أضواء
د. أحمد هادي باحارثة
يُـعَدُّ هذا الاتجاهُ هو أبرزُ ما كَتَبَ عنه محمَّدٌ بْنُ هاشمٍ، وسطَّرَ المقالاتِ لأجله، وهو المحرِّك الأساسُ لعامَّة مقالات هذا الرجل الغيور على وطنه الحضرمي، في كلِّ موضوع يكتُبه، وإذا وقفْنا على مقالاته التي يتناولُ فيها الوطنَ والوطنيَّةَ نجُده يوزِّعُ أفكارَهُ بينَ كُلِّ ما يؤدِّي إلى إيضاح مفهومها، والدعوة إليها، وبيان أهميَّتها، وموقف الحضارم منها ومن وطنهم الحضرمي، كما يُنْبِئُ عنه لسانُ حالهم قبل مقالهم، ففي ماهية الوطنية يقولُ ابن هاشم:
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 30 .. ص 25
رابط العدد 30 : اضغط هنا
“الوطنية شواظ ملتهب من نيران الغيرة على الوطن، يرسل على أفئدة قوم يندفعون إلى إيصال أوطانهم بكل وسيلة إلى مستوى المثل العليا للمدنية والرفاهية”([1]).
ويتناول بروزها التاريخي كفكرة عالميًا وعروبيًا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث يقول: “الوطنية هي قومية عنيدة، بلغتْ أشُدَّ أدوارها لدى الأمم الحيَّة منذ الحرب العمومية”([2])، وإنَّ “الوطنية بمعناها العصري لم تَكُ إلَّا شُعَاعًا من أشعَّـةِ رُوحِ العصر، التي لم تُعهَدْ في الشرق، قبلَ بُـزُوغِ القرنِ الرابعَ عشرَ الهجري”([3])، ثم يفيد بأنَّ “العربَ لم تكنْ لهم قاطبة وطنيَّةٌ بالمعنى العصري، إلَّا بعدَ مشاهدة وَيْلَاتِ الحربِ العامَّةِ الكُبْرَى، والجُثَثِ المكدَّسة تحتَ رَايَاتِ حُبِّ الأوطان” ([4]).
ثم يتَّجِهُ ابْنُ هاشمٍ إلى إظهار أهمية الوطنية، ومكانتها، ودورها الإيجابي في نهوض الشعوب، وقوة البلدان، فنراهُ يقول: “تبتدئ حياة الأمم والشعوب بنفخ الروح الوطنية في نفوس أفرادها”([5])، وبوضوحٍ أكبر يرى بأنَّ “الوطنية روح بها مناط وجودنا، وعليها قوام حياتنا، ومنها تنبجسُ عيونُ مجدِنا، وعنها تصدرُ قُوَّةُ مركزِنا”([6]).
لكنْ ما هو موقفُ الحضارمِ من تلك الوطنية، وكيفَ يفهمونَها، وهلْ يتمثَّلُونَها في حياتهم وسلوكهم نحو وطنهم؟! يرى ابْنُ هاشم أنَّ الحضارم لم يستوعبوا بعدُ مفهومَ الوطنية، ولمْ يُدرِكُوا مدى أهمية الشعور الوطني، حيث يقول:
“الوطنية لفظٌ لا يزال لدى الجمهور مِنَّا خميصًا من المعنى، لا تعرفُه المعاجم، ولا تقبلُه الأذهان، ولا يحسبُ إلا أنَّه قرقعةٌ هوجاءُ تَخْدِشُ الآذان، وتَشْغَلُ اللِّسان، وتُضِيعُ الوقتَ سُدًى”([7]).
ومن مظاهر عدم استيعابها خلطهم بين الوطنية والسياسة، فيرشدهم للفصل والتفريق بينهما، فيقول: “يحسب بعض الناس أن اتجاه الوطنية إنما يكون دائمًا وأبدًا نحو الوجهة السياسية فقط… إن هذا الحسبان لبعيد كل البعد عن الصحة والحقيقة… بل الأمر أجل من ذلك وأوسع، فإن الذين أفادو أوطانهم من رجال العلم والصناعة والاقتصاد… ليعدون من أبطال الوطنية وأقطابها”([8]).
ثم ينعى ابن هاشم على الحضارم سلوكًا إنسانيًا شاذًا، هو موقفهم السلبي من وطنهم حضرموت، جهلاً بمكانته، واحتقارًا لشأنه، فيقول:
“أنَّـى للشعب أن يحيا الحياة الطيبة، وينال المركز المرْضي بين الشعوب، ويدرك ما يؤمله من فخر وشرف، وهو يجهل مقره، ويحتقر وطنه… ولا يدري بأنه له بقعة هو مكلف بتحديدها وتأييدها، وتعميرها وتثميرها؛ لئلا يهمل ما منحته الطبيعة، وينبذ ما احتفظ به أجداده الكرام”([9]).
وينعى عليهم انشغالهم بتحسين أوضاعهم الخاصة ببلد المهجر، وإهمال الوطن الذي يمثل خط رجعة لهم لدى عودتهم إليه اختيارًا أو قسرًا، يقول:
“من الغريب أن يبقى الحضرمي الذي وهبه الله الذكاء الخارق، والهمة الفائقة، ما زاحم جميع الطوائف بهذه البقاع في التجارة وكسب المال… أن يبقى متغاضيًا عن مركز سعادته، ومصدر حياته، وهو وطنه الذي ينتسب إليه”([10]).
لا بل إنهم يتبرعون بإهانته أمام سائر الأقوام، كلما جاء حديث عنه، يقول:
“تراهم عندما يذكر موطن أجدادهم، ومهد أسلافهم، غير مكتفين فقط بالإعراض وعدم الاكتراث، ولكنهم يشفعون كل هذا بكلح الوجه، وقارص التهكم، والاكفهرار الذي لا ينبئ إلا عن خور في الطبيعة، ولؤم في النفس، واعوجاج في التربية”([11]).
ثم يقول في إشفاق وتحسر على تلك الحالة المزرية بين الوطن الحضرمي ومواطنيه: “أي وطن ليت شعري يقاسي من أهليه وبني تربته ما يقاسيه وطننا، وأي شعب يكابد من مواطنيه وبني جلدته ما يكابده شعبنا”([12]).
وابن هاشم هنا لكأنه ينثر قول نظيره الشاعر صالح الحامد حيث يقول([13]):
آه على وطن تأصــــل داؤه ** وبنوه أصل وبائه ووباله
وذلك الاحتقار والاستخفاف أمر ممتد إلى حاضرنا، وما زالت حضرموت تعاني منه من قبل أبنائها، حتى من بعض المعدودين في نخبها، وتعود إليه النكبات الحديثة التي تعاقبت عليها، سواء ما أصاب من بداخلها بفقدانهم لسيادتهم وقرارهم، أو مَنْ بخارجها ممَّن فقد ماله، أو فقد هُوِيَّـتَـه، وذلك يعود كما قال ابن هاشم لاعوجاج في التربية، وهي التربية التي كان الولاء الوطني أولًا، والمعرفة بالأرض الحضرمية ثانيًا، غائبًا عن مقرراتها، وهو ما لاحظه المؤرِّخ صلاح عبد القادر البكري لدى زيارته حضرموت في منتصف الأربعينيات من القرن المنصرم، فقال:
“ليس للتاريخ القومي والجغرافيا المحلية عناية تذكر، وهذا يرجع إلى عدم وجود كتب في هاتين المادتين”([14]).
ثم قال متوجِّسًا:
“منهج التعليم المعمول به في مدارس الدولة القعيطية هو منهج السودان، وهو في مجموعه لا يتماشى مع حاجات البيئة الحضرمية، وعلماء التربية في كل الدنيا، قالوا: إنه عند وضع أي منهج للتعليم يجب أن يراعى فيه الاحتفاظ بالطابع القومي، وأخطر شيء أن نكون مقلِّدين، نأخذ منهج التعليم بدقة من غيرنا، ونطبِّقه على مدارسنا؛ فلكل أمة خصائصها، وما يصلح لفرنسا لا يصلح لإنجلترا، وما يصلح لمصر لا يصلح للشام، وما يصلح للسودان لا يصلح لحضرموت؛ لذا يجب أن يتماشى المنهج مع الظروف الاجتماعية، والخصائص القومية، والاستعدادات العقلية، لأبناء الوطن”([15]).
وهي ملاحظة صائبة مبكرة من البكري، لكن لم تراعها تلك الدولة، ولم تستدركها إلا متأخرةً؛ إذ سرعان ما ضاعتْ حضرموت الوطن على يد خريجي ذلك المنهج السوداني، فصبغوا حاضرها بالسواد.
ثم يواجه ابن هاشم حجج الإعراض عن الوطن وامتهانه لدى هؤلاء، ويناقشهم في مدى صوابها، وتتمثل في عمومها فيما يرونه من طبيعة حضرموت المجدبة القاحلة، أو في حالتها العامة المتَّسمة بعدم الاستقرار والأمان، وفي تفشي الجهل والفاقة، فيقول:
“لم يك موقع وطننا الجغرافي أو الطبيعي، ولا ما هو حالٌّ به الآن من الخراب الفوضوي كافيًا ولا مُسَوَّغًا لتبرير ما يأتيه دعاة اللا وطنية من النظر إلى مسقط رؤوسهم ورؤوس آبائهم نظرًا سيئًا” ([16]).
ويقول:
“لا يهولَنَّ مواطنينا ما هو أمامهم اليوم من جدب الوطن، وخراب أطرافه، وقلة سكانه، والجهل المخيم على جوه، فإن هذا كله لم يكن إلا أعراضًا مفارقة تشتتها همم الرجال”([17]).
ويبدو أنه اتضح لابن هاشم العلوي لاحقًا أنه كان مثل جده – قبل هجرته – يخاطب أشباه الرجال، ولا رجال.
ويرى ابن هاشم أن أهم معالجة لأحوال حضرموت السيئة تكمنُ في اتحاد مختلف الفئات والشرائح في الوطن، وتضامنها، وتكامل جهودها، وتبادل أدوارها، فيقول:
“التضامن الوطني هو الطلسم الوحيد لتحقيق تلك الأماني الحلوة، والأحلام اللذيذة”([18]).
ومن ثم يشرع في الدعوة إلى ذلك الاتحاد والتضامن، موجِّهًا نداءَه للشرائح الفاعلة كلِّها في الوطن، فيقول:
“أي بني حضرموت الكرام من سادة، وقبائل، ومشايخ، هبوا حفظكم الله لتوطيد عرى الرابطة الوطنية بينكم، وأحبوا ما بقيتم بعضكم بعضًا”([19]).
ونرى ابن هاشم يكرر هذه الدعوة للتضامن والعمل لأجل الوطن في أبيات من شعره، فيقول([20]):
وما قطرنا إلا بنـــا إن نقــــــــــــم به يعمر وإن نقعـــــــــــــد به يتحطم
لنعمـــــــــــــــل إذا قلـــنا وإلا فإنها ستمضي بنا أعمارنا في التكلم
وما القول دون الفعل إلا إساءة إلى هيئة الكون البديع المنظم
لكنهَّ كثيرًا ما يلاقي صدودًا عن تلك الدعوة، ولاسيما ممَّن يصفهم بالأنانية والجمود، فيعود ليقول:
“نحن معاشر الحضارمة أحوج الناس إلى أخلاق فاضلة تلاشي الأضغان، وتريح الخواطر، وتزيل الوحشة، وترفعنا إلى مصاف تلك الشعوب التي أنهلت من جامات الإخاء، وتبادلت كؤوس الصفاء، ولم تُمنَ بأفراد من بنيها يفككون عراها، ويعكرون صفوها، ويفرقون أجزاءها، ويعرقلون مساعي أحرارها بما أوتوه من الأنانية، وجبلوا عليه من الجمود، ثم هم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا”([21]).
كذلك أشار في مقالات عدَّة إلى إمكانات حضرموت، وجهود أبنائها، في مجالات متعددة، اقتصادية، وصناعية متنوعة، طرقَها وتناولها داعيًا إلى الاعتزاز بها، والتمسك باستمرارها والحث على تطويرها([22]).
[1] مختارات من كتابات ابن هاشم 122
[2] نفسه 123
[3] نفسه 122
[4] نفسه 123
[5] نفسه 117
[6] نفسه 120
[7] نفسه 119
[8] نفسه 123
[9] نفسه 117
[10] نفسه 118
[11] نفسه
[12] نفسه 129
[13] ليالي المصيف، الأعمال الكاملة 149
[14] في جنوب الجزيرة العربية، صلاح عبد القادر البكري، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2004، 281
[15] نفسه 285
[16] مختارات من كتابات ابن هاشم 118
[17] نفسه 120
[18] نفسه 119
[19] نفسه 119
[20] نفسه 298
[21] نفسه 127
[22] نفسه 65، 67، 69