شخصيات
د. محمد صالح بلعفير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 30 .. ص 68
رابط العدد 30 : اضغط هنا
المقدمة
في دراسة سابقة لنا عن عالِم حضرمي فذ هو الطيب بن عبدالله بن أحمد بامخرمة (٨٧٠-٩٤٧هـ/١٤٦٥-١٥٤٠م) ، والذي عُرف في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي أيام الدولة الطاهرية بقاضي ومفتي عدن، فضلاً عن مؤلفاته النفيسة في الفقه والتاريخ والتراجم والجغرافية، فقد أيقنت تماماً أن حضرموت أرضاً ولادة بالعلماء العاملين والسادة المربين على حد قول المؤرخ محمد بن عمر الطيب بافقيه الشحري وهو من مؤرخي القرن العاشر الهجري. فبقدر ما كان الطيب بامخرمة عالِماً غزير الإنتاج ،ومتنوع المواهب، ومتعدد التخصصات، قيّض الله أن يظهر بهذه الأرض المعطاءة بعدما يزيد عن ثلاثة قرون هجرية ونصف القرن عالِمٌ آخر لديه نفس المزايا والخصال، ذلكم هو العلامة والمؤرخ والجغرافي والأديب الأريب ومفتي الديار الحضرمية في زمانه عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف(١٢٩٩-١٣٧٥هـ /١٨٨٢-١٩٥٦م).
والمتتبع لسيرة ابن عبيد الله السقاف سيصل إلى حقيقة لاغبار عليها وهي أنه – رغم تأخر عصره- قد بزّ سلفه الطيب بامخرمة في طرق أبواب الأدب شعره ونثره، ولعل خير مثال على ذلك ديوانه الذي يحمل اسمه وطبع في مصر عام ١٩٥٩م،وضم بين دفتيه عدة أبواب توزعت على التركيات والإماميات والاجتماعيات والصوفيات، وفي هذا الديوان أثبت ابن عبيد الله انه كان شاعراُ قبل أن يكون فقيهاُ وعالِماَ ومؤرخا ، ولاننسى بهذا الصدد روايته(التسعة الرهط) التي عدها البعض أول رواية شعرية يمنية في العصر الحديث. وفي النثر أثبت كذلك مقدرة كبيرة وأنه كان ذا حس نقدي عال ، وانعكس ذلك في آرائه النقدية في كثير من مصنفاته لعل أبرزها وأهمها: (النقد الذوقي)، و(العود الهندي في نقد شعر الكندي)، و(النجم المضي في نقد كتاب عبقرية الرضي) ، ولسنا معنيين هنا بتحليل تلك الآراء ووجهات النظر التي عبرت عن توجهاته الذاتية ومنطلقاته الفكرية والتي ارتبطت بالتطورات السياسية والاجتماعية في قُطره حضرموت وادياً وساحلا، فضلا عن اليمن والعالمين العربي والإسلامي ، فهذا سيتم تناوله في مناسبات قادمة إن شاء الله تعالى.
على أنه ينبغي الإشارة إلى أن السبب الرئيس للكتابة عن ابن عبيد الله السقاف هو التقاؤه مع العلامة والمؤرخ بامخرمة في خوض مجال الجغرافية والأنساب، وإلا فهو شخصية غنية عن التعريف وأقيمت عن حياته ومصنفاته ومواقفه الوطنية والسياسية وتوجهاته الفكرية العديد من الندوات والملتقيات البحثية وكتب عنه كذلك البحوث والدراسات فضلاً عن المقالات.
فكما بامخرمة، كان ابن عبيد الله غزير الانتاج بل إنه فاقه في تعدد العلوم والفنون وتنوع المؤلفات. ففي الفقه: له كتاب(صوب الركام في تحقيق الأحكام، ٣ مجلدات) ، و(حاشية على كتاب فتح الجواد)؛ وفي علم الحديث كتاب(بلابل التغريد فيما أُستفيد من علم التجريد)؛ وفي التاريخ كتاب(بضائع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت)؛ وفي الجغرافية والأنساب كتاب(إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت)؛ وفي الثقافة والدراسات الإسلامية: كتاب( الإسلام المفترى عليه)، وكتاب( السيف الحاد لقطع الإلحاد)، و(حاشية الشمائل للترمذي)، و(حاشية على التحفة). ويقيناً أنه لولا انشغاله بالأعمال العلمية والتعليمية بل حتى السياسية منها، وبعمل أرفع مقاماً وأكثر عناءً وهو الفتوى، زيادة على أسفاره في المهاجر الحضرمية في شرقي أفريقيا وشرقي آسيا ، لكان إنتاجه أكثر غزارة مما عرفناه وأوسع فائدة مما علمناه .
الميلاد و النشأة
يفهم مما توافر لدينا من معطيات أن العلامة ابن عبيد الله السقاف، ولد بحي عَلَم بدر من ضواحي سيئون بحضرموت في شهر شعبان 1299هـ ، وتذكرنا نشأته العلمية تماماً بنظيره العلامة الطيب بامخرمة ، فقد نشأ في بيت علم ،حيث حظي بتعليم والده له والإشراف على رعايته ،وحرصه على ملازمته له في مجالس العلم ، والأكثر من ذلك أن والده اختار له بعض المعلمين الذين كان لهم الأثر الكبير في تكوين شخصيته العلمية، ومن هؤلاء العلامة عيدروس بن عمر الحبشي المتوفى سنة ١٣١٤هـ الذي عده ابن عبيد الله شيخ فتحه ،والذي كثيرا ما يشير إليه بالأستاذ الأبر.
ولقد توافرت فيه مجموعة خصال من صفاء الذهن والذكاء ما منحه في مقتبل شبابه القدرة على الاشتغال بالتدريس والخطابة، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك بالانخراط في الشأن السياسي والاجتماعي بعدما هاله حالة التخلف والانحطاط التي أصابت مجتمعه المحلي وعالمه الإسلامي في مقتل، الأمر الذي دفعه إلى الاتصال بقادة وطنه والمسلمين ،ومن ثمّ تجريد قلمه وقصائده لتشخيص العلل والنصح بتحديد الدواء لعلاج علات الأمة الإسلامية ولاسيما في مصر وسورية، فضلاُ عن المهاجر الحضرمية، والتي عكست بحق أخلاقه الرفيعة وما تمتع به من حرية الفكر وصراحة الرأي، والأهم من ذلك موقفه الذي لا يقبل المهادنة ضد التخلف والغلو والتطرف والجمود والتعصب الأعمى في وطنه والبلدان التي استقر بها الحضارمة في مهاجرهم ، الأمر الذي سبب له متاعب جمة وغضب البعض بمن فيهم رهطه العلويين، ولتحقيق أهدافه في التنوير والإصلاح أخذ على عاتقه تكوين الجمعيات والقيام بالأسفار حيثما هاجر بنو وطنه.
ويظهر، بمالايدع مجالاً للشك ، أن الشأن السياسي قد أخذ كثيراً من وقته وجهده بعدما أدرك الأبعاد الحقيقية للاستعمار البريطاني في وطنه والجنوب العربي ككل ، وهذا ما يفسر لنا إسراعه إلى الاتصال بالسلطان العثماني بوساطة واليه على لحج سعيد باشا وهو أمرٌ جرّ عليه غضب السلطات البريطانية التي لم تتردد لحظة في نفيه عن بلدته. وبسقوط الدولة العثمانية الذي أحزنه كثيراً وكان يعوّل على دعمها ومساندتها لتحرير بلاده ، ولّى وجهه شطر إمام اليمن يحيى بن حميد الدين حاثاً إياه على القيام بتخليص بلاده من الحكم البريطاني، وكان من نتائج تلك المساعي أن تبادل الرسائل مع الإمام وماحوته من قصائد نشرت فيما بعد في باب من ديوانه بعنوان: الإماميات. وبعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والنشاط الاجتماعي والسياسي كانت نقلته إلى الآخرة بمدينة سيئون بتاريخ ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٣٧٥هـ / يناير١٩٥٦م. وإذا كان من كلمة تلخص سيرة العلامة ابن عبيدالله، فإنا نقول فيه ماقاله المؤرخ الشلّي في كتابه(السناء الباهر بتكميل النور السافر في أخبار القرن العاشر) عن الطيب بامخرمة إنه: علامة من علماء الإسلام، مالك ناصية العلوم، وتفنن في عدة علوم، وكان من أصح ذهناً وأذكاهم قريحة وأقربهم فهماً، حسن السيرة والمحاضرة، لطيف المذاكرة والمحاورة، وبالجملة فهو من محاسن الدهر، جمع الله تعالى فيه الصفات الحسنة من حُسن الخُلق والسياسة، والتواضع والصبر والرفق، وتحمل أذى الناس، وحسن التدريس والمواظبة على الطاعات.
إدام القوت: المنهج والموارد
يعتبر كتاب(إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) بحق أول موسوعة جغرافية عن بلدان حضرموت، ولايضاهيه في ذلك أي كتاب آخر، حتى معجم البلدان لياقوت الحموي، وكتاب النسبة إلى المواضع والبلدان لبامخرمة . ومع إن الكتاب يفتقر إلى التقديم أو أن الوقت لم يسعف المؤلف لوضع مقدمة يشرح فيها أسباب تصنيفه له وخطته وموضوعاته ومصادره، إلا أن محتويات الكتاب تعبّر عن ذلك، ولاسيما أنه ضمّنه توطئة تعريفية بحضرموت وثلاثة أقسام، الأول: يختص بمرافئ حضرموت من أعلاها إلى أدناها ،والثاني :يتناول أواسط حضرموت من أعلاها إلى أدناها، والثالث والأخير فينحصر في نجود- هضاب – حضرموت من أعلاها إلى أسفلها.
وتكمن أهمية الكتاب ليس فقط في وصفه لبلدان حضرموت، بل في الوقت نفسه في دقته العلمية وبخاصة تحديد ووصف الحدود الطبيعية والسياسية التي كانت عليها حضرموت قديماُ، وقبل أن تعصف بها الصراعات والأطماع القبلية، والتدخلات الاستعمارية البريطانية، ثم التقسيمات الإدارية لحكومات مابعد الإسقلال التي تعمدت- وبسوء نية – قضم أجزاء من حضرموت وإلحاقها بمحافظات أخرى. ولعل مما يزيد من أهمية الكتاب تخطيه للحدود الجغرافية ليشمل بلدان حضرموت من حيث النشأة والتاريخ والقبائل والأسر التي تقطنها والأنساب، والمشاهير من الأعيان والعلماء، وتحلية كل ذلك بما اطلع عليه وحفظه من الأشعار والنكت والطرائف، وهي معلومات ثرة تشوّق القارئ ولاشك. وبموآزاة ذلك عرض المؤلف لبعض المسائل الفقهية والمشكلات الشرعية كلما تتطلب السياق الخوض فيها أو العروج عليها، وعمدته في ذلك علمه الغزير وثقافته الواسعة وأسفاره العديدة التي جال فيها بلدان حضرموت، والوقوف من قرب على أحوالها وتراثها الحضاري والفكري، كما لم يغفل ابن عبيدالله ان يدوّن بعض محطات حياته الخاصة ولعل خير مثال على ذلك حديثه عن والد زوجته عبدالله بن حسن صالح البحر في ذي أصبح، فضلاً عن تناول المؤلف لحياته التعليمية والعلمية ومن ذلك حديثه عن شيوخه في سياق ترجمته لوالده، وكذلك لشيخه العلامة عيدروس بن عمر الحبشي.
وأما عن منهج الكتاب فقد ابتكر منهجاً لم يسبق إليه، فعلى النقيض من ياقوت الحموي والطيب بامخرمة اللذين اعتمدا منهجاً يقوم على ترتيب الموضوعات على حروف المعجم، فإن ابن عبيد الله السقاف اتخذ منهجاً مغايراً تماماً، بل فريداً من نوعه، يقوم على تقسيم موضوع كتابه – كما كنا قد أشرنا – إلى ثلاثة أقسام وصفت البلدان الحضرمية من أعلاها إلى أدناها، ونجودها من أعلاها إلى أسفلها، وهذا المنهج المبتكر بقدر ماله من قيمة علمية، فهو ييسر على المسافر سواء كان باحثاً أو زائراً التعرف على مواقع تلك البلدان من دون مرشد أو دليل.
وطالما أن الشيء بالشيء يذكر ، وما دمنا بصدد المنهج ، تحتم الإشارة إلى أن ابن عبيد الله قد استفاد كثيراً من منهج الطيب بامخرمة في كتابه(النسبة إلى المواضع والبلدان) في مسألة العناية بإيراد نتف من التاريخ والأنساب، وذكر المشهورين من العلماء والأعيان، واستحضار الفرائد من الأخبار والقصص والأشعار، وبتعبير آخر فكتاب بامخرمة يعد أحد مصادره ونجده يذكره ويشير إليه في أكثر موضع.
وبالانتقال إلى مصادر كتاب إدام القوت، فالقارئ قبل الباحث سيصل إلى قناعة تامة بأن العلامة ابن عبيد الله قد كوّن مكتبة معتبرة تعج بالمصنفات في علوم وفنون ترتبط ارتباطاً وثيقة باهتماماته العلمية والبحثية، وأنه كان يتابع كل جديد على الصعيدين المحلي والخارجي سعياً إلى اقتنائه. وفي تأليف إدام القوت، فالحق أنه قد اعتمد على مصادر عديدة ونفيسة في التاريخ والجغرافية والأنساب والتراجم واللغة العربية، وأول هذه المصادر كتاب له بعنوان(بضائع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت) الذي كثيراً مايشير إليه بقوله” وقد ذكرت ذلك في الأصل” أو” هذا مفصّل في الأصل” ؛ ويليه كتابان للطيب بامخرمة هما: (النسبة إلى المواضع والبلدان)، و(قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر) ، وتاريخ حضرموت(تاريخ شنبل) المتوفى سنة ٩٢٠هـ، و(عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر) لمحمد بن أبي بكر الشلي المتوفى سنة ١٠٢٣هـ ، و(النفحات المسكية في أخبار مدينة الشحر المحمية) لعبدالله بن محمد جمل الليل باحسن المتوفى سنة ١٣٤٧هـ ،و العقد الفاخر في أخبار القرن العاشر ( تاريخ باسخلة) لعبدالله بن محمد باسخلة المتوفى سنة ٩٨٧هـ، و( برد النعيم في نسب الأنصار خطباء تريم) لمحمد بن عبدالله بن سليمان الخطيب، و(تراجم الأولياء والصالحين من أهل اليمن) لمحمد بن مسعود بن سعد باشكيل المتوفى سنة ٨٧١هـ، و( الجوهر الشفاف في فضائل و مناقب السادة الأشراف) لعبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن الخطيب المتوفى سنة ٨٥٥هـ، و(الدرر الفاخر في تراجم أعيان القرن العاشر)لمحمد بن عبدالرحمن باجمّال المتوفى سنة ١٠١٩هـ، و( روضة الألباب وتحفة الأحباب وبغية الطلاب ونخبة الأحساب في معرفة الأنساب المعروف بمشجر أبي علامة) لمحمد بن عبدالله بن علي المؤيدي الملقب بأبي علامة، و(شمس الظهيرة في أنساب السادة العلوية) لعبد الرحمن بن محمد المشهور المتوفى سنة١٣٢٠هـ، و(صلة الأهل في مناقب فضلاء أبي فضل) لمحمد بن عوض بن محمد بافضل المتوفى سنة ١٣٦٩هـ، و(العقد النبوي في مناقب أهل البيت المصطفوي) لشيخ بن عبدالله بن شيخ العيدروس المتوفى سنة٩٩٠هـ، و (فتح الرحمن الرحيم في مناقب الشيخ عبدالله بن أبي بكر بن عبدالرحمن العيدروس) للشيخ عمر بن عبدالرحمن السقاف المعروف بصاحب الحمراء المتوفى سنة ٨٨٩هـ، و(المشرع الروي في مناقب السادة بني علوي)، لمحمد بن أبي بكر الشلي،و( مفتاح السعادة والخير في مناقب السادة آل باقشير) لأبي شكيل، و(المواهب والعطايا والإمداد في مناقب الشيخ عبدالله الحداد) لعبدالله بن محمد باشراحيل المتوفى سنة ١١٠٥هـ، و(المواهب والمنن في مناقب قطب الزمن الحسن بن عبدالله الحداد) لعلوي بن أحمد بن حسن الحداد المتوفى سنة ١٣٣٢هـ، و(قلادة النحر في مناقب السيد حسن بن صالح البحر) لعبدالله بن سمير المتوفى سنة١٢٦٢هـ، و(بستان العجائب) لمحمد بن سقاف بن الشيخ أبي بكر بن سالم، و( الدر المزهر على منظومة مدهر) لأحمد بن علوي بن هارون الجنيد المتوفى سنة ١٢٧٥هـ، و( الرياض المؤنقة) و(سفينة البضائع وضميمة الضوائع) لعلي بن حسن العطاس المتوفى سنة ١١٧٢ هـ ،و(مجمع البحرين) لمعروف بن محمد باجمّال، و(مفتاح السنة) للشيخ أبي بكر بن عبدالله باشراحيل، و(مقال الناصحين ومنال المفلحين) لمحمد بن عمر باجمّال المتوفى سنة ٩٦٤هـ.
ولاشك أن هذا الحشد من المصادر الحضرمية الخالصة لم يكن وحده الذي اعتمد عليه المؤلف في تصنيف كتاب إدام القوت، إذ ثمة مصادر أُخر غير محلية رجع إليها ونراه يشير إليها في متن كتابه، مرة لفائدتها، ومرة أخرى لنقدها وتصحيح أخطائها مثل: كتاب(الإكليل) و(صفة جزيرة العرب) للسان اليمن أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، و(معجم ما استعجم) لأبي عبيد عبدالله بن عبد العزيز البكري، و(معجم البلدان) لياقوت الحموي، و(تاج العروس من جواهر القاموس) لمحمد مرتضى الزَبيدي، و(القاموس المحيط) لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي.
معجم فريد
وكتقييم عام لكتاب إدام القوت مقارنة بكتاب النسبة إلى المواضع والبلدان لبامخرمة، يمكن القول إن ابن عبيدالله السقاف قد بذل جهداً كبيراً وصرف وقتاً طويلاً من عمره في إعداد هذا المعجم الفريد من نوعه الذي يعد-كما ذكرنا- أول موسوعة جغرافية عن بلدان حضرموت .فهو وبالنظر إلى أنه صنّف معجمه عن بلاده حضرموت التي تعتبر أكبر أقاليم الجنوب في المساحة الجغرافية ، و الفترة الزمنية الطويلة التي تفصله عن بامخرمة، قد توافرت له ولاشك مصادر محلية متأخرة وكثيرة عنيت بأنساب القبائل والبطون والعشائر التي قطنت الديار الحضرمية، وكذلك العوائل العلوية التي لم يغفل تناول أقطابها والإشارة إلى المشاهير من رجالها، فضلاً عن خوضه في أنساب القبائل اليافعية التي أستقدمت إلى حضرموت في عهود ماضية، وتمكنت وفي فترات مختلفة من تأسيس كيانات سياسية ودول كان آخرها السلطنة القعيطية. ومما لاشك فيه أن تلك المصادر الحضرمية التي ظهرت بعد عصر بامخرمة بمدة طويلة، زيادة على أسفار ابن عبيدالله وزياراته الميدانية للكثير من بلدان حضرموت والوقوف على آثارها، قد مكنته من معرفة حقائق كثيرة والإطلاع على معطيات غزيرة، وتبعاً لذلك ظهر كتابه غنياً بالمعلومات وحافلاً بالتفاصيل عن قبائل حضرموت وأنسابها، وتلك القبائل الوافدة والنازحة إليها. ولمّا أن محتوى كتاب إدام القوت ينحصر في حضرموت وحدها، فقد آلى المؤلف على نفسه أن يحصي كل بلدانها(مدنها وقراها وحصونها) التي تزيد عن مائتي بلدة وموضع، غير تلك التي تواليها أو تدانيها والتي نجده يعرض عنها من دون تفصيل.ومع ذلك فإن ما يحسب للمؤلف جهده منقطع النظير في إحصاء الكتل القبلية الكبيرة بحضرموت وقبائلها الرئيسة ببطونها وعشائرها، وتتبع أصولها وأنسابها فضلاً عن الأسر العلوية والقبائل اليافعية، التي ليس بمقدورنا هنا تعدادها لكن أهمها بالطبع كندة،وسيبان ،ونهد، وتلك التي تنتسب إلى مذحج، والشنافر، والمناهيل، جميعها بفروعها العديدة وتفرق ديارها.
ويمكن القول، إن هذا المعجم الجغرافي لابن عبيد الله السقاف قدّم تفاصيل ومعطيات غزيرة تفوق بكثير معجم بامخرمة، ولعل مايزيد معجم السقاف أهمية هو استخدامه – كما بامخرمة – منهج النقد العلمي الصرف في تحليل المعطيات وتفسير التسميات وإرجاعها إلى أصولها، وعدم موافقة كل من نقل عنه في كل مايراه غير مطابق من الأوصاف للبلدان والمواضع، وكان نقده علمياً مجرداً يرمي إلى تصويب الخطأ وتصحيح المعلومات، ولذلك طال نقده الموضوعي بعض المصادر، وخير مثال على ذلك كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي، وتاج العروس للزَبيدي، والقاموس المحيط للفيروز آبادي , والأمر نفسه بالنسبة إلى المراجع الحديثة، ومعاصريه من العلماء و الفقهاء .
زبدة القول
يعجز اليراع عن التعبير لهذا العِالم الفذ، فابن عبيدالله السقاف لم يكن فقيهاً ومصلحاً فقطً، بل كان كذلك مؤرخاً وجغرافياً وأديباً وشاعراً ومثقفاً موسوعيا. وبتعبير آخر، فهو يعتبر من العلماء المعدودين الذين أنجبتهم حضرموت . فعلاوة على غزارة علمه وتنوع مواهبه فقد تفنن في عدة علوم وتخصصات، وبلغ من علو مكانته ورفعة علمه أن عرف بمفتي الديار الحضرمية.
ويعد كتابه(إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) ليس معجماً جغرافياً عادياً لبلدان حضرموت، بل أثرا علمياً موسوعياً نفيسا ، وعلى درجة كبيرة من الأهمية في نواحي أخرى: التاريخية والنسبية والأدبية، وهو كتاب عظيم الفائدة ولاشك، ولعل ما زاد من أهميته أنه تخصص في جغرافية بلاده فقط ، وتبعاً لذلك أتت مادته غنية ومعطياته وفيرة ، وعمدته في ذلك علمه الغزير وأسفاره الكثيرة التي جال فيها معظم بلدان حضرموت، و هو ما يعني أنه صنّف معجمه عن زيارات ميدانية ووصف واقعي ، وهذه ميزة لا نجدها إلا عند عدد قليل من الجغرافيين المسلمين ؛ بل إنه فاق أكثرهم بدقة وصفه ومشاهداته وبغزارة معلوماته. وبقدر ما استفاد ابن عبيد الله في تأليف كتابه المذكور في المحتوى والمضمون من منهج الطيب با مخرمة في معجم النسبة إلى المواضع والبلدان ، فإنه كمؤرخ وجغرافي متأخر عنه بما يزيد عن ثلاثة قرون ونصف القرن، بزّه في التعريف ببلدان حضرموت موقعاً ونشأة وتاريخاً مع إبراز القبائل والأسر التي سكنتها وتتبع أصولها وأدوارها في التاريخ ، وتسليط الضوء على حياة المشاهير من أعيانها ليس فقط داخل حضرموت ؛ بل خارجها في المهاجر الحضرمية: الحجاز ، وسواحل أفريقيا الشرقية ، والهند ، وجنوب شرقي آسيا.