أضواء
د. أبوبكر حسين مقيبل
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 30 .. ص 29
رابط العدد 30 : اضغط هنا
عرفنا في العدد السابق من مجلة حضرموت الثقافية الحديث عن الفلبين والوجود الحضرمي فيها مع بعض الروايات لانتشار الإسلام فيها، وفي هذا العدد نقف عند الأشخاص الذين أوصلوا الإسلام إليها، والطريقة التي بها نشروا الإسلام، ثم الوقوف على المعالم الإسلامية وأبرز الدعاة.
لعل أبرز ما يميز رجال الدعوة في حضرموت حب السفر والترحال، فقد استأذن إبراهيم أسمارا أباه بالسفر إلى أرض ( سلندوغ )([1]) البعيدة الواقعة في جزائر فيلفين،فأذن له وأرسل معه عددًا من المسلمين؛ ليكونوا عونًا له في رحلته تلك. وأبحر إبراهيم أسمارا باتجاه الشرق، ودامت رحلته حوالي الشهر، تعرضت فيه للأعاصير والأمطار الغزيرة التي كادت أن تودي بها وبركابها، وتمزقت أشرعتها، فصارت سرعتها أقل، والقدرة على التحكم بها أصعب، ولولا مهارة الأدلاء الجمقاويين([2]) لتاهت السفينة في البحار الهائجة، ولم يعد منها مخبر، واستطاع ربان السفينة الرسو في شاطئ جميل خصيب، مليئة أطرافه بالغابات والجبال وأمواجه خفيفة.
واستقبل سكان الشاطئ السفينة بزوارقهم الصغيرة السريعة، التي رافقت إبراهيم أسمارا والبحارة الذين ركبوا أيضًا مركبًا صغيرًا حتى الشاطئ. وسأل إبراهيم الناس عن اسم الشاطئ؟ فقالوا له: هذه المنطقة اسمها ( فولانغي )، واسم الشاطئ هو ( مينداناو). وفوجئ الزوَّار بأن الناس ليس لهم أمير يحكمهم، بل هم قبائل تتعاطى التجارة مع السفن التي تزورهم من حين لآخر. وقد تأثر أفراد تلك القبائل بمنظر الزوار، وبشكل ملابسهم ودماثتهم، فأخذوا يتقربون منهم كثيرًا، ويمعنون النظر إليهم وهم يؤدون صلاتهم جماعة. وكانوا يسألون عن معنى تلك الحركات التي يؤديها المسلمون في صلاتهم فيجيبهم الضيوف برحابة صدر ويشرحون لهم تعاليم الدين الإسلامي بإفاضة. فازداد إعجاب الناس بالمسلمين لِما رأوه من حسن تعاملهم التجاري معهم وعدم غشهم لهم، حتى إذا مرت فترة من إقامتهم هناك فوجئ إبراهيم أسمارا بوفد كبير من السكان يقدمون عليه ويشهرون إسلامهم. ففرح المسلمون كثيرًا وصاروا يلقِّـنون أهالي (فولانغي) أهم التعاليم الدينية الإسلامية. ولكي يكتمل التعارف، تزوج إبراهيم بفتاة مـــــن المسلمين الجدد، هـــي ابنة رئيس القبيلة الكبيرة فـي (فولانغي)، وأقـــــام فــــــي البلاد حـــــــــوالي السنة، رُزِقَ خلالها ببنت أسماهــــــا(فراميسوليparamisuli )([3])، تزوجها بعد ذلك الشريف (ماراجا)، فرُزِق منها (تابوناوي)، و(ممالو) الذي كان فيما بعد رئيسًا في (مقيندانو) زمن مجيء كبونغسوان([4]).
وفي أثناء الهجرات الحضرمية إلى الشرق الآسيوي، وصلت سفينة عربية من حضرموت إلى جوهور([5])، ونزل منها مسافر يرتدي الملابس العربية التقليدية، ومعه حاشية من الأصحاب والبحارة. فبعث صاحب المرفأ بأوصاف المسافر إلى السلطان إسكندر شاه، الذي أمر فورًا بإنزاله في ضيافته. وسأله عن اسمه؟ فقال: أنا الشريف زين العابدين بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن علوي بن علي بن محمد بن علوي بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عيسى بن محمد بن علي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه([6])، فقرَّبه منه السلطان، فقويت الصِلات بينهم إلى درجة أن السلطان إسكندر زوج ابنته (جاسول آسقين) لضيفه، فأنجبت له من الأبناء أحمد وعليًا ومحمد الأكبر، والذي لقبه الأبوان باسم ملايوي هو: ( كابونغسوان, Kabungsua ).
ولما بلغ محمد كابونسوان أشده، فاتح أباه برغبته في الإبحار، ونشر الإسلام في الجزر البعيدة المنتشرة بين جوهور والصين، فبارك الشريف رغبة ابنه تلك، فأبحر كابونسوان مع شقيقيه علي وأحمد في سفن عدَّةٍ، مصطحبين معهم عائلاتهم وأولادهم ومرافقيهم([7])، ولما وصلت السفن إلى عرض البحر أطلقت أشرعتها للرياح القوية التي هبَّت من الشمال محمَّلة بالأمطار الغزيرة، فتحوَّلت الرياح المرافقة للأمطار إلى عاصفة بحرية، فرَّقت السفن عن بعضها، ودفعت كلًا منها في اتجا،, فلم يعد أحد منهم يعلم بحال الآخر. وما إن هدأت العاصفة حتى وجد الأخ الأكبر أحمد نفسه في بروناي وشقيقه الأصغر في (سولو Sulu)، التي تقع في الجزء الجنوبي مــن الفلبين، وكـــــابونسوان فـــــي (مينداناو Mindanau) وبموضع هـــــــادئ يسمـــــــى (ناتوبكن) عند مخرج نهر (ريوكرند)، حيث كـــــــــــان هناك صيــــــــادون يصطادون السمك بشباكهم، فأسرع الصيادون يعلمون رئيسهم بخبر وصول السفينة، فجمع هؤلاء أهل البلاد، وذهبوا إلى الشاطئ يلوحون للركاب، ويلتمسون منهم النزول على البر، فنزل محمد كابونسوان وبعض مرافقيه مــــن السفينة وتوجهوا بزورق صغير إلى اليابسة، ولمَّا رستْ أقدامهم على البر تقدَّم إليهم وجيهان من وجهاء المنطقة يحيونهم، وعقدت الدهشة لسان كابونسوان، الذي يعرف اللغة العربية، ويتكلَّمها عندما لاحظ أن الأكبر بين الوجيهين يستخدم بعض المفردات العربية، ولمَّا سأله عن اسمه؟ قال: (أنا ممالو، رئيس المنطقة، وهذا أخي تابوناي، ونحن ابنا الشريف (ماراجا)، وهو تاجر عربي يدعى إبراهيم بن جمال الدين الحسين، الذي جاء من جمقا، ونشر الإسلام في ربوع تلك المناطق منذ زمن بعيد، وأضاف الوجيهان قائلين أنهما رئيسا سكـــــان تلك المنطقة الذين يقـــــــال لهم شعب (سامل)، ويعملان في خدمة الملك (راجابكيندا Raja Baginda)([8])، وهو ملك تلك الجزر. ترقرقت الدموع في عيني كابونسوان، وطلب أن يصلي ركعتين شكرًا لله تعالى على مشيئته، بأن تحمل العاصفة سفينته إلى منطقة سبقه إليها أجداده من التجار والدعاة المسلمين العرب. وبعد ذلك نزل ركاب السفينة جميعهم إلـــى اليابسة، وانتشروا بين السكان المحليين المسلمين، ثم عمدوا خلال الأشهر التالية إلـــى زيارة القرى المحيطة واحدة بعد الأخرى، وكلما جاؤوا قرية جمعوا أهلها ودعوهم إلــــــى الإسلام حتــــى دخل الإسلام قلوب السكان الوثنيين جميعـًــا من (مينداناو) وإلى (تيتوندن)، أي إن قرى (مانفي) و(سلانفين) و(كايتون) وجزائر (سيبو) و (سولو) و(كوتـا بهارو) و(شمبــــــاو) و(بمنونغن) و(باقمبين) و(اسنــــــــا) و(بوايان) و(باسيلان) و(سيبوكي) و(سارانغاي) وبحيرة (دابو) قد أصبحت كلها مناطق إسلامية([9])، ولكل منها مسجد كبير (جامع). وأما من رفض من سكان القرى الأخرى أن يسلم فقد وجب عليه دفع الجزية. وأحاط الملك المسلم (راجا بكيندا) محمد كابونسوان وصحبه بكل رعاية، وصار الناس يطلقون على الضيف لقب الشريف([10])، تعظيمًا لنسبه واحترامًا لمقامه. وتزوج الشريف كابونسوان (فوتري يونيتا (putri yunita حفيدة شريف أولياء، الذي كان أول من قدم بالإسلام على تلك الجزر. ونظرًا للنسب الشريف الذي يحمله كانونسوان والملك راجا بكيندا، فقد تدارس الاثنان كيفية حفظ النسب من الضياع، فوجدا أنَّ أسلم طريقة وضعُ ألقاب يحترمها الناس، وتحفظ لكل شخص مرتبته الاجتماعية والدينية. وهكذا فقد أصدر راجا بكيندا أمرًا بأن تكون الألقاب كالآتي:
1-لقب ( داتو): ويطلق على الوزراء
2-لقب ( مشايكا): أو ( تاكيماها) ويطلق على الشيوخ
3-لقب ( أورانكايا): ويطلق على الرؤساء الثانويين في القبائل
4-لقب( السيد الشريف): ويطلق على أولئك المنحدرين من ذرية السادة الأشراف العترة النبوية الشريفة([11]).
أما علي أخو محمد كابونسوان فقد رست سفينته في (سولو سنداكن)، ووجد فيها مسلمين بأعداد كبيرة، يحكمهم ملك مسلم من أصل البلاد، رحب بالقادمين الجدد، وقدَّم لهم كل التسهيلات اللازمة للإقامة معه في الجزيرة، وعلى غرار شقيقه سرعان ما نشط الشريف علي في التوغل في القرى البعيدة لنشر الإسلام فيها، فوُفِّق في دعوته توفيقًا كبيرًا، ودخلت قبائل وثنية بأكملها في الدين الإسلامي([12]).
ولما توفي زين العابدين كان إلى جواره ابنه أبوبكر([13])، الذي تسلم رئاسة أنشطة الدعوة الإسلامية، فأراد زيارة إخوته الثلاثة في مينداناو وبروناي وسولو سنداكن، خاصة بعد ورود أخبار مقلقة بأن أخاه عليًّا مريض في سولو. ولما وصل الشريف أبوبكر إلى سولو سنداكن، حيث كانت إقامته فيها من سنة 854هـــ إلى سنة 885هـــ الموافق لسنة 1450م إلى سنة 1480م([14])، أرسل إليه السلطان (راجا بكيندا) يدعوه للمجــــــيء فورًا؛ لأن شقيقه علــي زين العابدين قد توفي. فاستقبلـــه (راج بكيندا) خير استقبال، وسرعان ما زوَّجه ابنته الوحيدة (فراميسولي)، فعيَّنه رئيسًا للقضاة، وإمامًا في المسجد الجامع. وكان السلطان قد طعن في السن ولم يترك وارثًـا ذكرًا يخلفه، فعيَّن الشريف أبا بكر وليًّـا للعهد. ولما توفي السلطان اعتلى الشريف أبوبكر عرش سولو وباوانسا وسنداكن، وصار الناس ينادونه بلقب “فدوكا مها ساري مولانا سلطان شريف الهاشمي”([15]).
فصارت كلمتا محمد كابونغسوان وأبوبكر عند الناس كلمتين مقدَّستين، تلهج بهما ألسنتهم في الدعاء والصلاة، وكان أول قرار للسلطان أبي بكر هو إنشاء مسجد جامع كبير أسماه (عنوان الإسلام)، ثم التفت إلى تدبير أمور الدولة، فآلى على نفسه أن يشكل حكومة على غرار ما كان يطمح إليه أجداده العرب الأشراف([16]).
فنظَّم القوة العسكرية لأهل جزر صولو من أشد الرجال، وكثَّر الدعاة، وانتشر الإسلام، فتكونت إمارات وسلطنات إسلامية هناك، أهمها:
1-إمارة صولو الإسلامية، وقد شملت أرخبيل صولو وجزيرة باسيلان وبالوان وبعض الجزر المجاورة، وقد أسسها الأمير رياباجندار الذي جاء من سومطرة إلى مندناو وباسيلان، ثم استوطن صولو. وكانت أول سلطنة إسلامية.
2- إمارة ماجيندناو- وجمعت جزيرة مندناو، التي فيها أكبر تجمع إسلامي، وما حولها.
3- إمارة مانيلا – عاصمة الفلبين الحالية – في لوزون وما جاورها من مناطق.
4- إمارات إسلامية صغيرة تابعة للإمارات السابقة أو منفصلة عنها([17]).
وقد حكمت العائلة التي أسسها السلطان الشريف أبوبكر بأيدٍ قوية، وازدادت قوةً وشهرةً، وعزَّز التدبير والنظام الإسلامي وأحكامه وأوامره الشرعية والإدارية متانة مــركز البـــلاد، ونشر نفوذهــا، حتى بلغ نفوذهم إلى الجزيرة الكبيرة (سلدوغ) وجزائر (بيسايان) وبحر السيلي وفالاوان وشمال بورنيو وبحر الصين. وامتدت تجارتهم وأبحرت مراكبهم في الأنحاء المذكورة إلى بلاد الصين واليابان من الشمال. ومن الناحية الغربية إلى ملقا وسومطرة وإلى جاوا وما والاها، ومن الجنوب والشرق إلى الجزائر (الملوك وهالماهيرا وجزائر السيلي وفوافوا واصطفوان)([18]).
مات هذا الرجل العظيم حوالي سنة 885هـــ/ 1480م، بعد أن قضى ثلاثين سنة في سولو. وبعد أن توفي السيد أبوبكر تولًّى الشريف محمد كبونغسوان ابن زين العابدين من سلالة عربية حضرمية وصل إلى سولو عام 1474هـــ، ونشر الاسلام في ميندانو وكوتاباتو ولانا([19])، وخلال فترة حكمه ومع أوائل القرن العاشر الهجري وصل البرتغاليون إلى أرخبيل الملايو، بدوافع صليبية محضة مغلَّفة بأطماع وطموحات اقتصادية، فهم كانوا يستهدفون من وصولهم إلى هذه الجزر القضاء على الإسلام، ونشر النصرانية، ثمَّ السيطرة على تجارة المشرق، وحرمان المماليك وأعوانهم من هذا الثراء العظيم.
كان أول رجل أروبّي تطأ قدمه جزر الفلبين هو (فرناند دي ماجلان)، ولم تكن الجزر آنذاك تُعرف باسمها الحالي، فلما اكتشفها ماجلَّان أُطلق عليها جزر (سان لازار)، ثم سمٍّيت –بعد الاحتلال الأسباني- بجزر الفلبين تخليدًا لاسم فيليب الثاني ملك أسبانيا([20]).
ففي عام 925هـ / 1523م وصل ماجلان الفلبين، على رأس حملة بحرية، مكونة من خمس سفن، وطاقم مكون من 265 بحَّارًا، ورستْ سفن ماجلان على سواحل الجزر الفلبينية، واصطدم بالمسلمين عندما أراد فرض سيطرته، ونشر عقيدته، فقتل في جزيرة ماكيتان مـــــن جزر سيبـــو (فيساياس حاليًا)، فتابع من نجا من أتباعه طريقهم حتى عادوا إلى أسبانيا. وكان المسلمون بقيادة (لابولابو) أمير ماكيتان. ثم سيَّرتْ إسبانيا بعد ذلك أربع حملات، قتل أفرادها جميعًا؛ لأن الريح كانت تدفعهم نحو الجزر الجنوبية، حيث يكثر المسلمون هناك. ثم جردت إسبانيا حملة كبيرة رافقتها القساوسة في محاولة لتنصير المسلمين، استقرت في جزيرة سيبو، وقام (راجا سليمان) حاكم مانيلا (عاصمة لوزون) الإسبان بشجاعة وضراوة، وكان ابن أخ لأحد سلاطين بروني وابن عم السلطان سيف الرجال سلطان بروني الذي صد الإسبان عن بروني عام (985 و988هـ / 1577 و1580م). واستشهد راجا سليمان عام 1571م. وباحتلال الإسبان لمانيلا وتهديدهم لأماكن استيطان المسلمين، وبناء مستعمرات جديدة مكانها على يد ليكاسبي سنة 979هـ / 1571م، توقف توسع الإسلام في القسم الشمالي من أرخبيل الفلبين، واعتبر الإسبان معركتهم مع مسلمي الفلبين في مانيلا امتدادًا لمعاركهم مع المسلمين في الأندلس، فقد كتب أحد الإسبان سنة 1302هـ / 1884م: عندما نزل جنود ليكاسبي في مانيلا في مكان هو الآن موقع حصن سانتياغو، وهو مفتاح مانيلا، وجدوا مقاطعة مسلمة، يحكمها الراجا ماتندا بمساعدة ابن أخيه الراجا سليمان، وكان هذا الأخير يحبذ سياسة الحرب والمواجهة([21]).
وعند احتلال الاسبان للجزر الشمالية للفليبين، كان للمسلمين ممالك عدَّة قوية في الجنوب، أهمها سلطنة (ديبتروان)، وسلطنة (صولو)، وسلطنة (ماجنيدنا)، وسلطنة (بويان)، وتلك الممالك هي التي قادت الجهاد الإسلامي ضد الاحتلال التنصيري الإسباني، وبرز عدد من قادة الجهاد الإسلامي، مثل البطل المقدام (ديبتروان قدرات)، الذي دوَّخ الإسبان وقهرهم في معارك كثيرة، ومنهم السلطان نصر الدين سلطان المسلمين في جزيرة صولو، والذي قاد الجهاد الإسلامي من داخل الغابات، وأصبح أسطورة البلاد، والشبح الذي بث الرعب في نفوس الإسبان لفترات طويلة([22]).
وقد أبدى المسلمون في الفليبين مقاومة باسلة ورائعة صارت مضرب الأمثال في جنوب شرق آسيا كله، فلقد حارب المسلمون من بيت إلى بيت، فلما أحرقوا منازلهم انتقلوا إلى الغابات، فلما أحرقوا الغابات عادون يبنون بيوتًا جديدة من الأغصان، وظلوا يقاتلون بمنتهى الشراسة على الرغم من وحشية الاحتلال الإسباني مع مواجهة المقاومة، حتى إنهم أجبروا الحاكم العام الإسباني في الفليبين على الفرار إلى هونج كونج سنة 1895م، الأمر الذي جعل الإسبان يفكرون جديًا في كيفية الخروج من المأزق الفليبيني المرعب، وأخيرًا رأى الإسبانيون أن شعب المورو شعب مكافح صامد، لا يُنال بقوة السلاح، فمالوا إلى المصالحة والمهادنة مع السلطان([23]).
وازداد شعور الإسبان بعجزهم الكبير عن مواجهة المقاومة الإسلامية في الفليبين، وبحثوا عن مخرج لأزمتهم، فقرَّروا الاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت وقتها قوة جديدة وناشئة على بيع جزر الفليبين لأمريكا عام 1318هـ/ 1900م، بمائتي مليون دولار([24])، ليظهر الأمريكان بصورة المنقذ والمحرِّر لجزر الفليبين من الاحتلال الاسباني، وبالفعل انطلت الخدعة على سكان البلاد، ورحبوا بالأمريكان، فساعدوهم بقوة ضد الإسبان.
ولكن سرعان ما اكتشف أهل البلاد الخديعة؛ إذ أعلن الاسبان انسحابهم من الجزر والأمريكان ما زالوا على أراضيها، فطلب مسلمو الفليبين من الأمريكان المغادرة فرفضوا بشدة، وأعلنوا ضم الفليبين للولايات المتحدة الأمريكية، فثار المسلمون لذلك، وحملوا سلاحهم مرة أخرى ضد الأمريكان، الذين ساروا على الخط الإسباني نفسه، في محاربة الممالك الإسلامية، وعزل مناطق المسلمين، وفرض سياج من الجهل والتخلف والفقر على أبناء الإسلام هناك، في حين تم تقريب نصارى البلاد واحتضانهم، ورفع مستوى المعيشة لأبنائهم؛ وذلك للهدف البعيد، وهو تسليم البلاد لتلك الطبقة النصرانية الموالية للاحتلال الأجنبي.
استمر الاحتلال الأمريكي الصليبي للفليبين قرابة نصف قرن، استطاع خلالها أن يحقق ما عجز عنه الإسبان في ثلاثة قرون باستخدام الخديعة والمكر والمراوغة.
المعالم الإسلامية وأبرز الدعاة
وعلى الرغم من الحرب الضارية التي تعرض لها المسلمون في مانيلا على يد الاستعمار الاسباني والحكومات التي توالت من بعده، سواء كانت إسبانيةً أو محليةً يشكلها المتعاملون مع الاحتلال، فإن الهوية الإسلامية لا تزال موجودةً في المدينة، ممثلةً في عدد من الأحياء والمعالم الإسلامية، ومن أبرز تلك المعالم حي كويابو الذي يمثِّل مركز الثقل والتجمع للمسلمين في مانيلا، ولا يزال الحي يحتفظ بالكثير من السمات الإسلامية فيه؛ حيث تكثر محالّ بيع الأعشاب الطبية والغذائية، وهو ما كان يميز المسلمين في السابق.
ومن ناحية أخرى فإن الحي له سمة تطبع كل الأحياء المسلمة في المناطق التي كانت في السابق تخضع للحكم الإسلامي ثم استولى عليها الاستعمار، وهذه السمة هي الفقر؛ حيث يعاني ذلك الحي من الفقر الشديد، على الرغم من أنه يقع في وسط المدينة ومثَّل في السابق المركز التجاري لها؛ مما دعا الحكومة إلى تنظيم حملة من أجل إعادة ترتيبه وتنسيقه بما يعيده إلى سابق عهده، ويوجد في العاصمة الفلبينية أيضًا المركز الإسلامي الذي يقوم ببعض الأنشطة الدعوية، غير أنه لا يستطيع القيام بالأنشطة التي تكفل للمسلمين التعرف على أصول دينهم بالدرجة الكافية، كما يوجد فيها سور قديم بُنِي في عهد الملك المسلم (راجا سليمان)، الذي كان ملك سلطنة مانيللا، والذي حاربه الإسبان حتى قتلوه([25]).
كما يعد المسجد الذهبي من أبرز المعالم الإسلامية في المدينة الذي يُعد أحد أكبر المساجد في الفلبين كلها، لا في مدينة مانيلا وحدها، وقد اكتسب ذلك المسجد اسمه من أن قبَّته ومئذنته الذهبيتان، وهي قبة كبيرة عربية الطراز مبنية على غرار القبة التي تعلو القبر الشريف في المسجد النبوي، وتعلوه أقواس عربية جميلة، ونوافذ عربية ذات زجاج ملوَّن بألوان جميلة، وقد بني في العام 1976م، على نفقة الدولة الفلبينية، بأمر من الرئيس فرديناند ماركوس، من باب المجاملة للمسلمين، الذين لم يستطيعوا أن يبنوا بجهودهم الخاصة مسجدًا كبيرًا لائقًا بهذه المدينة الكبيرة على حد تعبيرهم([26]).
وبعد الحرب العالمية الثانية اعلنت الحكومة الامريكية استقلال الفلبين عام 1366هـ/ 1946م، وسلمت زمام الأمور لحكومة نصرانية على رأسها رئيس من الكاثوليك، فاهتم القساوسة بإثارة الحكومة على المسلمين([27]). فكُتِب على المسلمين الفلبينيين الجهاد مرة أخرى، كما صدر قرار ضم جنوب الفلبين الإسلامي إلى هذه الحكومة من جانب أمريكا.
وقد اشتد التحدي الصليبي الكاثوليكي بعد الاستقلال بشن هجمات إبادة جماعية على المسلمين، كما جاء في عريضة منظمة تحرير شعب المورو المرفوعة إلى لجنة حقوق الإنسان، اتهمت فيها حكومة الفلبين بقتل ما لا يقل عن مائة ألف مسلم وجرحهم، وشرَّدت نصف مليون، واغتصبت مليون هكتار من أرض المسلمين، وحرقت البيوت والمساجد والمدارس، وجاء في الكتاب الأبيض الذي قدمه المسلمون إلى حكومة الفلبين عام 1375هـ/ 1956م: أن عدد المذابح والحوادث الدامية التي ارتكبت ضد المسلمين في جنوبي الفلبين بلغ 417 حادثة في ثلاث سنوات([28]).
ومن خلال هذا البحث يتبيّن لنا أنّ أشهر رجال الدعوة إلى الإسلام في الفلبين، والذين دخلو جزائر سولو ومكينداناو وغيرها ستة، هم:
1_ ( شريف أولياء ): وهو من أوائل دعاة الإسلام الذين جاءوا إلى ماكينداناو وغيرها، حيث عمل على نشر تعاليم الدين الإسلامي، وتزوج هناك، فأنجب بنتًا سُمِّيت (فراميسولي)، وعاد من حيث جاء من الملايو، ولعل هذا الداعي هو الذي يقول فيه بعضهم إنه الشريف إبراهيم زين الدين الأكبر بن جمال الدين الحسين بن أحمد شاه بن عبدالله شاه بن عبدالملك بن علوي بن محمد صاحب مرباط.
2- الشريف ماراج (مهراج): وقد جاء إلى الفلبين بعد أن توفي شريف أولياء وتزوج من ابنته (فراميسولي)، فأنجب منها ابنين تابو ناوي وممالو، اللذين أدركهما الشريف محمد علي زين العابدين.
3- الشريف مخدوم إسحاق، وهو الملقّب (علو الإسلام) بن ابراهيم اسمارا، الذي أنفد عمره في الدعوة إلى الله، واتخذ له مركبًا يدور فيه على جزر الشرق يدعو إلى الإسلام، قدم إلى جزيرة منداناو وأرخبيل صوله سنة 785هـ/ 1365م، وقيل 804هــ/ 1384م على اختلاف الروايات والأصح في سنة 800هــ/ 1380م([29])، وكان يتلقى منه الطلاب العلم في فاسى ومالاكا، حتى إذا تخرجوا على يده في العلم والتربية رتَّب إرسالهم وعيّن لهم الجهات التي يذهبون إليها للدعوة، وكان بمنزلة عظيمة من التقشف والزهد والاقتصار في المطعم والملبس، واسع العلم. وقد ناقش بعض رؤساء الديانة البوذية والبرهمية وناظرهم، فغلبهم وأفحمهم.
4- الشريف زين العابدين في أرخبيل سالا (سولو)، وهو أول من ملك سولو، ولم يوجد في سولو شجرة نسب أو تاريخ، ولكن هذا مما يتناقلون.
5- الشريف محمد بن علي زين العابدين الملقب كابونغسوان.
6- الشريف أبوبكر، العالم الداعي إلى الله الذي تلقى تعاليم الإسلام في مكة المكرمة، والآخذ عن مخدوم، ومؤلف كتاب (الدر المنظوم)، والذي أصبح سلطانًا على جزر سولو بعد راج بكيندا.
واستمرت قوة المسلمين ومملكتهم إلى أن دخلت القوات الإسبانية الفلبين سنة 940هــ/ 1521م.
[1]- سلندوغ أو لوزون, هي الأرض الكبيرة الواقعة في شمال أرخبيل الفلبين. انظر الجعفري, بشار: أولياء الشرق البعيد, دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر, ط/1, 2003م, ص 294.
[2]– نسبة إلى جمقا, وهي تقع في منتصف الطريق بين الهند والصين.
[3]– الجعفري، بشار: أولياء الشرق البعيد, مرجع سابق، ص 286.
[4]– الحداد، علوي بن طاهر: المدخل إلى تاريخ الاسلام في الشرق الأقصى، تحقيق، محمد ضياء شهاب، عالم المعرفة- جدة- المملكة العربية السعودية، ط/1، 1405ه- 1985م, ص271.
[5]– جهور بضم الجيم والهاء وسكون الواو. وأهلها يكتبونها جُوهُر, والمراد بها هنا جهور لام ( أي القديمة) التي كانت عاصمة السلطان عبد الجليل شاه ومن قبله ومن بعده قبل خرابها. وأما جهور الجديدة فمؤسسها السلطان أبوبكر شاه والد السلطان الخليل إبراهيم. ويقال جوهور أو جوهر أو جهور وهي المنطقة الواقعة في أقصى شبه جزيرة الملايو الماليزية إلى الشمال من سنغافورة حالياً. ( انظر الجعفري، بشار: أولياء الشرق البعيد, مرجع سابق، ص387).
– [6] الحداد, علوي بن طاهر: عقود الألماس, تريم للدراسات والنشر, ص 131.
[7]– الحداد, عقود الألماس, ص 138.
[8]– راج باكيندا هو ملك ( سولو ) و( بوانسا ) وهو الذي افتتحها بالإسلام, وهو أحد ابني زين العابدين بن علي الباقر, أخو الشريف كابونغسوان, واسمه علوي أو أحمد كما في الروايات التي ذكرها الدكتور نجيب صليبي. ( انظر الحداد, علوي بن طاهر: المدخل إلى تاريخ الإسلام في الشرق الأقصى, مرجع سابق، ص266 ).
[9]– الحداد, علوي بن طاهر الحداد: عقود الألماس, مرجع سابق، ص 139.
[10]– لفظ شريف كلمة عربية معناها النسبة إلى نسب شريف, وهي في الأغلب لقب لذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم, واللقب التام هو السيد الشريف, فالعرب والإيرانيون يلتزمون كلمة السيد فقط, ولكن مسلمي الفيلبيين لا بد أن يستعملوا الكلمتين السيد الشريف لشدة اعتزازهم بهم. ( انظر الجعفري، بشار: أولياء الشرق البعيد, مرجع سابق، ص391 ).
[11]– الحداد، علوي بن طاهر: المدخل إلى تاريخ الإسلام في الشرق الأقصى, مرجع سابق، ص 239.
[12]– الجعفري، بشار: أولياء الشرق البعيد, مرجع سابق، ص354 و355.
[13]– بعد أن استقر الشريف زين العابدين في جوهور, طلب من السلطان السماح له في أن يجلب ابنا له يدعى أبا بكر مقيما في مكة المكرمة, فسمح له, وقد كان فقيها وعالما بالدين كأبيه. ( انظر الحداد، علوي بن طاهر: المدخل إلى تاريخ الإسلام في الشرق الأقصى, مرجع سابق، ص266 ).
[14]– الحداد, علوي بن طاهر الحداد: عقود الألماس, مرجع سابق, ص 141.
[15]– الحداد، علوي بن طاهر: المدخل إلى تاريخ الاسلام في الشرق الاقصى، مرجع سابق، ص 210.
[16]– الجعفري، بشار: أولياء الشرق البعيد, مرجع سابق، ص356.
[17]– الحداد، علوي بن طاهر الحداد: عقود الألماس, مرجع سابق، ص143.
[18]– جزر هالماهيرا هي من جزائر الملوك حاليًا, واصطفوان يعتقد أنها اسم أستراليا القديم أو اسم جزيرة ايريان جايا الإندونيسية حالياً, وأما فوافوا فهي جزء من جزيرة ( غينيا الجديدة كان الرحالة المسلمون القدامى يسمونها جزر ( واق الواق ) باعتبار أنها آخر البر قبل ولوج البحر الزفتي الكبير ( المحيط الهادي ). ( الجعفري, بشار: أولياء الشرق البعيد أساطير مجهولة في أقاصي المعمورة, مرجع سابق, ص 392 ).
[19]– الجعفري، بشار: أولياء الشرق البعيد, مرجع سابق، ص359. ينظر كذا ( محمد، جميل عبدالله المصري: حاضر العالم الإسلامي وقضياه المعاصرة، الجامعة الإسلامية – المدينة، 1406هـ- 1986م، 1/283 ).
[20]– عدس، محمد يوسف: الفلبين، دار المعارف، القاهرة، ط/1، 1969م,1/ 20.
[21]– محمد، جميل عبدالله المصري: حاضر العالم الإسلامي وقضياه المعاصرة، مرجع سابق، 1/ 285- 286.
[22]– http://islamion.com/news/جهاد-مسلمي-الفلبين-ضد-الاحتلال-الأسباني . كما يدل على ذلك ما ذهب إليه الجعفري، بشار: أولياء الشرق البعيد أساطير مجهولة في أقاصي المعمورة, مرجع سابق, ص 392.
[23]– المشهور, عبدالرحمن بن محمد بن حسين: شمس الظهيرة، تحقيق محمد ضياء شهاب, عالم المعرفة- جدة, ط/1, 1404ه-1984م, ص272. كمـــا أشار إلـــــى ذلك (عدس، محمد يوسف: الفلبين، مرجـــــع سابق، 2/7- 8 ).
[24]– محمد، جميل عبدالله المصري: حاضر العالم الإسلامي وقضياه المعاصرة، مرجع سابق، ص288.
[25]– العبودي، محمد بن ناصر: نظرة إلى الفلبين بين زيارتين: رسمية، وخاصة، مطبعة النرجس االتجارية، الرياض، ط/1، 1421ه-2000م، ص33.
[26]– العبودي, نظرة إلى الفلبين, مرجع سابق، ص40.
[27]– مؤنس، حسين: الإسلام الفاتح، مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، القاهرة، 1401هـ/ 1980م، ص60.
[28]– تقرير مقدم من جبهة تحرر مورو لمنظمة المؤتمر الإسلامي. ذكر ذلك المصري، جميل عبدالله محمد: حاضر العالم الإسلامي وقضياه المعاصرة، مرجع سابق، ص290.
[29]– بشير، أحمد: تاريخ الإسلام في الفلبين, مطبعة المدني, القاهرة, ط/1، 1384/ 1964م, ص 16.
قائمة المصادر والمراجع:
1- الجعفري, بشار: أولياء الشرق البعيد، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر, ط/1, 2003م.
2- الحداد، علوي بن طاهر بن عبدالله: المدخل إلى تاريخ الإسلام في الشرق الأقصى، تحقيق، محمد ضياء شهاب، عالم المعرفة- جدة- المملكة العربية السعودية، ط/1، 1405ه- 1985م.
3- الحداد, علوي بن طاهر: عقود الألماس, تريم للدراسات والنشر.
4- العبودي، محمد بن ناصر: نظرة إلى الفلبين بين زيارتين رسمية، وخاصة، مطبعة النرجس االتجارية، الرياض، ط/1، 1421ه-2000م.
5- المشهور, عبدالرحمن بن محمد بن حسين: شمس الظهيرة، تحقيق محمد ضياء شهاب, عالم المعرفة- جدة, ط/1, 1404ه-1984م.
6- بشير، أحمد: تاريخ الإسلام في الفلبين, مطبعة المدني, القاهرة, ط/1، 1384/ 1964م.
7- عدس، محمد يوسف: الفلبين، دار المعارف، القاهرة، ط/1، 1969م.
8- محمد، جميل عبدالله المصري: حاضر العالم الإسلامي وقضياه المعاصرة، الجامعة الإسلامية – المدينة، 1406هـ- 1986م.
9- مؤنس، حسين: الإسلام الفاتح، مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، القاهرة، 1401هـ/ 1980م.