ترجمة
د. خالد عوض بن مخاشن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 30 .. ص 80
رابط العدد 30 : اضغط هنا
الخلاصة:
حتى وقت قريب، كانت اللغة الحضرمية القديمة هي الأقل شهرة والأقل دراسة من لغات جنوب الجزيرة العربية القديمة، كما أن هناك صعوبة أخرى تتعلق بدراسة النقوش الحضرمية، وهي أن هذه النقوش مجزأة من حيث التسلسل الزمني والجغرافي. تقدم هذه الورقة بعض الأفكار عن التاريخ والسمات الفريدة للغة الحضرمية القديمة، وثقافة حضرموت ما قبل الإسلام، مع الأخذ بعين الاعتبار بعض القضايا الأكثر أهمية في دراسات جنوب الجزيرة العربية القديمة. ويوضح البحث كيف هي مملكة حضرموت، رغم أنها تحمل بعض السمات المشتركة بين جميع ممالك الجنوب العربي، فإنها تمكنت من تطويرها واستيعابها في مرحلة مبكرة من مراحل نضجها، وبفضل وجود مجموعة متنوعة من الركائز الثقافية في البلاد، تمكنت حضرموت من الحفاظ على السمات الفريدة للغتها ووسعَّـتْها، وغالبًا ما كانت تنقل نماذجها اللغوية الأسلوبية إلى لغات ممالك الجنوب العربي القديمة الأخرى.]
الكلمات المفتاحية: الجنوب العربي، النقوش، حضرموت.
.1 المقدمة
إلى عهد قريب كانت اللغة الحضرمية القديمة هي الأقل شهرة والأقل دراسة بين لغات جنوب الجزيرة العربية القديمة. فعلى الرغم من أن الحفريات الأثرية في حضرموت بدأت في وقت مبكر جدًا، خلال الأربعينيات من القرن العشرين، واستمرت بشكل مكثف مقارنة بالأبحاث التي أجريت عن الممالك العربية الجنوبية القديمة الأخرى، ظل عدد النقوش الحضرمية التي تم الكشف عنها محدودًا لعقود عدة، ويميل العلماء إلى التركيز على اللغة السبئية أولًا، ثم على اللغتين القتبانية والمعينية، فلم يقدم بيستون (Beeston)في كتابه (نحو السبئية واللغات الجنوبية) سوى موجزٍ مختصرٍ جدًا للخصائص الرئيسة للغة الحضرمية.
غير أن البعثات الأثرية الفرنسية المنتظمة إلى (شبوة) والبعثات الأثرية الروسية إلى (ريبون) خلال العقود الماضية أدت إلى اكتشاف عدد كبير من النقـوش، وتمَّ الآن نشر حوالي ألف نقش منها. لقد بذل فرانتسوزوف Frantsouzoff) ) جهدًا كبيرًا في دراسة هذه النصوص ونشرها، وقد أسهم عملُه كثيرًا في تحفيز اهتمام العلماء بـاللغة الحضرمية القديمة وسماتها الفريدة، والتي تبدو مختلفة تمامًا عن غيرها من اللغات العربية الجنوبية القديمة الأخرى.
لقد أعطت التقسيمات الفرعية النموذجية التي اعتمدناها لنشر نقوش حضرموت في موقع (مجموعة النقوش العربية الجنوبية) ((CSAI صورة أوضح لهذه المجموعة من النقوش الحضرمية على المستويين الوصفي والتطوُّري المتزامنين.
وعلى الرغم من الصعوبات المختلفة، فقد مضت دراسة اللغة الحضرمية قدمًا، وتم تحديد العناصر المميزة المتعلقة بقواعدها وصيغها، مما يسمح لنا بتتبع الخطوط العريضة لتطورها الأسلوبي. لكن لا تزال دراسات التحليل التفصيلي للأنظمة النحوية للغة وتطورها مع مرور الوقت قليلة، مقارنة بتلك الأبحاث التي أجريت في السنوات الأخيرة عن التسلسل الزمني اللغوي والجغرافي للغتين السبئية والقتبانية.
والتحدي الآخر الذي نواجهه يتمثل في الطبيعة المجزأة لمجموعة النقوش الحضرمية من حيث التسلسل الزمني وجغرافيتها. ويمكن أن نذكر، كمثال، على ذلك: عدم استمرارية التوثيق في كل المواقع الأثرية الحضرمية، فمثلًا العاصمة – شبوة – تم فيها الكشف عن أقل من مائة نقشٍ، يعود تاريخها إلى أكثر من ألف عام، القليل منها فقط له أهمية تاريخية.
إن هذه الورقة ستقدّم بعض الأفكار عن التاريخ والسمات الفريدة للغة والثقافة الحضرمية في عصر ما قبل الإسلام، مع الأخذ في الاعتبار بعض القضايا الأكثر أهمية في دراسات اللغات العربية الجنوبية القديمة.
. 2 الفترة التكوينية: اصول اللغة الحضرمية ودور السبئنة
يعد موضوع أصل ثقافات جنوب الجزيرة العربية القديمة المختلفة وارتباطاتها واختلافاتها أحد أهم القضايا في دراسات جنوب الجزيرة العربية القديمة اليوم. ويعتقد الباحثون الآن أنه، مثلما نشير إلى ممالك الجنوب العربي بصيغة الجمع، يجب علينا أن ننظر إلى لغات الجنوب العربي وثقافاته باعتبارها ظاهرة متنوعة وليست ظاهرة متجانسة، وإن وجد بعض التجانس فيما بينها في مجالات الكتابة وعبادة الإله نفسه، وبعض المصطلحات اللغوية، وجوانب معينة من ثقافتهم المادية.
2.1 الأصول السبئية المفترضة للمدن الحضرمية
ظهرت في السنوات الأخيرة، عدد من الآراء التي تشكِّك في وجهة النظر التقليدية القائلة إن تجانس الممالك العربية الجنوبية يعود إلى الهيمنة السبئية على هذه الممالك خلال مراحل نشوئها. كان لهذه الفرضية المبكرة عواقب بعيدة المدى على دراسة حضرموت، أكثر مما أثرت في دراسة تاريخ قتبان ومعين. وقد ذهب بيرين (J.Pirenne) إلى أبعد من ذلك ليقترح أن النقوش القديمة التي تم العثور عليها في موقع البريرة في وادي جردان، والتي تحتوي على الفعل السبئي الإهدائي (هقني) كتبها المهاجرون السبئيون الذين أسسوا المستوطنة في الأصل، مرجِّحًا احتمالية احتلال جماعة من السبئيين للعاصمة شبوة خلال مرحلة ما من مراحل تاريخها القديم. ويبدو أن وجود السبئيين في شبوة قد تم تأكيده من خلال اكتشاف هاميلتون (R.A.B. Hamilton) لبعض أجزاء اللوحات النذرية السبئية في عام 1938، ويعتقد بيستون ((Beeston أن العبارة (كبر نزحت) الموجودة على إحدى هذه القطع يمكن ترجمتها إلى “كبير – قاضي الغرباء”، مما يؤكد فكرة أن مجتمعًا أجنبيًا من المستعمرين السبئيين استقر في العاصمة الحضرمية. ومع ذلك، ولأسباب عدَّة، تظل هذه النظرية، رغم أنها مثيرة للاهتمام، غير محتملة. إن مجمَّع المباني (التي عثر على النقوش بجوارها)، والتي هي في الأصل بمثابة معبد لا تزال موضع خلاف بين علماء الآثار. تشير الطبيعة المتنوعة للوثائق الموجودة في الموقع إلى أن هذا الموقع ربما كان منطقة من المدينة، حيث كان يتم فيه تخزين أشياء من مصادر مختلفة – ربما غنائم حرب – لسبب محدد ولكن غير معروف حتى الآن.
في الواقع، تم اكتشاف نقوش تذكر إله السبئيين (المقه)، ولكن بأعداد محدودة في (ريبون) ومواقع أخرى في وادي حضرموت، لكن يظل احتمال أن تكون أي من المدن الحضرمية قد أسسها السبئيون مجرَّد احتمال بعيد، على الرغم من أنه يبدو من المعقول افتراض أن مجموعات من السبئيين استقرَّت في بعض المدن، كما فعل القتبانيون والمعينيون، بناءً على أدلة، مثل الإهداء لآلهة هذه العصور.
2.2 اللاحقة -ها
لقد رأى العلماء أن أهم دليل على عملية السبئنة هو استخدام الفعل (هقني) والضمير المتصل (-ها( في جميع اللغات الجنوبية العربية القديمة – بشكل أساسي خلال المرحلة القديمة.
ولكن في السنوات الأخيرة، أصبح هذا الرأي موضع شك أيضًا، ويعـد بعض العلماء الآن أن الصيغ التي تحتوي على الضمير المتصل (-ها) ما هي إلا صيغًا قديمة مشتركة، وليست سبئية تبنَّـتْها ممالك أخرى غير سبأ لأسباب أسلوبية.
على أية حال، ما ينبغي التأكيد عليه هو حقيقة أن هذه السمة اللغوية تم تعديلها واستخدامها بطرق مختلفة في كل مركز من المراكز غير السبئية. ففي المعينية مثلًا نجد الاستخدام حصريًا للاسم “هقنيت”، والتي تعني “الإهداء”، وقد وُجدت في مجموعة صغيرة من النقوش التي تعود إلى مرحلة ما بعد العصر القديم. كما تشير غالبية هذه النصوص إلى انشغال المعينيين بشؤون التجارة، وكثيرًا ما تذكر البلدان الأجنبية التي تمر عبرها قوافلهم، أو الاشتباكات التي كانت تقع في طول طريق القوافل العربية المتجهة شمالًا مع المجتمعات غير المعينية، خاصة مع السبئيين وأهل نجران. هذا الاعتبار، إلى جانب وجود كلمة معينية معادلة للكلمة السبئية (هقنيت) ألَا وهي (سقنيت) وإن كانت هذه الكلمة غير مستخدمة كثيرًا في اللغة المعينية، غير أنها تؤكد أن (هقنيت) مجرَّد لفظ تم استعارته من اللغة السبئية.
أمَّا فيما يتعلق باللغة القتبانية فالفعل (هقني) له ظهور محدود جدًا خلال الفترة A، في حين أن الضمير اللاحق (-هو) مستخدم في نطاق واسع، ويبدو أنه كان اختيارًا أسلوبيًا ظل قيد الاستخدام العام حتى وقت متأخر جدًا، على سبيل المثال: في نصوص الفترة B2.
وفي اللغة الحضرمية قد حدثتْ عملية لغوية في الاتجاه المعاكس؛ في حين اختفى الضمير اللاحق (-هو) في وقت مبكرٍ جدًا (خلال الفترة A)) استمر استخدام الفعل (هقني) حتى القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد (الجزء المبكر من الفترة B). وتم االعثور في نقوش المرحلتين على الفعل (هقني)، ولكن مع الضمائر الحضرمية ذات الأصوات الصفيرية المهموسة والأصوات بين الأسنانية.
(CT 31 (period A
حمهمو بن ذي ارم هقني سين نفس– س
“حمهمو ابن ذي ارم اهدى الاله سين نفسه”
ريبون 1/84 رقم 253 (Period B)
ثمكهمو بن ندوبم هقني ذت هميوم… . و تد با ذن ذات حميوم نفس – س
تمكهمو ابن ندوبم اهدى لذات هميوم … ووضع تحت ارادة ذات حميوم حياته
2.3 خطّ المحرّاث (الكتابة القديمة)
خط المحراث هي طريقة قديمة لكتابة الخط المسند، يكون اتجاه الكتابة في الأسطر الوترية من اليمين إلى اليسار، وفي الأسطر الشفعيّة من اليسار إلى اليمين، مما يؤدي إلى قلب اتجاه بعض الحروف؛ ليوافق اتجاه الكتاب.
ويمكن قول الشيء نفسه فيما يتعلق بخط المحراث؛ فقد كانت هذه السمة الأسلوبية سمة نموذجية لسبأ، ولم تكن فقط تظهر بانتظام في الوثائق السبئية من فترة مكرب سبأ فحسب، بل تكررت في القرون التالية. في وقت متأخر جدًا، في بداية القرن الثالث قبل الميلاد، عندما استخدمه (يدع علي بين) ابن (كرب ايل وتر)، ملك سبأ، في كتابة مرسومه الملكي CIH 562,25، وأصبح خط المحراث أكثر من مجرد مسألة أسلوب؛ إذ اكتسب دلالات أيديولوجية قوية، تربط الملك بالتقليد المجيد لأعظم المكربين السبئيين.
في المقابل، يبدو أن ممالك جنوب الجزيرة العربية القديمة الأخرى اعتبرت خط المحراث طريقة قديمة في الكتابة، قد عفا عليها الزمن ولا توحي بارتباطات أيديولوجية معينة، فتم إهمالها.
يعد النقش الصخري، (أرباخ- بافقيه العقلة 1، Arbach-Bāfaqīh al-‘Uqla 1) واحدًا من النصوص الحضرمية القليلة المكتوبة بخط المحراث التي ظهرت إلى النور:
L1 1-3 يدع ايل بين ملك حضرمت مخض قتبن ب-خل سين و ب-خل حول
يدع ايل بين ملك حضرموت هزم قتبان بقوة سين وب-قوة حول
تمت كتابة النص أعلاه في القرن السابع أو السادس قبل الميلاد، بعد أن أمر بكتابته أحد الملوك الحضرميين الأوائل للاحتفال بانتصاره على قتبان، النص مكتوب بلغة قديمة جدًا، مع وجود خاصية سبئية واضحة. وفي النص ابتهال للزوجين الإلهين (سين) و(حول) باعتبارهما الإلهين المؤسسين للدولة، مع مكانة مساوية لمكانة آلهة السبئيين (ألمقة) و(هوبس)، وتم استخدام الفعل “مض” “يكسر” – وهو الفعل الذي استخدمه المكربيون السبئيون الأوائل، ليرمز إلى كسر العدو. وفي الوقت نفسه، يحتوي النص على بعض الابتكارات الحضرمية المثيرة للاهتمام، مثل صيغة (ب-خل)” “بقوة “، وهو أول ظهور لهذا الاسم في اللغات الجنوبية العربية القديمة.
2.4 مفهوم الوعل في الفنون البصرية
في مجال الفنون، استوعبت ممالك جنوب الجزيرة العربية الأخرى مفهوم السبئيين للوعل، ولكن بطرق مختلفة. لقد كان الوعل عنصرًا أيقونيًا مُفـضَّلاً في الثقافة السبئية منذ أقدم العصور، وغالبًا ما كان يُستخدم لتزيين اللوحات النذرية التي تحمل نقوشًا، إذ تم تصوير الوعول الرابضة إما بشكل جانبي في المربعات الغائرة، أو بشكل أمامي كنظريات للرؤوس. ولكن في مملكة قتبان، تم تضمينه بشكل متكرر في الزخرفات المعمارية؛ إذ لم يعدُّه الفنانون القتبانيون مناسبًا للوحات الإهدائية. وقد عثر على أمثلة تـؤكد ذلك من وادي (الجوبة)، وهي المنطقة التي كانت ذات يومٍ سبئيةً، ثم وقعت تحت حكم قتبان. وأمثلة أخرى لحضرموت نادرة، ولكن تم العثور على الوعل في أشياء قديمة يمكن ربطها بتقاليد الجوف، مثل: قاعدة التمثال، التي تم العثور عليها في حريضة والمجودة في متحف المكلا. 219.31 فقد تم إدخال اختلافات في الزخارف، خاصة على اللوحات الإهدائية؛ على سبيل المثال، هناك تغييرات في شكل قرون الوعل، وهناك تصورات أسلوبية متطورة، مثل رسم الوعول الهائجة المزدوجة التي تؤطر المشهد، أو دمجها مع زخارف أخرى، مثل الهلال والقرص… إلخ (انظر الأشكال3,2,1)
فكما تمكِّـننا بعض السمات اللغوية (على سبيل المثال، الصيغ التي تحتوي على اللاحقة -ها) من معرفة التمايز بين الممالك القديمة، فإنَّ الوعل هنا يمكِّننا الوعل أيضًا من رؤية كيف يمكن استيعاب العنصر الأيقوني بشكل مختلف في هذه الممالك غير السبئية.
3. فترة النضج: الاتصالات مع اللغات الأخرى وإسهام مدرسة الكتابة الحضرمية في نشر النماذج الأسلوبية:
كما هو موضح أعلاه، يبدو أن السبئنة كانت ظاهرة ثانوية في جنوب الجزيرة العربية القديمة، لكننا أوليناها اهتمامًا متزايدًا في دراساتنا؛ لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأصول هذه الثقافات واللغات خلال فترة تكوينها المبكرة.
بالإضافة إلى وجود بعض السمات السبئية فيها، فان اللغة الحضرمية القديمة قد اشتركت في عدد من الكلمات المتشابهة مع اللغتين القتبانية والمعينية، لكن الأمر المهم الذي يجب على العلماء تحديده هو تفسير هذه السمات المشتركة بأنها ألفاظ مهجورة عفا عليها الزمن، أم هي ابتكارات مشتركة، أم ظواهر تداخل معزولة يمكن أن تعزى إلى اتصالات عرضية تمت في مراحل تاريخية محددة.
وبالمثل، يمكن تفسير السمات المُميزة للغة الحضرمية القديمة إما باعتبارها ابتكارات حقيقية، أو خيارات أسلوبية ناشئة عن الإصلاحات في مدرسة كتابة واحدة، ظلت معزولة ولم تنتشر من خلال نظام اللغة ككل. ومن المعروف أن الأمر على عكس الممالك الأخرى؛ إذ كان هناك مراكز عدة للكتابة في حضرموت، ولم تنجح المدرسة الرئيسة في شبوة دائمًا في فرض أسلوبها على المدن الأخرى.
3.1العلاقة بين المركز والأطراف في مملكة حضرموت:
أسهمت الدراسات الحديثة التي أجرتها البعثة الإيطالية في عمان (IMTO) في موقع سمهرم، وهو ميناء بحري قديم، تأسس على الساحل العماني البعيد لمحافظة ظفار، في فهمنا لكيفية تنظيم السلطات وإدارتها في العاصمة لمملكة كبيرة كمملكة حضرموت.
لقد كانت بعض الأنشطة الاقتصادية في مملكة حضرموت مركزية وكانت سمهرم ميناء مهمًّا، وكانت تجارتها تخضع لرقابة صارمة من قبل السلطة المركزية، التي كانت تمثلها الدولة، ولكن وفقاً للمصادر الكلاسيكية، كان للمعابد والكهنة أيضًا دور– من ناحية أخرى. وقد تمت موازنة ذلك من خلال التقسيم الطبقي للسلطة السياسية؛ إذ أنشأ ملوك حضرموت بيروقراطية وتسلسلًا هرميًا للمكاتب السياسية، من أجل حكم المدن النائية في مملكتهم. ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن نقوش البناء المعروضة على واجهات المباني الأثرية – الوسيلة المفضلة للحكام في نقل الأيديولوجية الملكية – كان نادرًا ما يتم الأمر بكتابتها في حضرموت أو في سمهرم من قبل الملك نفسه.
ويبدو أيضًا أن ممارسة الشعائر الدينية كانت مركزية للغاية في سمهرم؛ حيث تبنَّى السكَّانُ عبادة سين بلقبه ذي العليم، وهو الإله نفسه الذي خصص له المعبد الرئيس في العاصمة شبوة.
من ناحية أخرى، يمكن العثور على دليل واضح على عملية التفتت الثقافي في النص المكتوب؛ فالمدينة كان لديها مدرسة الكتابة الخاصة بها – وإن كانت هامشية – ولكنها ظلت نشطة طوال تاريخها بأكمله، كما يتبين من كتاباتها. كان مفهوم النصب التذكاري، أي أسلوب النقش الاحتفالي المخصص للعرض العام، في هذه المدينة الساحلية مختلفًا تمامًا عن مفهوم النصب التذكاري في شبوة، وهي المدينة التي كانت توازي بشكل أوثق ممالك جنوب الجزيرة العربية الأخرى في تطور أسلوب خطها (انظر الاشكال 5,4).
3.2 الابتكارات والميزات اللغوية الخاصة في لغة حضرموت القديمة:
وكما تجلت آلية التجزئة الثقافية الحضرمية على المستوى اللغوي، فإن هناك ابتكارات مهمة في اللغة الحضرمية القديمة مثل ظهور الضمير المفرد المؤنث (- ث / – س) (السين الثانية السامخة) المميز صوتيًا عن اللاحقة الدالة على التذكير، وقد دخل هذا الضمير حيز الاستخدام العام، ووُجد في جميع الوثائق:
Suna/79/L/1 (period A):\
نبحم هقني بنت ايل هبن-ث
نبحم قدمت اهدت قربانا لبنت ايل من اجل ابنها
هناك سمة مميزة أخرى تميز اللغة الحضرمية القديمة عن اللغات الجنوبية العربية القديمة الأخرى بانتظام وهي استخدام حرف الجر / العطف (“اد”)، والذي يعني( “إلى” ، “من أجل”)، في حين كانت اللغات الجنوبية العربية القديمة الأخرى تستخدم (عد)
نقب الهجر )2/2المرحلة ب) MAFYS-Naqb al-Hajar 2/2 (B period) ):
هن عسنم اد منعم
من الأساس إلى القمة
كما عُرفت لغة حضرموت القديمة باحتفاظها باللاحقة (–هن) في حين تستخدم اللغات العربية الجنوبية القديمة اللاحقة (– ن)، وبغض النظر عن المعنى الذي يحمله الصوت الحنجري /–ه/ فهو يعد ميزة من ميزات الحضرمية طيلة مراحل تاريخها وإن استخدم في نحو أقل انتظامًا، فعلى سبيل المثال نجد (بحتهن)، والتي تعني (لوح منقوش) في نقش (ريبونI/84 no. 197a-e/1-2, المرحلة ب)، في حين كتبت في نقش آخر (ريبون I/84 no. 197a-e/1-2 المرحلة ب,) (بحتن)
يعـد حرف الجر/ الرابط (ها-) بمعنى: (ل-، من أجل)، والذي يماثل (ل-) في اللغات العربية الجنوبية القديمة من إبداعات اللغة الحضرمية، ويقتصر استخدامه على حالة النصب (المفعول به)، وعلى العبارة الثانوية الأخيرة من الجملة المعقدة.
KR 6/1-2
برا و شحدث همرا- س ملك حضرمت محفدهن ذا نم
بنا و سلم ل- مولاه ملك حضرموت قلعة ذي انم
الأفعال التضرعية والمجزومة تسبق بالبادئة ( ل-)، وغالبًا ما تجدها في الصيغة ( ل- تشاور)، وهي صيغة توجد في معظم الإهداءات المقدمة لذات حميم في ريبون.
إن الإصلاح الإملائي الذي أدخلته مدرسة الكتابة في ريبون خلال القرن الرابع من الألفية الأولى قبل الميلاد، والذي بموجبه تم استبدال (- ث) بـ(السين الثانية) يقدم مثالًا على عدم الاتساق في النصوص النقشة الحضرمية. وهذا التعديل، الذي تطور جزئيًا لأسباب لغوية، اعتمدته مدن وادي حضرموت، لكن لم تقبله مدرسة شبوة المركزية باستثناء حالات معزولة.
كما يمكن أيضًا ملاحظة تحسن أكبر طرأ على ضمير المذكر (المثنى) المتصل، والذي يبدو أن أشكاله الثلاثة هي مسألة تنوعات في اللغة نفسها. يبدو أن الصيغة الحضرمية (- سمي)، المشابه للصيغة السبئية (- همي)، والقتبانية (- سمي) كانت مخصصًة للنقوش الإهدائية ذات الخصوصية الأكبر.
BAQ 55:
و قاسم بن شرحب تض و ب- اذ سين نفس- سمي و اذن- سمي
و قاسم ابن شر وضع تحت تصرف الاله سين حياتهم و اراداتهم
وعلى العكس من هذا فإن الصيغة (- سمن)، والموجودة أيضًا في اللغة المعينية، تستخدم في اللغة الحضرمية في السياقات الأكثر رسمية. وقد تم العثور على هذا البديل بانتظام في النقوش التذكارية المرتبطة بالإنشاءات الأثرية في موقعي خور روري (سمرهم) والبناء.
KR 4/1-3:
شثم بن فرطم و موا بن مطاع بن حور شبوت تب و شيع مير- سمن ابياتع بن ذمار علي
شثم بن فرطم و موا بن مطاع مواطني شبوة اتبعوا و خدموا مولاهم اياثع بن ذمار علي
وأخيرًا، هناك شكل ثالث لضمير المثنى (- سمين) في اللغة الحضرمية القديمة، وهو ابتكار تاريخي ظهر لاحقًا في القرن الثالث الميلادي:
Ja 969/1-4:
سيكلم و ملكم بني ثعدلت شوعو مر– سمين يدع ايل بيان ملك حضرمت بن ربشمس
سكلم و ملكم بني ثعدلت اتبعا مولاهما يدع ايل بيان ملك حضرموت بن ربشمس
3.3 التداخل اللغوي بين اللغة الحضرمية واللغات الجنوبية العربية القديمة الأخرى
احتوت النصوص النقشية لجنوب الجزيرة العربية على جملةٍ من الأمثلة، التي توكد على وجود تداخل لغوي بين اللغة الحضرمية القديمة وبقية اللغات الجنوبية العربية القديمة، ويمكن أن يُعزى ذلك إلى الاتصالات بين المراكز الثقافية المختلفة في هذه الممالك خلال تاريخها؛ فقد ذكرت أمثلة على هذا التأثير الذي مارسته مراكز ثقافية مهمة، مثل سبأ خلال الفترة القديمة. وفي الوقت نفسه كانت مدرسة الكتابة الحضرمية مركزًا للاتجاهات الأسلوبية، التي امتدَّت إلى ممالك جنوب الجزيرة العربية الأخرى. ولتوضيح هذه الظاهرة، ستتم مناقشة حالتين من التداخل المتبادل بين اللغتين الحضرمية والمعينية.
فمثلًا الصيغة أو التركيب (تض ب-اذن)، وصيغة أخرى أقل انتشارًا (وض ب-اذن) متبوعة باسم إلهي تعد إحدى السمات المميزة لمجموعة الصيغ الدينية في لغة حضرموت القديمة، وقد تم توثيق استخدامها كعبارة ختامية في النقوش الإهدائية، بدءًا من العصر القديم، واستمرت إلى ما يقرب من ألف عام. لم يتم العثور على هذه الصيغ في النقوش السبئية والمعينية إلا في حالات نادرة ومتفرقة. إن ظهور هذه الصيغ في بعض النقوش السبئية القديمة يقود إلى الافتراض أن هذه التراكيب في الأصل كانت تشكل جزءًا من البنى التحتية للغات الجنوبية العربية القديمة، وأنه تم اعتمادها لاحقًا كميزة للغة الحضرمية فقط. تمت ترجمة هذه التراكيب، والتي يكون فيها الفاعل هو المكرس أو المُهدي، بشكل عام على أنها “يوضع تحت حكم وإرادة الإله”.
يوجد مثالان لهذه الصيغة في اللغة المعينية: الصيغة (وض) وردتْ في نقش معيني، عُثِر عليه في سُور مدينة قرناو.
Ll. 2-3:
و-وضا ايلسام ب-اذن عثتار ذا- قبضم و سين و ودم و نكرحم نفس-س وا ثن-س و ولد-س و قين-س
وايلسام وضع تحت ارادة عثتار ذا قابضم و الاله سين و ودم و نكرحم حياته و ارادته و اولاده و املاكه
ومن الجدير ذكرُه أن هذا النص، المكتوب في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد، أمرَ به الملك الحضرمي ايلسمع ذبيان؛ لإحياء ذكرى تجديد تحالف مملكته مع شريكه المعيني أيبيداع يثا، وقد أنشأ هذا التحالف لأول مرة ملك حضرمي سابق يدعى شهر علهن ابن يدع ايل. وظهرت الصيغة (تضا ب-اذن) في نقش معيني آخر :
و ت-ضا سعد ايل و رعب ايل و هوفعثت و هوف ايل و ذخير ب-عذنه عثتار ذا-فبضم انفس-سم و اذن-نسم و اولد-سم و اقني-سم و اخه-سم
اهدى سعد ايل و رعب ايل وهوفعثت و هوف ايل وخير تحت تصرف عثتار ذا فيضم حياتهم واراداتهم و اولادهم وممتلكاتهم واخوانهم
مؤخرًا، قامت أ. مولثوف بمراجعة هذه الترجمة، مُفترِضةً وجود فرق دلالي بين الصيغتين فترى أن )وضا)، (ربما تعني “ترك”، ثم “إعطاء”، من المعنى الأصلي “للذهاب”)، في حين أن (تضا)، (صيغة مشتقة من جذع كلمة) وتعني “يسعى” . لذلك، (وضا ب-اذن) + الاسم الإلهي ستترجم “(وضع في أذن)” + الاسم الإلهي. في حين أن )تضا ب-اذن) ستترجم (“طلب أذن)” + الاسم الإلهي.
على الرغم من أن تحليلها مقنع إلى حد كبير، فإنه لا يمكن قبوله في مجمله، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الأسباب المتعلقة بالصيغ وقوة السياق. يبدو لي أن (وضا) يتم استخدامها هنا كبديل لـ(تضا)، ولا تنطوي على أي تغيير دلالي معين. فقد استخدمت الكلمتان (وضا) و(تضا) في المثالين المعينيين في سياقات متطابقة، لذا فمن المعقول أن نستنتج أنهما متعاوضتان، أي يمكن استبدال إحداهما بالأخرى.
مهما كان معنى الصيغة فإنني أعتقد أن ظهورها في اللغة المعينية يمكن عده أمثلة على التبني المتقطع لصيغ ثابتة من لغة أجنبية نتيجة لاتصالات بين مركزين ثقافيين. ومن المعروف أنه كان يوجد تحالف وثيق بين حضرموت ومعين، خاصة خلال منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد، وذلك بسبب اهتمامهما المشترك بالحصول على أكبر قدر ممكن من الأرباح من تجارة البخور.
تم التعرف على حالة موازية توضح ظاهرة التأثير اللغوي المتبادل ولكن في الاتجاه المعاكس، في نقش حضرمي عثر عليه في نقب الهجر، والذي يرجع تاريخه إلى فترة العصر الحجري نغسهل إبان حكم الملوك المرتبطين بمعين.
RES 3869/5-6:
و ليسعذب خبل يهر سعذبم وذا ال-يهر سعذبم
“دعه يصلح الجزء الخارب القائم ويصلح غير القائم”
من الواضح جدًا في النص الحضرمي أعلاه أن بعض سماته المعجمية والنحوية ذات جذور معينية، فعلى سبيل المثال الفعلان: (سعذب) بمعنى (يصلح)، و(خبل) بمعنى (يتلف، يخرب) لم يوثقا في الحضرمية إلا في هذين المثالين، ولكنهما شائعان في المعينية.
زيادة على ذلك، يشير نقش سبئي ((B-L Nashq-Demirjian 1, جديد إلى أن التحالف بين مملكتي حضرموت ومعين قد يعود تاريخه إلى ما قبل مائة عام في الأقل، وأن حضرموت ومعين هما المنافستان الرئيستان اللتان تتنافسان مع سبأ للسيطرة على تجارة البخور. حتى أن مملكة سبأ اضطرت للقيام بحملة عسكرية ضد حضرموت في منطقة ميفعة البعيدة، والاستيلاء مؤقتًا على المدينة نفسها:
يوم ذبا ب-عمسبا و ركبن رجلم وبعوصر معنم ب-سافل اتمي ويوم ذب بعمس عبهو ركبن بعم مصر سبا عد ارض جضرمت ويثبرش [ ] بن وبعو ميفعت
“عندما قاتل مع سبا وفرسان الحملة ؟ وهزم الجيش المعيني تحت اتمى وعندما شن حربا بفرسانه سالكا طرق القوافل السبئية في أرض حضرموت ودمروا ثلاث [ ] وهاجموا ميفعة”
4–الاستنتاجات
تتيح لنا الأبحاث الأثرية الحديثة في مواقع، مثل (سمهرم)، بالإضافة إلى اكتشاف نقوش حضرمية جديدة، أن نؤرخ من جديد للمراكز الثقافية المهمة في مملكة حضرموت. وبالتالي، يمكن إعطاء وزن أكبر لحضرموت، التي كانت مملكة مستقلة وقوية منذ العصر القديم. الأمر نفسه ينطبق على لغويات هذه الحضارات وثقافتها، التي سادت في جنوب الجزيرة العربية. وكما تبين هنا، ففي حين كانت لغة حضرموت تحمل سمات معينة كانت مشتركة بين جميع لغات ممالك الجنوب العربي القديمة فإنها كانت قادرة على إعادة تفصيل هذه السمات واستيعابها في لغة خاصة بها في مرحلة مبكرة، مما سمح لنا بافتراض مرحلة أولية طويلة إلى حد ما من التطور. خلال فترة نضجها، ونظرًا لوجود مجموعة متنوعة من المراكز الثقافية في البلاد، تمكنت اللغة الحضرمية القديمة من الحفاظ على سماتها اللغوية الفريدة وتوسيعها، وغالبًا ما كانت تنقل نماذجها الأسلوبية إلى لغات ممالك الجنوب العربي الأخرى.