بالتأكيد – اليوم – ليس سهلاً الإلمام بكل تفاصيل رحلة عطاء لعلم من أعلام التربية والتعليم بحضرموت ومشهدها الثقافي لأكثر من خمسين سنة خلت، فالمتتبع لسيرة التربوي والأديب والمؤرخ عبد الرحمن عبد الكريم الملاحي وعطائه يضعك في مواجهة مباشرة أمام روحه وعصارة تجاربه وثراء إبداعه، هذه الفضاءات من التأمل لرحلة الأستاذ الملاحي تدفعك إلى مقاربة فيض روحه وهمس خواطره التي سكبها ونثرها على مسامعنا تباعًا، وكانت خلاصة صادقة لتجربة شخصية حضرمية، ذابت في عشق تراب أرضها حتى لحظة الرحيل، هذه الرحلة لهذا العلم الحضرمي الكبير، كان لابدّ لنا في مجلة (حضرموت الثقافية) وبالتزامن مع الذكرى العاشرة على رحيله إلى دار البقاء في الثالث من نوفمبر من عام 2013م، أن نستعيد ذاكرتها وذكرياتها التي نثرها في أمسيات ثلاث متتابعة من أمسيات أربعاء كل أسبوع بقاعة اتحاد الأدباء والكتّاب بحضرموت في أجواء عام 2008م، وظلّت محفوظة في أشرطة التسجيل (الكاسيت)، تنتظر لحظة الوفاء والاحتفاء بما حملته سيرته العطرة من محطات في مسيرة حياته الإنسانية والتربوية والتعليمية والثقافية والمعرفية، لننثرها في سطور هذه الصفحات؛ بوصفه قبسًا من نور المعرفة، أضاء سماء حضرموت لأكثر من ستين عامًا، يرحمه الله.
أعدّ المادة للنشر: صالح حسين الفردي
محطات مضيئة في رحلة العمل التربوي والتعليمي بحضرموت:
في عام 1947م التحقتُ بالمدرسة الوسطى بالغيل، وفيها عرفت شبابًا في تلك الفترة، سواء المعلمين لنا أو من خارج الحقل التعليمي، ومنهم الأستاذ أحمد عوض باوزير، وقد كان شابًا في تلك الفترة، الذي يصدر مع مجموعة من الشباب مجلة منسوخة، وهناك شباب في المكلا والشحر وسيئون وغيرهم.
في بداية الخمسينيات بدأت الصراعات تهدأ، وهي التي كانت بين السلطة القعيطية والقبائل، بعد سنوات من اتفاقية الصلح، أو ما سمي (صلح إنجرامس)، وكما عرفت من الكثير من شيوخ تلك الفترة أن الرغبة كانت جامحة بين الحضارمة لتثبيت الصلح والأمان والسلم الاجتماعي، والسيد أبوبكر بن شيخ الكاف كان له دور كبير في التهدئة، وفي المشقاص هناك الشيخ أبوبكر باعباد، الرجل كانت له مساعٍ كبيرة لإقناع بعض القبائل في التوقيع على الاتفاق والصلح، وبدأ الفكر والواقع السياسي يتطوّر ويتحرّك بشكل جيد.
وبعد التخرّج من الوسطى ذهبتُ إلى الثانوية الصغرى (دار المعلمين)، وكانت الدراسة فيها سنتين بعد المرحلة المتوسطة، السنة الأولى: فيها معلومات عامّة وأدب إنجليزي، وقواعد اللغة ونطق الكلمات، وفي السنة الأخرى نتعلّم الإدارة، فالمعلمون الذين سيذهبون للتعليم يدرسون تربية وعلم نفس، في هذه السنة تم اختياري مع ثلاثة، هم: أبوبكر باسعد، ومحمد مبارك الحوري، وعبيد عوض العفاري، كمعلمين بقرار من مجلس الدّولة للحاجة إليهم، والمعلم له مهمتان في تلك الفترة: مهمة اجتماعية، ومهمة تربوية وتعليمية، من هنا كان المعلم متفاعلاً مع كل الأنشطة التي تعتمل في المدرسة، أو في الوسط الاجتماعي الذي ينتقل إليه، وهذه الأعمال قد تهيئ المعلم لكي يتصدّر العمل السياسي والحركة الوطنية في الخمسينيات والستينيات.
هناك شخصيات ناضلت تربويًا في سبيل التوعية والعلم، أساتذة كرام وزملاء أجلاء، منهم: الشيخ محمد حمدان الشاعر واللغوي، والشيخ العالم الفقيه النحوي والأديب عبد الله باعنقود، كان يمتلك صوتًا جميلًا، وكان يدرّبنا على بعض الأناشيد والأعمال المسرحية، والشيخ أحمد عبد الله بن طاهر باوزير، والشيخ خميس حمدان، وهناك الكثير.
في صباح الأربعاء (4) من ذي القعدة من السنة 1372هـ الموافق (15) من يوليو من العام (1953م) بدأت ترتسم أولى محطات حياته العملية، مُسَجِّلةً بداية المشوار التربوي والتعليمي للمعلم عبد الرحمن عبد الكريم الملاحي بالمدرسة الابتدائية بريدة عبد الودود الشرقية.
ولأن مهنة المعلم ورسالته الخالدة هي نشر نور المعرفة ونثر ضياء التربية والأخلاق وجدَ المعلم عبدالرحمن الملاحي نفسه مكلَّفًا في مطلع العام الدراسي: (1956م) بقرار من إدارة المعارف يومئذ للانتقال إلى وادي دوعن بمنطقة صبيخ؛ ليقضي بها عامين متتاليين، ثمَّ يعود أدراجه في العام ألف وتسعمائة وثمانية وخمسين ميلادية إلى مدينته الأثيرة الشحر كأول مدير يفتتح العام الدراسي: (60 – 61م) بالمدرسة الغربية في حصن ابن عيّاش التاريخي، ومن جميل طرائف تلك المرحلة التي تذكّرها مع رفيق دربه التعليمي الأستاذ عمر عبد الرحمن باسنبل هذه الخواطر الطريفة.
وعندما ظنّ مدير المدرسة الملاحي أن المقام سيطول به في مدينته الشحر وإدارته لمدرسته الغربية ستستمر وتدوم جاءته نقلة العام الدراسي (64 – 65م) لتعيده إلى وادي دوعن بمنطقة الجحي؛ ليقوم حينها بتكليف من الأستاذ محمد عبد القادر بافقيه المسؤول في وزارة المعارف بسلطنة القعيطي زمنئذ بافتتاح المدرسة الوسطى في منطقة رباط باعشن وقد فعل.
في العام الدراسي: (67 – 68م) عُيِّن الأستاذ الملاحي مديرًا لمدرسة مدرم بالمكلا، ثمَّ ينتقل بعدها مديرًا لمدرسة جيل الثورة سابقًا (سميّة حاليًا) بالشرج، فتتعدَّد تنقُّلاته بعدئذ بين العودة إلى الشحر فالذهاب إلى غيل باوزير فالمكلا، وأخيرًا إلى وادي دوعن بمنطقة رباط باعشن، خاتمًا مشواره التربوي الذي امتد لأكثر من عشرين عامًا، وخلال رحلته هذه كان زاده فيها جملةٌ من المعارف التي استلهمها من أساتذة أفذاذ، تأثر بهم، وصنعوا شخصيته التي تجلت بعد ذلك.
هذه الصروح التربوية والتعليمية لها حكايات مع أستاذنا الملاحي، ففيها تلقى تلاميذه من شفاهه نواصي المعرفة، ونهلوا أريج القراءة ورحيق الكتابة، وتزوَّدوا بالأخلاق والسلوك القويم من سيرته العطرة؛ إذ نجح المعلم المدير عبد الرحمن الملاحي في إدارتها، فجعلها تعجُّ بأوجه النشاطات اللاصفية المتنوعة؛ ليغرس فيها أول بذرة في مفهومه الثقافي العميق.
خلال رحلته التربوية والتعليمية كان شيخنا عبد الرحمن عبد الكريم الملاحي كغيره من روّاد التعليم الحديث الأفذاذ في حضرموت حريصًا على وضع لبنات الوعي والمعرفة في كل قرية ومدينة، وكل حضر وريف، كانت إليها نقلته التربوية، فتنقل ملَّاحُنا بين هذه المدن والقرى، معلّمًا متوهّجًا بحب القراءة والمطالعة، ورصد التجارب الحياتيَّة، والاقتراب الحميمي من هذه البيئات المختلفة، التي شاءت ظروفه العملية أن يقترب منها، ويلامسها بلطف وحذق، فيختزنها في ذاكرته المتَّقدة للتحوُّل بعد ذلك إلى مشاريع بحثية عميقة ورصينة عن ظواهر الحياة الاجتماعية والثقافية في حضرموت.
محطات من رحلة حياته الإنسانية والثقافية والبحثيّة والعلمية التاريخية:
لقد كان لي هدف أن أكون كاتبًا، تبلورَ ذلك الهدف بعد تخرُّجي في دار المعلمين بغيل باوزير في مارس العام 1953م، الموافق: 1372هجرية، ومن المحطات التي وقفت عليها للوصول إلى هذا الهدف.
جدّتي القمرية احترفت التعليم لتعول الأسرة في غياب الجدّ:
في مرحلة الطفولة التي ليست من صنعي، ولكنَّ إدراكي ووعيي تشكّلا فيها تحت رعاية والديَّ الكريمين وفي أسرة كريمة، إذ تزامنت صرخة ميلادي بمديرية الشحر في اليوم الأول من شهر أكتوبر من العام 1936م، كما تسجله الوثائق الحكومية، تزامنت تلك الصرخات مع انطلاق صوت الفتيات الدّارسات العالي بقراءة فاتحة القرآن الكريم في عُلمة الشيخة الفاضلة ربيعة بنت سليمان بن سيف الجسّاس الملحقة بمنزلنا، بل هي غرفة منه، والشيخة ربيعة جدّتي لوالدي، وهي فتاة قمرية، نسبة إلى جزر القمر من أم قمرية ووالد عماني، احترفتْ تعليم الفتيات لتكتسب مما يقدّمْنه من نقود فتَعُـول به الأسرة، في ظلّ غياب ربّ الأسرة جدّي المهاجر في جزر القمر، والمتوفَّى بها في مدينة ماروني عام 1943م، فقد تقطعت الأسباب من جراء ضراوة الحربين العالميتين الأولى ثم الثانية، فكانت تلك المرأة الصالحة التقيّة الشجاعة خير راعٍ للأسرة، ومرشدة الجميع إلى التعليم والتقوى والصلاح، فكستْ بعلمها وحكمتها أفراد الأسرة، وصبغت الأفراد فيها بشخصيتها، في ظلّ هذه الرّعاية الحميميَّة للجدّة والعطف من الوالدين نشأتُ، وحينما تعلّمت القراءة والكتابة، وجدتُ في المنزل من الكتب ما يعيني على فهم الكثير من أمور ديني ودنياي، وأتذكّر – اليوم – كتاب المستطرف من كل فن مستطرف، المعروف بين طلاب الأدب واللغة، المملوك لأحد أعمامي، وكان – دائمًا – موضوعًا في رُفٍّ تصل إليه كل الأيدي الصغيرة، مثل يدي، وكنتُ شغوفًا بقراءة هذا الكتاب، وكانت من بين نساء الأسرة عمَّتي التي تحفظ الكثير من الحكايات والأشعار، فكنتُ أقضي الساعات منصتًا لرواياتها وحكاياتها: السلطان وبنت مشرق الشمس، وسارق حضرموت، وسمسمانة، وغيرها من الحكايات الشعبية الجميلة، ترويها بأسلوب شيّق، فصارتْ ساعات الإنصات إليها بكل كياني، والتأمل وحفظ جزء مما هو موجود في الكتاب عادة متحكّمة في نفسي، طغتْ على رغبة الطفولة في اللعب مع الأقران في الحارة، والقرين الصديق الوحيد الذي أبادله اللعب، هو أحد المحلّقين حول الرّواية – عمتي –، والمنافس في قراءة المستطرف، هو أخي عبد الله عبد الكريم الملاحي الشاعر المعروف – رحمة الله عليه – الذي يكبرني بسنتين، إن ما جعل شقيقي يحتل موقع الصداقة عندي أننا – العائلة – تنتقل في كثير من السنوات مع والدي إلى المدن القريبة من الشحر، مرافقين لهم في تنقلاته، التي عمل فيها مدرّسًا في هذه المدن، فنواجه – معًا – أنا وشقيقي – صديقي – المجتمع الجديد الغريب، فنختار أصدقاءنا متحدين.
مرحلة الدّراسة المتوسطة ودار المعلمين بالغيل شكّلتْ وعيي وإدراكي وتطلعاتي الأدبية والفكرية:
لمرحلة الدّراسة المتوسطة ودار المعلمين بالغيل أهمية في تشكيل وعيي وإدراكي وتطلعاتي الأدبية والفكرية لكونها في عقدَي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي تمثّل النافذة إلى عالم التجديد، بالتجاوز على واقع الثقافة التقليدية في مجتمع حضرموت، والتعرّف على الثقافات العربية التي تعيش حركة فكرية وثقافية تنويرية، التي برزتْ في تلك الفترة.
ومن أبرز وسائل المعرفة بمدرستي المتوسطة ودار المعلمين وجود مكتبتَيْنِ حوت عناوين مختلفة من التراث العربي والإسلامي، وأخرى من الكتابات المعاصرة العربية والمحلّيّة، يجاورها مكتبة صغيرة حوت عددًا من المصنفات التي كتبت باللغة الإنجليزية، غالبها قصص وروايات، كتبت بلغة سهلة، فكانت هذه الكتب بلغتَيْها مَعِينًا فيّاضًا للتلاميذ يغترفون المعرفة منها.
كانت غرفة المطالعة في هاتَيْنِ المدرستين تُزوَّدُ بالصحف المصرية الصادرة – حينها – كالمصوّر، والاثنين، والرسالة، والثّقافة وغيرها، فيتهافت على قراءتها التلاميذ، فهي تشكّل نافذة على العالم العربي، الخارج عن محيطنا الجغرافي المنغلق، وكان الاهتمام بما يكتب فيها مثار نقاش بين المُولَعين بالقراءة، يفسِّرون الأحداث والمواثق وفقَ فهمهم وإدراكهم البسيط، بل يتجاوز التعليق والاهتمام مجرد ما يكتب، بل وصل إلى حد الارتباط الرّوحي عبر الكتابات بالكتّاب أنفسهم، صحفيين ومؤلفين، كفكري أباظة، وطه حسين، وأحمد أمين، والعقّاد، وشوقي وغيرهم، وأتذكّرُ أنه كانت تحدث مناقشات بين أولئك التلاميذ المرتبطين بهذه الأسماء، وتدور بينهم المفاضلات والتعصّبات، وفي هذه الحالة تولَّد لدى التلاميذ حبّ الاطلاع والرغبة في الكتابة مقلدين في أساليبهم وتعابيرهم تلك الأقلام العملاقة، فصار شبه مباح لعقولنا الصغيرة التحليق في آفاق الخيال والشموخ والطموح لنكون كُتَّابًا مرموقين، وفي خضم هذا الاهتمام والتحلّق في سماء الأمل، وعندما كنت طالبًا بمدرسة دار المعلمين كتبتُ القصّة القصيرة، واشتركْتُ في مسابقات مدرسية قصصية، كنت أحوزُ الدرجة الثانية في كل مسابقة، لأنَّ في المدارس حينذاك تُدرَّسُ مادة الإنشاء، ومعلّموها أجلاء، كالشيخ سعيد بن غوث باوزير، والشيخ عبد الله باعنقود وغيرهم، فهؤلاء عباقرة في الأدب والفن والنحو، وبالتالي هم يعينونا كثيرًا.
في نهاية عقد الخمسينيات كانتْ لديَّ مقدرة على الكتابة، فنشرت أولى قصصي في صحيفة الطليعة بعنوان: (صراع الحبّ) في العدد (57) يونيو 1960م:
كانت تلك النتاجات القصصية ضعيفة – دون شك -؛ لأنها في مرحلة عمرية مراهقة، وتخلو من التجربة الحياتية، والرؤية الخاصّة التحليلية، وإلى غير ذلك من مكونات الكتابات القصصية التي عرفتها في مرحلة عمرية لاحقة، لكنّي تابعت القراءة والمطالعة المكثّفة، خاصة عن المذاهب الأدبية، ومنهج القصّة ومكوناتها، وتاريخها، وما ترجم إلى اللغة العربية من قصص الكتّاب الغربيين، فأحسست أنني أمتلك مقدرة على الكتابة في نهاية عقد الخمسينيات، فنشرْتُ أُولَى قصصي، التي أراها مكتملة، في صحيفة الطليعة بعنوان: (صراع الحبّ) في العدد (57) يونيو 1960م، وظللت أنشر قصصي إلى وقتِ إغلاقها عام 1968م.
واصلت طريقي في كتابة القصّة القصيرة في صحيفة الشرارة عندما ينتابني هاجسي للكتابة فيها:
لم أتوقَّفْ عن الكتابة القصصية، بل واصلت طريقي في صحيفة الشرارة وغيرها، ولازلت والحمد لله أكتبُ القصة القصيرة عندما ينتابني هاجسي للكتابة فيها، وبِتُّ أنحو في كتابتها مضمون الفكر والرؤية إلى واقع الأمّة الإسلامية، وأذكر منها: (فار الحلّاق – صوت الذّاكرة – أي شيء – هو والباقية).
إنَّ كتّاب القصّة القصيرة يدركون – دون شك – أنهم يعيشون حالات اللاوعي وقتَ ورود الهاجس، تتراءى الصور والشخوص وتتداخل الحوادث، وهذا حال كل المبدعين، غير أن القصّة والرّواية تنتزع المؤلّف من واقعه ليعيش واقع الخيال الذي صوّره، ويرغب في إبرازه، فبدون هذه الحالة – ولنسمّها ما نشاء – لا يكون في عمله مؤثّرًا في نفس القارئ، وأرى أن هذه الحالة أخذتْ مدًى أوسعَ في ذاتي بزيادة مساحة الخيال، وتوارد الخواطر، وتعدّد الرؤية للأمور، والالتقاط للمتناقضات البشرية الحياتية.
أولى مسرحياتي عام 1968م، (الثائر المجهول)، ونزعت إلى كتابة المسرحية الواقعيّة في البداية، ثم التاريخية، ثم الذّهنية:
لقد نزعت إلى كتابة المسرحية الواقعيّة في البداية، ثم التاريخية، ثم الذّهنية، فكتبت أولى مسرحياتي عام 1968م، (الثائر المجهول)، التي عُرِضتْ على مسرح قصر (14 أكتوبر بالمكلا) في العام نفسه، تلتْها مسرحيات أخرى عُرِضَتْ على مسارح الجمهورية، في عدن وعدد من مدن المحافظات، منها: (أشرقت الشمس 1970م – الحصاد 1973م وعرضت على مسارح عدن ولحج – لأجل أبي وعرضت في المكلا – الشركة العالمية عرضت في الشحر – حكاية قرية وقد نالت التكريم في يوم محو الأميّة كونها كانت تعالج فكرة التقارب بين المدينة والقرية – الرّحالة التي فزْتُ بها كأفضل نصّ مسرحي من قبل مكتب الثقافة والسياحة في العام 1983م، والرّحَّالة هي مسرحية تاريخية، حوَّلتُ اسمَها فيما بعد إلى (حنكوب)، وهو اسم محلّي معروف في البادية، وتتحدّث عن المقاومة ضد الفرس في المناطق الشرقية بحضرموت، وهي لم تُمثَّلْ؛ إذ حاول الأستاذ المسرحي سالم حسين الجحوشي أن يخرجها، لكنْ جاءت التغييرات السياسية في بداية التسعينيات، فلم يستطع الاستمرار واستكمال العمل، حتى توقّفتُ عن الكتابة المسرحية في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
من المسرح المدرسي (حرّاس القرية – النداء)،وهناك مشاريع مسرحيات، لم أعمل في استكمالها لانشغالي بأمور أخرى:
بعد ذلك كتبت المسرح المدرسي، وهو ما يجب أن يكون له علاقة بالجوانب التربوية، وتثقيف الطلاب وإرشادهم؛ لأن بعض المدارس يعرضون مسرحيات اجتماعية، وهو مغاير للمسرح المدرسي، فكتبت: (حرّاس القرية، والنداء)، وهناك مشاريع مسرحيات، لم أعمل في استكمالها لانشغالي بأمور أخرى، مثل: مشروع مسرحية: (الهارمولين)، وهو في الحقيقة نبات الحرمل، وتعرض لحكاية عالم آثار حلّ في أماكن متعددة، يجول في وديانها وشعابها لدراسة النباتات، واكتسب صداقات عدَّة، منها صداقته مع تاجر صاحب حانوت، وآخر صاحب مقهى، وتذهب الأحداث إلى تغييرات كبيرة تحدث في طبيعة الحياة وسلوكيات الناس بعد أن يقنعهم الآثاري بالتوسّع في زراعة الحرمل وشرائه من قبل شركة على حساب زراعتهم للذرة والبرّ وغيرها، كتبْتها، لكنْ بعد قيام الوحدة لم أجدْ من يهتمُّ بالأفكار والمسرح، الذي تراجع حتى انقرض تمامًا، وهناك كذلك: أهلًا بالعروسة وتعالج قضايا اجتماعية، والجزيرة وهي ذهنية، لذا كان الاهتمام الأكبر بالمسرح وكان في فترة السبعينيات.
بعد (20) عامًا في سلك التدريس انتُخِبْتُ أمينًا عامًّا لاتحاد المسرحيين بعدن:
في مارس من عام 1973م، انتُخِبتُ في اتحاد المسرحيين في عدن بعد عشرين سنة أمضيتُها في سلك التدريس، وفي تلك الفترة: 15 – 22 مايو 73م، مثّلت بمفردي بلادنا في العاصمة السورية دمشق، وحضرت كذلك ندوةً عن النشاط المسرحي في ألمانيا الديمقراطية مع المرحوم محمود أربد، ثم المرّة الثالثة حضرْتُ مؤتمر المسرح في العاصمة العراقية بغداد في العام 1988م، بمعية مجموعة كبيرة، وذهبت بوصفي كاتبًا مسرحيًا لا باحثًا أو إداريًا.
من أبحاثي في المسرح الحضرمي:
في سنوات الثمانينيات كتبتُ أبحاثًا عن المسرح منشورة، منها: واقع الحركة المسرحية في حضرموت، النشاط المسرحي في حضرموت خلال (20) عامًا الشكل والمحتوى، دراسة تحليلية للنشاط المسرحي نفسه وما تخلله من فكر، تاريخ المسرح بمديرية الشحر، حريّة المرأة في مسرح المحضار الغنائي، ثم طغى بعد ذلك الجانب الأدبي على الواقع الأدبي.
رحلة العمل الثقافي إدارة وعملًا ونشاطًا وبحثًا ودراسة وكتابةً ونشرًا:
أما تعلقي في دراسة الموروث الثقافي الشعبي، أو التراث الشعبي، أو الفلكلور الشعبي، فأنا أُحِبُّ استعمال الثقافة الشعبية أو الموروث الثقافي الشعبي، فمن خلال إدارتي لفرع مكتب وزارة الثقافة في حضرموت، الذي افتتحْتُه في مايو 1975م، أشرفتُ على عدد من اللجان، التي قامت بزيارات ميدانية لمديريتي دوعن وحجر، وقبلَها كنتُ قد ترأسْتُ لجنة للتنقيب عن التراث في الشحر والحامي والديس الشرقية وقصيعر والريدة وتريم وسيئون والقطن وشبام ووادي منوب، خلال الفترة من: 31 يوليو – 15 سبتمبر 1974م، وفي مطلع الثمانينيات من القرن العشرين تفرَّغتُ من العمل الإداري، لمتابعة تدوين الموروث الشعبي، وكان التفرّغ بطلبٍ منّي، على الرغم من علاقتي الطيّبة مع وزير الثقافة – يومها – محمود النجاشي، وكان الإخوة في حضرموت يريدون أن يكون مدير الثقافة منتميًا للحزب، ولم أكن حزبيًّا، في التنظيم الموحد، لذا أُعطِيَتْ لي إجازة تفرّغ من يوليو عام 1980م، وقد التقى بي الوزير النجاشي، وأبلغني أنه سوف ينزل عند رغبتهم، لكن لا أُريدك أن تبتعد عنّي وعن العمل الثقافي، فسوف أنقلك إلى عدن ومكانك موجود، لأنني كنت مديرًا للمراكز الثقافية في الجمهورية، زيادة على أنني أمين عام اتحاد المسرحيين، وأعمل كذلك في قسم مراقبة المصنفات بالوزارة فترةً من الزمن، فقلت له: إذا أردت أن تساعدني في هذه السنّ وعندي مواضيع كثيرة من الأبحاث، أريد أن أفرزها وأتابعها فأعطني تفرغًا فيما بقي من فترة عملي، فاعترض في البداية، ولكن عند إصراري على التفرّغ، وافق على طلبي، وأصدر قرارًا بتفرغي للأبحاث، وكانت لي فرصة، أتاحت لي التحرك والتجوّل في مواقع مختفلة في المحافظة وفي مواضيع عدَّة.
بمن تأثرت في الكتابة؟
لكلٍّ منّا قدوة، أو تأثّر، فإذا كنّا ونحن أطفال في المدارس قد تأثرنا بالعقّاد وأحمد أمين، فقد تطورت هذه الفكرة عندنا فكان لابد أن نتأثّر بعد ذلك، بالنسبة للأسرة فكان عندي والدي – رحمه الله – وهو شخصية معروفة بالعلم والصلاح، وعندي أخي الأكبر عبد الله، كانت قراءتنا مشتركة، فصار هو شاعرًا، وصرت أنا ناثرًا.
الشيخ باوزير تعلمت منه عقلانية التفكير، وحرية التعبير وخوض معارك التغيير:
هناك شخصية أخرى، هو الأستاذ سعيد عوض باوزير – رحمه الله – فقد كان كاتبًا ومؤرّخًا، يحمل همّ هذه المحافظة، التي يعدُّها وطنًا وشعبًا، وهمُّه كان التغيير والتجديد، إذا كان الطابع العام في الثلاثينيات والأربعينيات إلى منتصف الخمسينيات يغلب عليه التقليد في الحياة، فهو – دائمًا – مناهض، فمن هذه الشخصية تعلمْتُ الكثير، ففي الغيل كنت كثيرًا ما ألتقي به وأجلس معه، وفيه كتبت: (أما الشخصية الثالثة التي تأثرت بها وبعلمها وسلوكها وتفكيرها ومنهجها التعريفي بالتاريخ هو الأستاذ المؤرخ القدير سعيد عوض بن طاهر باوزير، يرحمه الله، الرجل ليس مجرد فقيه و أديب ومؤرخ وحسب، بل هو رجل رأي، امتلك رؤية سياسية واجتماعية ونهضوية لتطوير مجتمع حضرموت، وقد لاقى العنت والجفاء من السلطة القعيطية – حينها –، وهو من رجالات المجتمع المرموقة وشخصياته جراء أفكاره ونشاطه التنويري النهضوي، كنّا تلاميذ صغارًا وشبابًا يوافع، يَحدُونا الأمل والطموح، والرغبة الجامحة في التعرّف على المزيد من المعرفة المتجددة، والانطلاقة إلى معرفة متغيرات العالم العربي بالتحديد، وفي سنوات عشناها عجافًا وعالمًا نقرأ عنه في الصحف، ونسمع عنه في الراديو الوحيد في المدرسة الوسطى، ونتساءل في دواخلنا عن ماهية الحرب العالمية الثانية، وما خلَّفتْه من دمار، فكان لزيارة أستاذنا الجليل باوزير أثرها الكبير في نفوسنا؛ لما يشرحه لنا من قضايا الشعوب، وتطوّر الأزمات السياسية، وما تعيشه حضرموت من مآسٍ جرّاء المجاعة، وشيء كثير من تاريخها وحضارتها.
كنت واحدًا من أولئك التلاميذ، ولم أنقطع عنه خلال أيام الإجازات الصيفية، لقد كانتْ عائلتي تسكن مدينة غيل باوزير، في تلك الفترة توثقت علاقتي الحميمية بابنَيْهِ عبد الله وأمين، وابن أخته عبد الله سالم باوزير، القاص المعروف رحمة الله عليه، وظلَّتْ علاقتي حميمية بالشيخ سعيد، حتى بعد تخرُّجي في دار المعلمين، واستمرَّتْ علاقتي حتى وفاته في عام 1987م، لقد تعلّمْتُ منه عقلانية التفكير، وحرية التعبير، وخوض معارك التغيير، وهي قضايا ثلاث ألتزمُ بها أنا حتى الآن.
الأستاذ بامطرف كان معلمًا لي في كيفية الاستفادة من الدلالات الشعبية:
أما الشخصية الرابعة التي تأثرت بها فهو الكاتب والمؤرخ محمد عبد القادر بامطرف، الذي توثقتْ علاقتي به منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، حين كان يزورُني كلَّ يوم أربعاء بمكتبي في القصر السلطاني، الذي فيه مكتب الثقافة والهيئة العامة للآثار والمتاحف، ولتحديد يوم الأربعاء للزيارة تقليد أعرفه، ذلك أن المؤرخ بامطرف كان له تقليد في طريقة حياته، ينظّم فيه حركته ببرنامج محدد ومنظم، لا يخل به أو يتجاوزه، فقد كنّا نلتقي في مكتبة الحدّاد، وبعد وفاته، انتقل الموعد إلى مكتبي، ونقضي ساعات في أحاديث ثقافية وتاريخية متنوعة، فقد كان أستاذي بامطرف مَعِينًا لا ينضب من المعارف؛ فهو موسوعة متكاملة في العلوم، خاصة ما يتعلّق باللغة والشعر والآداب الشعبية، فهو راوٍ جيد للحكايات والحوادث والشعر الشعبي، وهو مع كونه أديبًا ومؤرّخًا، أو باحثًا كما يحب أن يطلق عليه، فهو أديب وشاعر مجيد للفصحى واللهجة العامية، وقد حدَّثني – كثيرًا – عن رموز حضرمية شهيرة دينية منها وأدبية، ومواطن الإعجاب بهم، ومن هؤلاء: العالم الجليل ومفتي حضرموت عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف.
لقد كان الأستاذ بامطرف معلمًا لي في كيفية الاستفادة من الدلالات الشعبية، الشعر والحكايات والأمثال وغير ذلك من مكنون الذاكرة الشعبية، وحوادث المجتمع عبر التاريخ، وفي كل زيارة إلى القرى ولقاء الشخصيات الضليعة في مادة البحث التي أريد القيام به – وذلك بعد تفرغي للبحث – لابد لي من زيارته للاطمئنان عليه واطلاعه على ما توصلت إليه، فكان يسألني عن تفاصيل الرحلات واللقاءات والمعلومات ويرشدني إلى ما يجب أن أفعله.
في وادي (بدش) عشت (18) يومًا، أنام في عريش، وأتجوّل بين النخيل، وأفطر من رأس النخلة وأشرب من الغدير، والغذاء قطعة خبز مع قليل لخم، والعشاء لبن مع خبز:
بدأت في كتابة الأبحاث والدراسات الثقافية، وأريد أن أسجّل أن الفضل الكبير في هذا التوجّه، لدراسة الموروث الشعبي يعود لزيارتي الأولى إلى وادي بدش عام 1952م، 1372هجرية، في تلك الفترة كنت قد أكملت المستوى الأول الثانوي، أخذت في ذلك الوادي (18) يومًا أعيش حياة سكانه، أنام في عريش في الفضاء المكاني، وأتجوّل بين النخيل، وأفطر من رأس النخلة، وأشرب من الغدير الذي تحت النخلة، والغذاء قطعة خبز مع قليل لخم، والعشاء لبن مع خبز أيضًا، والناس يعيشون في بساطة وارتياح نفسي، شعارهم: (خير المحلّة تحت شطفة وعود)، وهناك حكاية من الحكايات التي استهوتْني في ذلك الوقت، فالعلاقة بين الرجل والمرأة ما فيها تعقيد في ذلك الوقت في المشقاص، ولكن الأعراض مصونة والفواحش منبوذة، وأي خطأ من الشاب إلى الشّابة تعطى له كلمة (عنيتك) من الفتاة، ومعناها ألزمت بأمر ما، أو تهمة، وهنا يكون فيها حكم، لذا العلاقات الإنسانية لا تمسّها أي تصرفات شانئة مطلقًا.
وقد حدثتْ معي عدد من المواقف في تلك الأيام سجَّلتُها في مذكرتي، وظلّت معي طويلًا، حتى كتبتُ عنها في كتابي (الدلالات الاجتماعية والتاريخية من مهرجانات الختان في المشقاص)، ومنها قصيدة من (86) بيتًا، رواها لي أحد كبار السن في هذه المنطقة، وفيها عدد من الكلمات التي لم أعرفْها، وتُعجَم علي تمامًا، ولكن هذه القصيدة فتحتْ لي مجالًا في البحث التاريخي؛ لوجود الفرس في المنطقة، نظرًا لكثرة الألفاظ الفارسية التي في هذه القصيدة، وتتبع الأماكن التي نزلتْ فيها قوات الفرس، والمواقع التي دارت فيها المقاومة، وهو ما جعلني أذهبُ وأرحلُ من شقرة إلى حوف للسؤال عن مَثْوَب، التي نزلتْ فيها القوة الفارسية ونشرْتُه في مقالات، وهذا فتح لي مجالًا كبيرًا، ولقاءاتٍ مع الشيوخ في تلك المنطقة، ووجدتُ نفسي أنساقُ إلى دراسة هذه القصيدة لغويًا، ومقارنتها بغيرها من القصائد، وما جاء في النقوش، فوجدْتُها تتطابق معها، بل إن القصيدة المشقاصية أكثر عمقًا من القصيدة النقشيّة، وقد ألقيْتُ كل هذه المواقف ويوميات الرحلة في أمسيةٍ من أمسيات الليالي الأدبية، بحضور الدكتور محمد عبد القادر بافقيه وعدد من الأساتذة السودانيين في الثانوية والوسطى والطلبة، وقد تخلَّـلها نقاشات كبيرة في تلك الليلة.
هذه الرحلة رفدتها تلك الجولة مع اللجنة للبحث عن التراث في عام 1974م، وما تلاها، وكنّا نتعب كثيرًا، ولكن كان همّنا أن نجمع التراث الحضرمي، أو الموروث الشعبي، والثقافة الشعبية العامّة، وندوِّنُها وفق ثلاث مراحل، الأولى: مرحلة التجميع، بعدها مرحلة التنقيب، أو التحديد والتفنيد والمراجعة، ثم مرحلة التحليل والتعليق والكتابة.
همسة الخاتمة:
كانت هذه هي خلاصة لمجمل ما نثره شيخنا الجليل الفقيد عبد الرحمن عبد الكريم الملاحي في تلك الأمسيات الحميمية التي شهدتْها مدينة المكلا، وفي قلب حي شرج باسالم – حي العمال، في قاعة الاتحاد، التي كانت يتوافد إليها الكثير من الشخصيات الأدبية والثقافية والأكاديمية والمهتمة بالمشهد الثقافي، والحريصة على تتبع خطى الرحلة لهذه القامة الحضرمية الفكرية السامقة، وتختلط فيها المشاعر النبيلة التي أحاطت ودفعت به إلى الاسترسال في نثر هذه الذكريات والأحداث بروحٍ عامرة بالمحبة والإخلاص لكل تراث حضرموت وترابها الطاهر النقي.