوقتِ في العناية بالمنزل، وكان أبي يقضي غالب نهاره في المزرعة، وكانا يَطْمَحَانِ أنْ أَكُونَ طبيبًا، لقد سمعْتُ أبي يقولُ أكثرَ مِنْ مرَّة: كُنْ ولدًا صالحًا، لا تَهتَمُّ بشيءٍ سِوَى الدراسة، يومَ أنْ كُنْتُ في سِنِّكَ مَنَعُونِي من الالتحاق بالمدرسة، وأدْخَلُوا بَدَلًا منِّي ابْنَ السيِّدِ، أعْرِفُ أنَّهُ لمْ ينجحْ، لذلك عليك يا ابني بالمذاكرة.
كانتْ أُمِّي تُصْغِي إلى حديثِ أبي وتبتسم، كان أبي رجلًا قويًّا، كان لا يسمحُ لنا بالسَّهَر، ويقول: إنَّ ساعاتِ الإنسان في الدنيا معدودة، وعليه أنْ يُطِيعَ الله.
كان أبي عندما يُصَلِّي، يُطِيلُ الصَّلاة، ويَظَلُّ مُدَّاتٍ طويلًا واقفًا، وقد أشرقَ وجهُه، حيثُ كانتْ تَصِلُنِي هَمَسَاتُه وتضرُّعاتُه بصُورَةٍ واضحة، كان وجهُه مستطيلًا، يُغطِّى ذقنَه الشَّيْبُ، وتَبدُو عليه تلك المَهَابَةُ لكنَّهُ شَدِيدُ الغضب، ولا أستطيعُ أنْ أفسِّر لماذا يجمعُ بين هاتين الصفتين. أذكُرُ في أثناء جَنْيِ محصولِ التَّمْرِ أنَّهُ ضَرَبَنِي؛ لأنِّي لمْ أُحْضِرْ أدواتِ العمل، كانتْ أُمِّي تقفُ قُبَالَتِي ولمْ تستطعْ أنْ تمنعَه؛ لأنه كاد أنْ يطيح برأسها، لمْ أُشَاهِدْ أبي عنيفًا إلَّا في ذلك اليوم، كانتْ أوداجُه تنتفخُ، ويتطايَرُ من عينَيْهِ الشَّرَرُ، وهو يَصْعَدُ النخلةَ بِثَبَات، وكانَ صَوتُه أَجَشَّ، لقدْ جنيْنا تمرًا كثيرًا، وفي البيت قام أبي بتقسيم التمرِ إلى أكوام، وأعطى منه للفقراء، وقال: الرحمة ومساعدة الفقراء مطلوبة، لا تدَّخرْ كُلَّ المالِ لك وحدك، أكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وتصدَّقْ. كانَ يقولُ ذلك عندما يكون في غاية السرور.
كُنْتُ قد تركْتُ الصِّبْيَةَ يلعبون خلفَ البيت، وقد التحقَ بهم أخي، سلَّمْتُ الحقيبةَ لأمي، وقالت لي بِضْعَ كلمات: اسمعْ كلامَ والدِكَ، ذَاكِرْ دُرُوسَكَ، ونَمْ مُبَكِّرًا.
وأنا أُغلِقُ الباب خلفي شاهدْتُ أبي بقامته الفارعة، كان أخي قد عادَ من اللعب، قال لنا أبي: لا تنسَوُا الذَّهَابَ الى المسجد، سَأُوْجِعُ ظُهُورَكُمْ بهذي العَصَا، لمْ نَأْتِ إلى هذه الدنيا لنلعب.. أكْثِرُوا مِنْ ذِكرِ الله. ودخلَ حُجرةَ جُلُوسِهِ، جلسَ على السَّرير، وأبعدَ قلنسوتَه (كوفيَّته) عن رأسه، وتسنَّى لي أرى بياضَ ذِرَاعَيْهِ، والبُثُورَ التي على وجهه.. كان هادئًا، ينظر إلى نافذتنا الوحيدة، التي تشرُفُ على المزارع، ويدخل منها هواءُ الصَّبَاحِ العَلِيل، ويتسنَّى لوالدي أنْ ينظرَ إلى أعْوَادِ الذُّرَةِ المُتَمَايِلَة، ويقولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزقًا مُبَارَكًا، ثُمَّ يذهبُ في نوم القيلولة، ويَسُودُ منزلَنا الهُدُوءُ، فأُطِلُّ على حقيبتي من جديد، وأحْتَضِنُها، رَاسِمًا بداياتِ مستقبلي.
كُنْتُ أقِفُ على حَوْضِ الماء، والمياهُ تجري في وسطِه، وتتدافَعُ معَهَا أحلامي الصغيرة، كان لابُدَّ لي أنْ أُحَقِّقَ وصيَّةَ أُمِّي، وأنْ أَكُونَ فَتًى صالحًا، فذهبْتُ إلى أخي، وكان نائمًا، فأيْـقَظْتُـه، وخرجْنا معًا إلى بَاحَةِ المسجد، قال أخي أظنُّها سَتُمطِرُ، وما إنْ شرعْنا في الصلاة، حتَّى هطلَ المطرُ، ولمْ نستطع الخُرُوجَ من المسجد، كانتِ الطريقُ مَلِيئَةً بالوَّحل، والمزاريبُ تسكبُ الماء، لقد كان يُعْجِبُنِي إلى أبعدِ الحدود صَوتُ المطر، مشيْنا بِاتِّجَاهِ جِدَارِ المدرسة، وتذكَّرْتُ أمي عندما تقومُ بفَتحِ مَسَارِبِ المِيَاهِ، لِتَخرُجَ خارج فناء البيت (الحوش)، لم يكن بالشارع مِنْ أحدٍ إلا الأطفال، لكنَّ أبي لمْ يَدَعْنَا نلعبُ معهم، وقد اشتدَّ في هذه الساعة هُطُولُ المطر، واحتميْتُ بأخي إلى أنْ وصلْنا المنزل.
فدلفْتُ إلى حُجْرَتِي، وبحثْتُ عن حقيبتي، فوجدْتُها قدِ ابْـتَـلَّـتْ من المطر.