السيف النقاد .. شاعر مجهول .. أفلتت المقادير ديوانه من شرك الإهمال
أضواء
مفيد فهد نبزو
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 30 .. ص 49
رابط العدد 30 : اضغط هنا
أكاد أجزم أن هذه الدرر النفيسة من فارس الميدان، وشاعر البلاغة والبيان، إبراهيم بن قيس الحضرمي رحمة الله عليه نادرة وبعيدة عن متناول المهتمين والدارسين والباحثين، برغم ما فيها من ثراء وغنى، لا يؤثّـر فيه صدأ الحياة ولا عوامل الزمان، ورياح الزيف والبهتان.
إن صليل السيوف ليوقظ الفطنة والنباهة في العقول، وينعش النفوس، ويسطر ملحمة الحق في ذاكرة الأمجاد بالعبقرية والحمية والأصالة والعنفوان.
هي صفحات مشرقة، تألقت حروفها بالصدق والعاطفة الجياشة، التي تدفَّقت من قريحة العلامة العربي الشارئي الورع، أبي إسحاق إبراهيم بن قيس بن سليمان الهمذاني الحضرمي الإباضي، الباذل نفسه في سبيل الله تعالى، الطالب الشهادة من مظانها، المتحلِّي بأخلاق الكملة من الرجال.
كان والده – رحمه الله – ممن يعوَّل عليه في حضرموت ونواحيها، مسموع الكلمة، مطاع الأمر والنهي، عالمٌ ورعٌ، زاهدٌ متقشّفٌ، مع الغنى الواسع لا يستميله زخرف الدنيا وزهوُّها، قاهرٌ للنفس، موطِّنًا لها على العبادة مع القيام في مواطن الدفاع والذود عن الدين الحنيف، ولعله هو المقصود للشاعر في قوله:
وجلنداءُ في عمانَ مقيمًا ثم قيسًا في حضرموتَ المنيف
ولا غرو فإن إبراهيم ليس عن أبيه غريبًا، بل كان متأسِّيًا به في كل شيء وكان له سَمِيًّا، فذاك كان حنيفًا، اشتهر من أمره، عليه ألف سلام، أنه راغ ضربًا باليمين على الأصنام، وهذا عليه ألف سلام عرفناه جحفلًا وعريفًا، قد أرغم بأحد أصغريه أنوف الجبابرة الطغام، وما ذلك إلا بفضل صيحات هذا السيف النقَّاد، الذي أفلتت ديوانه المقادير من شرك الإهمال على يد العلامة الأديب سليمان بن سعيد السيابي العماني الباروني، مؤسس المدرسة البارونية ومديرُها، بمركز لواء متصرفية، جبل طرابلس الغرب، ابن العلامة الشيخ عبدالله بن يحيى الباروني، فأبرزه من أعماق وهدة الخفاء والكتمان، إلى جو الظهور والعيان، وهذا الديوان ما نظر فيه ناظر، واستمع له مستمع إلا تشعبت أعصابه حماسة وشجاعة وحمية دينية، وغَيْرَة إيمانية؛ لأن صاحبه من شهداء الله – تعالى – على خلقه ورقبائه، وعلى من اعوجَّ عن سبيله.
قال الرسول العربي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((أقربُ الناس من درجة النبوءة العلماء والشهداء، أما العلماء فدلُّوا الناس على ما جاءت به الرسل، وأما المجاهدون فجاهدوا على ما جاءت به أنبياء الله)). وقد جمع الله – تعالى – لهذا الشاعر المجلّي فضل العلماء والشهداء معًا؛ لأن ذاته تناصر الحق، وتشق بسيف النور غياهب الديجور؛ لتحظى بفردوس النعيم الأبدي:
متى أحملُ السيفَ المشِّطبَ أصبحتْ
طغاةُ الورى ذُلًّا عراةَ المناكبِ
وتعسًا وتعسًا لامرئٍ حازَ أمرهُ
سفيهٍ غبيٍّ فخرهُ في المثالبِ
يتيهُ إذا ارتجَّتْ معازفُ لهوه
ويعتقُ بين َالملهياتِ الكواعبِ
ويزهد الشاعر من دنياه بقهرالنفس، والترفع عن أدران الحياة وملذاتها الآثمة، ومظاهرها البراقة الخادعة، التي هي أوهى من خيوط العنكبوت:
إذا كانَ بيعُ النفس أرفعَ رتبةٍ
رفعتُ ببيع ِالنفس ِفي الحقِّ رتبتي
تنافسني الأشرارُ لمَّا تلذذت
وفضلي على الأشرار صرمي للذتي
وإني بتحريمِ الفواحشِ كلِّها
أدينُ وقذف المحصناتِ بريبةِ
وتحريمِ كلِّ الظلمِ مع كلِّ مسكرٍ
وكلِّ قمارٍ واحتيالٍ وغيلةِ
لقد تناول شاعرُنا غالب الأغراض الشعرية في ديوانه، وكان للغزل العذري نصيب، حيث يتغزَّل بمحبوبته سلمى، ويصوِّرها تصويرًا محتشمًا لا يخدشُ الحياءَ، ويحترم الذوق والمشاعر بعفويَّـةٍ ورِقَّـةٍ وانسياب:
برقة ِأنفٍ أمْ بناظرِ أدعجِ
سبتكَ سليمى أمْ بثغرٍ مفلجِ
هيَ الشمسُ لكنْ ما لشمسٍ جلاببُ
هيَ البدرُ لكنْ لم يكنْ ذا تغنج
فكيفَ إذا عن كشحها انحلَّ درعها
ومئزرها عن عجزها المترجرجِ
إذًا لغَضَضْتُ الطرفَ عنها تنزُّها
ومكرمةً عن عفةٍ وتحرُّجِ
ومما يثبت مقدرته اللغوية في التجانس اللفظي قوله:
أنعمنَ في نعمِ النعماءِ أنعمها
نعما فنعمَ نعيمٌ ناعمُ الخول ِ.
وهذا يذكّرنا بقول الأعشى في معلقته التي مطلعها:
ودِّعْ هريرةَ إنَّ الرَّكْبَ مرتحلُ
وهلْ تطيقُ وداعًا أيها الرجلُ
في البيت الذي قال فيه:
لقدْ غَـدوْتُ إلى الحانوتِ يتبعني
شاوٍ مشلٌّ شلولٌ شلشلٌ شولُ
ولا شك في أن ترادف اللفظ جميل ضمن سياق التعبير الإيقاعي، الذي لا ركاكة فيه، واستخدامه للبحر البسيط الذي تتوالى فيه: مستفعلن فعلن بدون جوازات ما أبعده عن الصنعة والتكلف والافتعال، من خلال تسلسل النون والعين والميم بانسياب ومهارة.
ومما تطرق له الشاعر موضوع الرثاء، فرثى علَّامة مصر، وأقضى قضاة عصره، الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله -، رثاه بدموع الأسى، وزفرات الألم؛ لأنه افتقد فيه ميزان عدل، وقاضي حق، وداعية خير، يرأف بالأيتام والضعفاء والمغلوبين على أمرهم:
قالوا دمعتَ فقلتُ الدمعُ من رمدِ
والعينُ ما دمعتْ إلا على الكمدِ
كأنَّ في كبدي رقطاءَ تلسعها
كأنما زفراتُ النار في كبدي
وبعدئذ يصور شاعرنا ما ألمَّ به من حزن على فقد المرثي، الذي يذكر بعض مناقبه وسجاياه وشمائله الطيبة النبيلة، ويؤكد أنه سيبقى قدوة حسنة لكي ننهج نهجه ونتبع سبيله:
نقفو سبيلَ أبي قيسٍ ونحفظ ما
أوصى به ونعادي كلَّ ذي عندِ
فيه العزاءُ إلى الإسلام ثم إلى
من رامَ نصرتَهُ للواحد الصمدِ
صَلَّى عليهِ وحيَّاهُ وأكرمهُ
باني السماءِ وملقيها بلا عمدِ
بقي أن نقول: لقد تمت طباعة هذا الديوان بعونه تعالى في غرة ذي القعدة من سنة 1386هجرية، وقد قرظه عدد من أكابر علماء جزيرة العرب، مثل العلامة الشيخ عبدالله بن حميد السالمي، وغيره من كبار العلماء والأدباء، و النقاد والمبدعين.
مفيد فهد نبزو – كاتب وشاعر سوري