قراءة في كتاب: (الطبقية والسياسة.. دراسة للتحول السياسي في بلدة حريضة في الجنوب العربي)
قراءات
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 30 .. ص 52
رابط العدد 30 : اضغط هنا
فوبيا الكتاب
عندما أهداني الصديق الدكتور صادق عمر مكنون نسخة من كتاب ( الطبقية والسياسة دراسة للتحول السياسي في بلدة حريضه) تأليف الدكتور عبدالله سعيد البجرة، وطلب مني المشاركة في فعالية ثقافية لمناقشته، استرجعت في الفور إشكالية الكتاب الذي ظل لعقود تُنسَج عنه الحكايات بأنه لن يجرؤ أحد على ترجمته على فرضية أن فيه إساءات كثيرة لآل العطاس سكان حريضة على وجه الخصوص، ولتراتبية السادة في حضرموت على وجه العموم، وكان ما وصل إلينا منه ترجمات لفصول أو ملخصات تثير المزيد من الفضول، ولا تشفي غليلًا أو تغني عن قراءة نص الكتاب الكامل.
لكن عندما تجاوزت لحظة الدهشة الاسترجاعية وقبل أن ألتهم الكتاب، قدّرت أن الحكايات القديمة عنه ليست بالحدة التي اشتهر بها، ومما يدعم ذلك أن الكتاب صدر عن مركز بحوث حضرموت، الذي تشرف عليه جامعة الأحقاف برمزيتها الصوفية المعروفة، كما أنَّ مَنْ قدَّم له هو الدكتور صادق عمر مكنون، وهو أستاذ أكاديمي، محسوب على المدرسة العلوية، كما أن اختيار المترجم الأديب الأستاذ نجيب سعيد باوزير المشهود له بالدقة والأمانة العلمية يعطي رسالة إيجابية، ويحسب لصالح حيادية الترجمة، ويزيح عنها شبهة التدخل المخل.
وتدفعنا الأجواء التي صاحبت الكتاب منذ إصداره باللغة الإنجليزية عام 1971م، سواء المؤيدة له، أو الخائفة منه، إلى إثارة قضية المواقف (الجبهوية) تجاه الإصدارات المعارضة للسائد في المجتمعات العربية، والمتخلفة؛ فهي عادةً تمارس في مؤسساتها الثقافية الوصاية على القارئ، وعلى الناس، في هذا الزمان، الذي تتكاثر فيه القنوات الفضائية المتعددة المشارب والاتجاهات، ويتسم بسهولة وصول المعلومات عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فكم نحن بحاجة إلى حرية التعبير، وقبول الرأي المعارض، وإلى تحطيم الجمود الفكري؛ كي يتغلغل النور في أعماق مجتمعاتنا، ويتدفق في شرايينها الهواء النظيف.
من داخل النصوص
وبعودة إلى متن الكتاب فإن قصة ما قبل قراءته تختلف عما بعدها؛ فالمؤلف (الباحث) يصحبك في صفحات كتابه بلطف إلى بلدة حريضة، التي اتخذ منها النموذج المصغر لتحليل منظومة النظام التراتبي في حضرموت بكاملها، مستخدمًا في ذلك مناهج علمية تحليلية، واستنباطية وإحصائية، ومما يعزِّز دفء الصحبة أن المؤلف لم يكن يحمل معه فرضيات مسبقة مهيمنة عليه، ولا يرمي إلى فرض آراء خاصة به؛ إنما كان يرصد الظواهر الاجتماعية الماثلة بعين الباحث المتجول المستقل.
ولست هنا في موضع التقييم لهذا الكتاب، ولا أسعى إلى ذلك، إنما هي رؤية خاصة تفاعلية نقاشية لنقاط معينة، استحسنت الإشارة إليها واستعراضها أمام قامات علمية لعلها تكون مفيدة لهم، أو مصوَّبة لما ذهبت إليه.
وسأبدأ بمقدمة الدكتور صادق؛ بوصفها من عتبات الكتاب الأولى، فمن جهة وصف البحث (الكتاب) بالعميق والدقيق وغير المؤدلج، وأثنى عليه أيَّما ثناء، ومن جهة ثانية وخاصة في جزئية الصراع العلوي الإرشادي قـلَّـل من وجهة نظر المؤلف، وقال إنه في الفصل السادس لم يدرس الموضوع دراسة علمية موضوعية معمَّقة؛ بتبنِّيه وجهة نظر الأستاذ صلاح البكري غير الموضوعية بحسب رأيه، وهنا نجد التقديم يمارس الوصاية على القارئ، وعلى المؤلف، ويصادر وجهة نظره، ويفترض وجهة النظر المغايرة هي الموضوعية، وفي تقديري أن القراءة التاريخية العلمية للصراع الحضرمي المهجري ستكون أكثر حيادية عندما يتصدى لها من هم من خارج الخنادق.
ومن أبرز المواضيع التي أثارت الجدل منذ إصدار هذه الترجمة العربية للكتاب هو العنوان الذي استخدم فيه المؤلف مفهوم الطبقية أو الطبقات الاجتماعية، المرتبط بالمكانة الاقتصادية في مجتمع غير طبقي كما يؤكد الكاتب نفسه، في حين أنَّ الأكثر دقة هو مفهوم التراتبية الاجتماعية؛ لأنه محكوم باعتبارات سلالية، وثقافية، ولكن مع القراءة الهادئة وجدتُ لفظة الطبقية متآلفة إلى حد ما مع موضوع الكتاب، الذي تحرَّك ليشير إلى منزلة سياسية، ومنزلة سلالية، ومنزلة ثقافية، ومنزلة اقتصادية، لسكان بلدة حريضة (النموذج)، وهذا التداخل ساعد على مرور المفهوم بمرونة في دواخل صفحات الكتاب، وهذه الخصوصية تدفعنا إلى المقاربة بين الوضع في بلدة حريضة مع مدينة شبام المتزامنة معها في عصر ازدهارها التجاري، فكانت الأسر الثرية هي البارزة في التراتب الاجتماعي ( تراتب تجاري)، وذلك من منظور المكانة من الثروة؛ لهذا يمكن تصنيف التراتب في شبام بغير المستقر؛ لارتباطه بتقلبات السوق، عكس التراتب الاجتماعي في حريضة، الذي ساعد على ثباته مدة طويلة الاعتراف الاجتماعي بالسلالة الهاشمية لأسر السادة فيها، والمشيخة العلمية لأسرة آل باسهل.
ومن داخل عنوان الكتاب تبرز إشكالية مصطلح (التحول السياسي) في حريضة، الذي يحيل عادة إلى الكيانات السياسية بمنظومتها المتعارف عليها، وهي لا تنطبق على مجتمع بلدة حريضة، التي كانت تدار بسلطة منظومة الضبط الاجتماعي، على رأسها السادة آل العطاس، وقد حملت هذه (السلطة) شرعية استمرارها لمدة زمنية طويلة لأسباب تتعلق بتدني الوعي الاجتماعي، وهشاشة البنية الاقتصادية، وذلك قبل أن تكون جزءًا من الدولة (السلطنة القعيطية – جمهورية اليمن الجنوبية). وأرى أن استخدام المؤلف لمصطلح الجنوب العربي في العنوان يمضي مع سياق عصره، ففي غالب مدة الدراسة كانت حريضة تدخل في النطاق الجيوسياسي، المسمَّى الجنوب العربي، الذي تدخل فيه مستعمرة عدن ومحميتاها الغربية والشرقية.
وأعتقد أن تقسيم المؤلف طبقات المجتمع الحريضي على ثلاث مجموعات رئيسة فيه الكثير من المعقولية؛ وذلك لصعوبة وضع قالب ثابت، حتى في إطار المجتمع الواحد المتجانس، فهناك خصوصيات محلية تدفع المؤرخين إلى التحريك التراتبي الفئوي داخل المجتمع الكبير، وتكاد تتفق غالبية الأدبيات التاريخية في وضع تراتبية السادة في المرتبة الأولى، تليها تراتبية المشايخ. ولكن المؤلف وإن وضع المشايخ آل باسهل من منظور ثقافي مع المجموعة الأولى فإنه فعليًا وضعهم في المرتبة الثانية أو في منزلة بين منزلتين، فهم أرفع من القبائل، وأدنى من السادة، وآل باسهل كغيرهم من فئات مجتمع الدراسة يعترفون بحق آل العطاس في المكانة الاجتماعية ويقبّلون أياديهم ، لكن ما يلفت النظر أن المشايخ آل باسهل تحصلوا على هذه المنزلة في حريضة بالحق التاريخي القريب؛ لأنهم كانوا المراجع الدينية في حريضة قبل قدوم آل العطاس إليها، واستحواذهم على المكانة الاجتماعية العليا فيها؛ لهذا تعاطى آل العطاس بذكاء سياسي توافقي عندما منحوا آل باسهل الاعتراف الاجتماعي بمكانتهم بوصفهم مشايخ، ولهذا تزوجوا مثل السادة عند القبائل لغرض الحماية، ولتأكيد مرتبتهم العليا، فالقبيلي لا يزوج ابنته إلا بالمستوى نفسه أو بمستوى أرفع. ومما ساعد آل باسهل لتبوُّؤ هذه المكانة – إلى جانب الاعتراف الاجتماعي للسادة بمشيختهم – أنه لم تكن هناك أسر مما يعرف بمشايخ الأصل، الذين يرفعون نسبهم إلى كبار الصحابة من قريش مثل آل باجابر، وآل باعباد، وآل العمودي، وآل باوزير، ومعروف أن التقسيم المتعارف عليه للمشايخ في حضرموت هو: (مشايخ علم، ومشايخ أصل) فهم وإن اتفقوا في الوظيفة الاجتماعية فإنهم يختلفون في السلالة، وبحسب السائد في حضرموت فإن مشايخ العلم يمثلون مرتبة اجتماعية أدنى من القبائل؛ لأنهم غالبًا ينحدرون من تراتبية المساكين، أو بالأحرى من يرتفع منهم إليها، وهذه الجزئية المهمة لم يشر إليها المؤلف عند إسهابه في الحديث عن المشايخ آل باسهل، ونظرائهم في حريضة وهم أسرة المشايخ آل باخميس، الذين سقط الاعتراف بمشيختهم لأسباب ذكرها المؤلف في الكتاب.
وهناك إشارة ذكرها المؤلف وهي أن آل العطاس وآل باسهل لا يحملون السلاح؛ لأنهم في حماية الله، ويكتنف هذه العبارة نوع من الغموض، خاصة لمن يشكل عندهم مفهوم (الحوطة)، التي تعني منطقة محايدة، ومحمية بمكانة الأسرة التي تشرف عليها، والتزامات القبائل بحفظ الأمن فيها، والامتناع عن تصفية ثاراتهم فيها، ويعزِّز من ذلك ثقافة شفاهية شائعة تتوعَّـد مَنْ يخترق سكينة الحوطة بأنه لن ينجو من العقاب الرباني بكرامة الأولياء، وصلاح القائمين على الحوطة، وتاريخيًا المسؤولون على الأمن هم قبيلة الجعدة (بنو مرة)، التي تدخل الحوط بالقرب من مثاويهم وحدود القبلية العامة. وفي نموذج حريضة كان الجعدة هي القوى المسلحة الصديقة، لذلك يصفهم آل العطاس (بقبائلنا)، أي: حماتنا، ويقول الجعدة عن آل العطاس (حبايبنا)، أي: مراجعنا الدينية، ومحل احترامنا، في زمن كانت الحوط مطلبًا اجتماعيًا لكل فئات المجتمع.
وقد تناول المؤلف تداعيات ما بعد الصلح العام في حضرموت من 1937-1940م، ثم تمديده لعشر سنوات أخرى عندما جردت القبائل من سلاحها، وتخلصت حضرموت من الاقتتال القبلي البيني، لكن المدن والبلدات غير المسورة صارت مكشوفة فزادت حوادث السرقة والنهب؛ لهذا قبل آل العطاس انضمام حريضة للسلطنة القعيطية عام 1945م، وهذا يعني أن عناصر الأمن العام تكاملية، فكما هي الحوطة محكومة بالسلطة الروحية، والمعاهدات والالتزامات القبلية فإنها تنهار في غياب المنظومة القبلية المحيطة بها، ولهذا يمكن القول إن حوطة حريضة سقطت – مع أسباب أخرى – حينما جُرِّدَت القبائل من سلاحها؛ إذ كانوا فعليًا هم حماة الديار.
ومن الأمور التي تعطي زخمًا للكتاب وحيوية أنه يستعرض جوانب من تاريخ بلدة حريضة، من خلال رصد التحولات في أسلوب إدارتها من مرحلة (حريضة الحوطة) و(حريضة القعيطية) حيث هيمنة أسرة آل العطاس وثقلها الثقافي، ثم مرحلة حريضة (اليمنية الجنوبية). وقد تناول الكتاب عوامل التغيير الخارجية وأثرها في التحولات السياسية، خاصة الهجرة التي تزايدت مع تقدم وسائل المواصلات البحرية والجوية، ودور الراديو في تشكلات الوعي القومي التحرري في حضرموت، وعلى وجه الخصوص بلدة حريضة. وواقع الحال أنه امتدت في بلدة حريضة مظاهر العصور الوسطى إلى النصف الأول من القرن العشرين، وما بعد ذلك بدأت البنية التقليدية تهتز في حريضة بعوامل متنوعة داخلية وخارجية، منها هدنة السلام العام في حضرموت، وتحديث المؤسسات الإدارية، والعسكرية لسلطنتي حضرموت تحت الإشراف البريطاني، ووصول رياح الحركة الثورية القومية، التي تزعمتها مصر الناصرية، وتدفق أموال المهاجرين إليها، وهذه المتغيرات باغتت حريضة، وكما كانت مزعجة لفئات معينة في حريضة كانت مبشرة لغيرها، وهذا كلُّه قد ناقشه المؤلف بجدارة.
وكما أنَّ الكتاب يحكي قصة بلدة حريضة وأهلها فهو أيضًا يحكي قصة آل العطاس مع المكانة الاجتماعية، ومع مقاومة التحديات العاصفة القادمة من خارج الجزيرة العربية، التي لولاها لبقيت بلدة حريضة لمدة أطول تراوح حركة التاريخ، خاصة أنه لا توجد أطراف فيها أو كتل تستطيع قيادة التغيير من داخلها، لهذا مع امتداد الفكر القومي العربي شعر آل العطاس بالخطر القادم الذي سيفقدهم نفوذهم التقليدي، وقدم الكاتب قراءة حصيفة لهذه التحولات، كما رصد التعاطف السلالي مع الحكام الهاشميين برفع صورهم في غرف استقبالهم الكبيرة، وهم إمام اليمن، وملك الأردن، وملك العراق، في حين رفع القلة منهم التي أيدت التيار القومي صورة الرئيس جمال عبدالناصر، وتعمَّدوا كتابة لفظة السيد تسبق اسم المخاطب، سواءٌ كان من السادة أو غيرهم. اللافت للنظر – كما يذكر المؤلف – عندما سقطت مملكة الإمام أحمد حميد الدين وقيام النظام الجمهوري 1962م والاستقلال في الجنوب 1967م تحول القوميون من آل العطاس إلى صفوف إخوانهم السلاليين، ثم في العصر الجمهوري شمالًا وجنوبًا دخل الكثير من الهاشميين في ما يمكن وصفه بمرحلة الصمت السياسي الهاشمي، وبسيطرة الحوثيين على السلطة في شمالي اليمن 2014م، وظهورهم بقوة على المسرح السياسي يضع سرديات التاريخ في مراجعة مع نفسها؛ فعلى سبيل المثال كانت المنشورات في عام 1963م تنص في بعض فقراتها “… على أن الأحرار دقوا المسمار الأخير في نعش الهاشميين، الذين لن تقوم لهم قائمة بعد الآن” [ص348]. ولهذا يمكن القول إن هذه التحولات الراهنة العاصفة تجعل من عنوان الكتاب فكرة مستمرة مفتوحة النهايات.
وبقي أن أتقدم بشكر خاص للمؤلف الدكتور عبد الله البجرة، الذي استطاع بمهارة أن يسجل بالأرقام تفاصيل الحياة في بلدة حريضة وما جاورها مدة إقامته فيها، وعزَّز بذلك صورة كانت باهتة في مخيِّـلتي من خلال إشارات والدي عن تلك المنطقة التي أنتمي إليها (قبليًا) ووجدانيًا، إلى الحد الذي أجد نفسي أحيانًا مع المؤلف في شوارع حريضة أو في أسواقها القريبة من قبابها وفي تجمعات أهلها ونقاشاتهم التي تخوض في كل المواضيع، وأحيانًا أخمّن بأن المترجم كان مع المؤلف أو وحده يحكي التفاصيل بأسلوب ماتع وسلس وبجمل متماسكة. والشكر للأستاذ محمد مبارك بن دهري الذي يعد الدينامو المحفز لإصدار هذا الكتاب بنسخته العربية، وشكر خاص لمركز تريم للدراسات والنشر ومديره السيد عبدالرحمن علي بلفقيه لقيامه بطباعة هذا الكتاب، والشكر موصول إلى الصديق الدكتور صادق مكنون الذي بطلبه الأخوي للمشاركة في هذه الفعالية أتاح لي التأمل في حال أهلنا في حريضة الذين – وبعد سبعين عاما من قصة الكتاب – ما زالوا يهاجرون بحثًا عن لقمة العيش الشريفة، وما زالوا يتجادلون في مقاهي حريضة وهم يعبرون عن حلمهم لتحين ساعة استقرارهم الكريمة في بلادهم ….