بين مثالَين

كتابات

سليمان مطران

     قال تعالى في محكم تنزيله: (وَتِلْـكَ الأَمْـثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لعـلَّهُمْ يتفكَّرُونَ).

     كُنْتُ من جُمْلَةِ مَنْ حَظَيَ بشرف حضور الفعالية الثقافية الصباحية “الأبعاد الثقافية والاجتماعية للأمثال الحضرمية”، التي نظَّمها مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر، بالتنسيق مع نادي المعلم بسيئون، الخميس قبل الأخير من شهر أكتوبر ٢٠٢٣م.

     وبالعودة إلى الآية المباركة أعلاه، مستنبطًا لا مُفـسِّرًا، أنَّ الأمثال في مجملها تدعو الناس إلى التفكُّر والسعي لإحياء الهمم، وتجاوز الهموم الناتجة عن مشاكل مجتمعية، يسهم في صناعتها الإنسان نفسُه ممارسةً وتثبيتًا.

     إنَّ ضرب الأمثال في سياقها المجتمعي يدعو إلى الإيجابية، لا إلى السلبية، وإلى التحفيز، لا إلى التحبيط، كما هو الغالب اليوم في الضرب والاستشهاد بها.

     لا ريبَ في أنَّ الأمثال التي ضربها الله سبحانه وتعالى للناس بهدف التفكُّر والتدبُّر، والعودة إلى تقويم السلوك البشري، ومعرفة المسارات الحقيقية؛ لتجنُّب المعاصي، وصولًا إلى عمارة الأرض، والفوز بالجنة، والله أعلم.

     إنَّ مختلف المراحل التي مرَّتْ بالإنسان الحضرمي وما كابده من ضنك ونكد المعيشة وموجة المجاعة التي أجبرتْه على ركوب البحار وتحمُّل مخاطر قحالة الصحاري، لعلَّها سببٌ من الأسباب التي دعتْ إلى إسقاط الأمثال السلبية المحبطة لفطرته في حبه للعمل، وما يمتاز به من روح المبادرة للتسامح والجنوح للسلم ومحبة السلام وتجنب المشاكل، وهي خصال روحية تفتقدُها مجتمعاتٌ كثيرةٌ.

      إنَّ الأمثال أحد أهمِّ صور محاكاة المجتمعات وأبرز تجلِّياتها، بل هي تعكس المفهوم الثقافي الذي وصل إليه الفردُ بين جماعة من الناس و ما أفرزتْه بيئته من مظاهر وسلوك وقيم، مالتْ ميلًا خفيًفا عن ما كان سائدًا ومعمولًا به في فترة زمنية محدَّدة، فاتَّخذُوا من الأمثال المُتفوَّهِ بها من أيِّ فردٍ حتَّى وإن صنَّفوه أو وصفوه بالجُنُونِ؛ فإنَّ ما يخرجُ مِنْ بينِ فكَّيْهِ ما هو إلا محاكاةٌ من عالمٍ غيرِ العالمِ الذي كان يعيشُ فيه مع عقلاء زمانه، فيُؤخَذُ بما يقوله دُونَ تحرُّجٍ وحياءٍ، ويُصبِحُ محلَّ التناوُلِ ومَضْرِبَ الأمثالِ إنْ كانَ في الحربِ والسِّلْم / الشجاعة والخوف / القوة والضعف / بل وفي تغييرِ كثيرٍ من مواقف الشعوب، بما تقـتضيه مرحلة ما من الخنوع والتسليم وعدم المقاومة.

     إنَّ ما تمَّ تناوُلُه في الفعالية الثقافية الصباحية هما مثالانِ من بين رُكَامِ الأمثلة، بل من بينِ آلافٍ من الأمثلة الحضرمية:

     ١- (كلِّين يجمِّر على قُرصُه)

     للأستاذ الدكتور/ عبد الله سعيد الجعيدي، رئيس مركز حضرموت، مُفنِّدًا الفرقَ بينَ القول المأثور والمثل، شارحًا فكرةَ المثل، وتطوُّرَها، وارتباطَها بالبيئة الاجتماعية للإنسان.

     فمَثَلُ (كلّين يُجمّر على قرصه) تمَّ إسقاطه (سلبيًّا) على حُبِّ الذات في الأنانية المُفرطَة ولوْ على حساب القيم والمبادئ، التي كان يُنادِي بها شخصٌ ما، ضاربًا بها عرضَ الحائطِ في سبيلِ أنْ يعيشَ في رَغَدٍ ورفاهيةٍ، لا يأبَهُ بِمَنْ حَولَهُ مِمَّنْ كانتْ أكتافُهم سُـلَّمًا لِصُعُودِهِ، فتنكَّر لهم معروفهم معه.

     تساءَلْتُ: (لِمَ لا يكونُ هذا المَثَلُ حاملًا لـ”الإيجابية” في زمنِ المجاعةِ، ويعكِسُ الحالة الاقتصادية في تلك الفترة؟)

     بمعنى: (كُلّين يجمّر) بِمَا يملِكُه من أنواعِ الحُبُوبِ، وبِمَا يَسُدُّ رمقَه، ويُقِيمُ صُلبَه، و”المثل” دعوةٌ للتقشُّفِ دون الإسراف. 

     2- (قَـعْ ذره وكُلْ سُكَّرْ)

     فيما تناول الدكتور/ عبدالقادر باعيسى المثل الحضرمي القائل: (قَعْ  ذرَهْ وكُلْ سُكَّرْ)، معرِّجًا على ما يقارِبُ أحدَ عشرَ مدلولًا، بأبعادٍ مختلفةٍ، وبنظرةٍ أيضًا (سلبية)، غيرَ أنَّ رأيي الشخصيَّ في إسقاط السلبية على أمثالنا الحضرمية نتاجُ مظاهرِ  الإحباط المستمرِّ في واقع مسارات الحياة والسلوك المجتمعي، وبروز مظاهر التَّرَفِ الطَّاغي على فئةٍ دُونَ فئاتٍ أخرى، وأدعو اللهَ ألَّا تكون رفاهيةُ الفردِ دعوةً مرتَّبًا لها لإحياء مفهوم الصراع الطبقي، وغياب المساواة في المواطنة، ونحن على مشارف البحث على الهُوِيَّةِ الحضرمية المُخْتَطَفَةِ منذُ عام 1967م.

     ومن أبرز دلالات المثل الحضرمي (قعْ ذرهْ وكُلْ سُكَّرْ) على لسان الدكتور الفاضل/ عبد القادر با عيسى:

     – مجتمع مغلق على نفسه، لا يكونُ له تأثير غير متفاعل مع قضايا مجتمعه.

     – ظهور مكثف غير مرغوب فيه.

     – العيش على أنساق طبيعية لا يحدثُ فيه فاعلية تغير.

     – وظيفة الأكل مع تحمُّل “الدَّوْس”.

     – النملُ يأكلُ في الحياة أشياء جميلة “حلويات” دون أن يقدِّم شيئًا.

     – دَيْدَنُهُ الأكلُ فقطْ.

     – يقومُ بتدنيس الأشياء وتلويثها وتوسيخها من حوله.

     – هذا النَّمْلُ يجبُ أنْ يموت.

     الجميل في مناقشات الحضور الصراحةُ وصِدقُ الطَّرح، والأجملُ قَـبُولُ ذلك، فعكسَ عُلُوَّ قيمةِ المفهومِ العلميِّ لديهما (باعيسى والجعيدي)، فمداخلات الحضور عكستْ إيجابية الأمثال، وتغييرها للسلوك الإنساني، وقوة ارتباطها بالحياة، بما تمثِّـلُه من فروقٍ في الاستشهاد بينَ الكِنَايَةِ والأمثال.