أديبة ناظمة تسأل الحافظ السخاوي

كتابات

طارق بن محمد سكلوع العمودي

لقد كانت المرأة المسلمة ومازالت في جميع أدوار التاريخ الإسلامي لها دورها المتميز المبارك في الحركة العلمية والأدبية.

 ولقد أُلِّفَت المصنفات المتخصصة في إبراز ذلكم الدور من النساء المسلمات العالمات(١).

وكان العصر المملوكي شأنه شأن العصور الإسلامية السابقة له واللاحقة كذلك؛ له نصيبه في ذلك.

وكنت قد جرَّدْتُ – ولله الحمد – منذ فترة وجيزة الكتاب الضخم الفخيم (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) للحافظ المؤرِّخ المحدِّث الجوَّال المتفنِّن شمس الدين السخاوي المتوفى سنة (٩٠٢ه‍) .

جرَّدْتُهُ بقراءة فاحصة متأنِّية؛ فاستخلصْتُ جواهره وشواردَه ودُرَرَه، وكنت كُلَّما وفقني الله عز وجل من ختام كل مجلد؛ أرفقت الأوراق المستخلص فيها بقلمي شوارده وفوائده على (الوتس اب)، مشاركًا إخواني وطلبة العلم تلكم الجواهر والدرر احتسابًا في نشر العلم والمعرفة والثقافة.

ولقد وجدتني في المجلد الأخير منه؛ الخاص بتراجم النساء؛ منجذبًا نحو ترجمة تستحق أن تفرد فوائدها وشواردها في مقالتنا هذه؛ خصوصًا إنني لم أقف على من تعرَّض لها بتوسُّع كما هو هنا؛ والله أعلم.

إنها للسيدة الأديبة الناظمة المجاورة لبيت الله: فاطمة المدعوة (ستيتة)، وربما يقال لها (ناجية)، ابنة القاضي كمال الدين محمود ابن … ابن شيرين الحنفي.

ولدت بالقاهرة سنة (٨٥٥ه‍)، والذي يظهر أنها قبل ذلك كما علق السخاوي.

ونشأت فتعلمت الكتابة وما تيسر.

وتزوجت الناصري محمد بن الطنبغا، واستولدها ابنتها فاطمة وغيرها؛ ثم مات عنها؛ فتزوجها العلاء علي بن محمد بيبرس، حفيد ابن أخت الظاهر برقوق؛ فاستولدها بيبرس.

عرفت ببراعتها في النظم؛ وحسن فهمها؛ وقوة جنانها؛ حتى كانت فريدة فيما اشتملت عليه.

ولها مكاتبات إلى جماعات من الأدباء والأعيان والأكابر.

وقد حجَّتْ سنة (٨٨٤ه‍) حج الملك؛ ثم في سنة (٨٨٦ه‍)؛ ثم في سنة (٨٩٤ه‍) وهي السنة التي جاورت فيها مكة بوجود الحافظ السخاوي المجاور كذلك؛ ثم في سنة (٨٩٦ه‍) مع ابنها؛ وجاورا في التي تليها.

قال السخاوي: (ولما كتبت إليها لتخبرني بمولدها وبعض حالها؛ كتبت إليَّ بما نصه: وأما ما أراده المولى في بيان أمر هو به أولى؛ فذلك منه جود أو فضل. فإنني لست لذلك أهلًا؛ لكن إذا رأى سيد أن يرفع عبده فعل؛ ويرقى به أبدًا أعلى محل).

ولم يذكر الحافظ السخاوي سنة وفاتها، فلعلها كانت بقيد الحياة حال ترجمته لها.

ويؤيد هذا من أن العيدروس في “النور السافر” قد ترجمها وذكر وفاتها في سنة ٩٤١ه‍ في القاهرة (٢).

هذا كل شيء عن ترجمتها؛ ولكن عدد صفحات الترجمة في المطبوع من “الضوء اللامع” أكثر من خمس صفحات؛ ولكن العجب يزول بأن أكثر ترجمتها كان في إيراد نظمها في مناسبات متعدِّدة حري بالوقوف عليها.

زاد العيدروس بأنها: (جمعْتُ نظمها في عدة كراريس).

وسنرى ونتذوق شيئًا من نظمها وأدبها من خلال استفتائها وسؤالها للحافظ السخاوي في حادثتين هما:

– الأولى: عندما أثكلت ابنتها؛ وصادف مطالعتها لكتاب: “ارتياح الأكباد” للسخاوي.

– الثانية: عندما أتاها ما يأتي النساء فور ذهابها لمكة لحج أو عمرة.

وجواب السخاوي البديع الأدبي الفخيم عليهما.

والآن نأتي على المقصود؛ وإن كان لنا تحقيق أو تعليق جعلناه في الحواشي.

قال الحافظ السخاوي:

ومنه حين طالعت كتابي “ارتياح الأكباد” (٣)؛ لتتسلى عن ابنة أثكلتها؛ سائلة عن شيء من الأبيات التي أوردتها فيه؛ فقالت:

يا إمامًا قد حاز علمًا وفهمًا      وله في الورى محاسن جلت

ما رأي الشاعر اللبيب بقول     جرح القلب والدموع استهلت

فاصطبر وانتظر بلوغ مداها           فالرزايا إذا توالت تولت

أي توالت له بعين استقامت       أو توالت عنه بعين اضمحلت

لم أطق سيدي بلوغ مداها         ضعفت قدرتي لذاك وكلّت

أخبروني عن نطقه ببيان          نلت أجرًا ورتبة قد تعلت

لا ترخّص لما أُصبت ولكن           كثرت بلوتي وإن هي قلّت

وكذا النفس نالها ما دهاها        فاشمأزَّتْ وبعد عز فذلّت

بنت عبد لعبدكم يا مفدّى            طربت في مصنف وتملت

تسأل الله أن يزيدك فضلا            بحبيب له الغمام أظلت

فقلت: يا بديعة المعاني، ورفيعة المباني، ومن فاقت الكثير من الرجال، فضلًا عن النساء، وراقت أبياتًا فحاكت الخنساء؛ حفظ الله دينك ودنياك، وأراك كل محبوب في بنيك.

وعقباك تجرع الصبر على المكروه مسبب لطمأنينة النفس ورضاها بما أوقعه مولاها، ويكون في تواليه لذلك مخففا لألمه؛ منزلا له منزلة ارتفاعه وعدمه؛ لألفه له وترجيه به لكل ما أمّله.

ولذا حفت الجنَّة بالمكاره(٤).

والتشاغل بالأولاد والأذكار الصحيحة الإيراد، والعبادة والزهادة مانع من استرسالها في هواها؛ سيما مع النظر في الآيات والأخبار الواردات النبويات، المرغّبة في الصبر.

التي منها بشارة الله سبحانه للقائمين فيه بما أمرهم به بهدايتهم للجنة والثواب والحق والصواب، وقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)(٥).

ولا أنفع في ذلك من مصنفي “ارتياح الأكباد”؛ فهو غاية في الاعتماد؛ بل مَرْهَمُ للقلوب والأجساد.

ثم إنه لا مانع فضلًا من ارتفاع المكروه أصًلا مع الإثابة إن وجدت الإنابة؛ فالمصائب مفاتيح الأرزاق، والصبر عقباه الفرج، وعند التناهي يكون الفرج.

وربما يكون الفرج بالقدم على الله سبحانه؛ وتعويضه بالفضل الحزيل، والفعل الجميل؛ مما هو أعظم مفروح به.

ولكن الدعاء بطول عمر السائلة للازدياد من الخيرات، والاجتهاد في الفضائل المتكاثرات، الموجبة لجلب المسرَّات، وسلب المضرَّات من المهمَّات.

على أنَّ قول الشاعر (مداها) لا يتمحَّض للكثرة وإقامة الأمد الطويل؛ فقد يكون مداها الذي قدره الله تعالى للمصائب لحظة أو نحوها.

كما إنه لايتمحص تولت في اضمحلت؛ لما قرَّرْناه، وحينئذ يخف الاستشكال المقتضي للسؤال المفتقر للرجال، والله المستعان، وعليه التُّكلان.

قاله وكتبه السخاوي محمد بن عبد الرحمن؛ راجيًا الستر والغفران، متوسِّلًا(٦) بسيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

ثم كتبت إلي سائلة أيضًا بقولها:

يا أيها الحبر وبحر الندى         يا حافظًا نقل حديث قديم

يا منحة في دهره لم يزل           ممتدحًا من كل فاء وميم

يا غاية الآمال يا منيتي     يا من به أضحى غرامي غريم

يا شمس دين الله يا من غدا       بكل علم في البرايا عليم

ويا سخاوي يا إمام الورى         من خصّه الله بعلم جسيم

أسألك يا شيخ شيوخ النهى     ومن حوى في فيه در نظيم

فيمن أتاها عائق عاقها         عن أمل صارت به في حميم

قيامها إذ ذاك يا سيدي        بين مقام زمزم والحطيم

في ليلة أخبرنا أنها            يفرق فيها كل أمر حكيم

وهل لها أجر الذي قامها    وهل يساوي مقعدًا مستقيم

وهل ينلها مثل ما نالهم     تكرماً من فضل رب كريم

أخبرني يا مُنْيَتِي عاجلًا      يامن ذكاه فاق فهم الفهيم

يا من فتاويه إذا أبرزت     يكاد ذا فهم بها أن يهيم

صلاحك الظاهر بين الورى      اتمامه إذ ذاك بر اليتيم

يهنك شعبان الذي قدره      ما زال عند الله قدر عظيم

أحياكم الله لأمثاله         تروي صحيحًا نقله لا سقيم

أنتم ومن لاذ بكم في الورى     بحق رب بالخفايا عليم

بجاه من أسرى به في الدجى    وكان للمولى كليم نديم

محمد المختار من هاشم       سيد سادات النقا والحطيم

صلى عليه الله طول المدى    ما ناح قمري بصوت رخيم

الحمد لله، هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم، فطيبي نفسًا، وقرّي عينًا؛ بتفضل الله سبحانه – إن شاء الله – عليك بثواب ما كنت تؤمِّلين فعله.

فقد صحَّ قوله صلى الله عليه وسلم: “من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له”(٧)، أي: سواءً كان له عذر أو لا؛ ولكنه في المعذور كهذا أغلى؛ لأنه يكتب له ما كان يعمله قبل حصول العارض.

ففي الصحيح أيضًا؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: “مامن أحدٍ من الناس يصاب ببلاء في جسده؛ إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه بكتاب ما كان يعمل من خير في كل يوم وليلة له ما دام محبوساً بوثاقه”(٨).

وفي لفظ عنه صلى الله عليه وسلم: “إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له ما كان يعمل مُقِيمًا صحيحًا”(٩).

فإن توجه هذا المبتلى بتفويت ما كان نواه وفاته الوقت المشروع لمن أدّاه؛ وعمله فيما بعده من الأيام والليالي في شهره أو غيره كان الثواب أجزل؛ والفضل أشمل؛ ولا شك أن رب شعبان ورمضان واحد، وهو الإله الواحد، وفضله وجوده وكرمه للضعفاء من الموحِّدين في كل يوم: بل لحظة وارد؛ والأعمال بالنيات والفضل جزيل.

… الهوامش…

(١) انظر: “المؤلفات من النساء ومؤلفاتهن في التاريخ الإسلامي” لمحمد خير رمضان.

(٢) انظر مصادر ترجمتها: “الضوء اللامع” (١٠٧ – ١١٢)، و”النور السافر عن القرن العاشر” للعيدروس (ص ١٨٥ – ١٨٧)، و”البدر الطالع” للشوكاني (٢/ ٢٣- ٢٤).

(٣) مطبوع متداول في طبعات عدَّةٍ وتحقيقات مختلفة.

(٤) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: (حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات). انظر رقم (٢٨٢٢).

(٥) سورة التغابن، آية: ١١.

(٦) قال السيد نعمان خير الدين الآلوسي الحنفي، رحمه الله في “جلاء العينين”، ص516: “وفي جميع متونهم: أن قول الداعي المتوسل: بحق الأنبياء والأولياء، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام: مكروه كراهة تحريم، وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد، وعلَّلوا ذلك بقولهم: لأنه لا حق للمخلوق على الخالق”.

(٧) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: “إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً”. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم: 6491]، وَمُسْلِمٌ [رقم: 131]، في “صحيحيهما”.

(٨) أخرجه أحمد (6825)، والدارمي (2770)، والطبراني (13/543) (14437) باختلاف يسير. وهو في “صحيح الجامع” برقم (5761)، و”صحيح الترغيب والترهيب” برقم (3421)‪ ‪  كلاهما للألباني. .

(٩) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (2996).