حديث البداية
د. عبدالقادر باعيسى - رئيس التحرير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 30 .. ص 3
رابط العدد 30 : اضغط هنا
في وسائل التواصل الاجتماعي ينطلق كل من الموقف الذي يراه في فضاء مفتوح تنعدم فيه الموضعة المركزية أو الأساسية لأي مشروع أو اتجاه، فكل يقرأ في مساحات واسعة متنوعة ومتقاطعة من الكلام، وكل يكتب وفق الطريقة التي تحلو له، فهذه الوسائل (وسائل التواصل الاجتماعي) وسائل قراءة وكتابة، وهذه ميزتها وإشكاليتها في الوقت نفسه، يكتب كل فيها بلغته الخاصة بدءاً من اللغة الفصحى إلى الفصيحة إلى اللهجات العامية إلى أساليب لا يمكن نسبها إلى أي لهجة أو لغة، فلا يفهم سوى الشكل الظاهري للكلمات أشبه بالكلمات المتقاطعة التي لا يربطها معنى متماسك، وما يحدث مع الآخرـ المخاطب هو نوع من المقاربة البعيدة، ومن ثم نكون بمواجهة أبعاد أشد من الأبعاد الدراماتيكية، فلا يجد القارئ في تلك الكتابات السريعة والمضطربة كلاماً شافياً وعميقاً، ولا مؤصلاً مجذراً، فلغة الكاتب ممزقة ولغة الآخر المحاور له ممزقة أيضاً، ومن ثم لا مجال للتواصل بينهما.
نحن إذا أمام حال من الصمت الناطق، وإذا ما اتسقت فكرة معينة بين مجموعة من المسهمين، وأخذت تتنامى دخل عليها من يقلبها رأساً على عقب، ويجد له العشرات من المؤيدين، فلا تتسق الفكرة إلى النهاية بقدر ما يتسق الاضطراب، فيدورون حول المعرفة كما يدور الوثنيون حول الصنم لا يفقههم، ويرون أنهم واعون بما يقولون، وأنه يفهمهم، فأغلب ما لدينا في وسائل التواصل الاجتماعي هو على هذا الشكل التواصلي، من غير أن يكون معروفاً على أي طريقة من طرق التواصل، فهو تواصل انعزالي حتى لو كان في إطار مجموعة واحدة.
ومسألة القراءة والكتابة مسألة في غاية التعقيد، وبما أن الإرسال متعدد الاتجاهات يضطرب الأمر على القارئ الخالي الذهن كما يقول القدماء، فلا يعرف كيف يتكون ثقافياً، ومن ثم يصعب عليه التواصل ثقافيا بثقة تامة، فيظل رهين الاتجاهات جميعاً، أو بينها، ومن هنا ينشأ الاختلاف الشديد بينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخرين، ويريد مع هذا أن يظل متميزاً بينهم فلا يستطيع، ويغدو تأثيره ضعيفاً في أي اتجاه ذهب، ومن الطبيعي أن يطير من ذهنه -في هذه الحالة- وضع التفكير العميق فضلاً عن الدخول في مناقشة القضايا المعقدة التي تقوم على دراية، ومتابعة مستمرة، وتأمل.