الصوت الذي يشبهني

كتابات

عمار باطويل

ليست كل الأصوات تتشابه، فالشخص الذي يعيش في الأعماق فهو جذورك، وجذورك لا تخونك على الإطلاق، فهي ممتدة من مسافات بعيدة تصل إليك. فكل ما يشبهك فهو حقيقة، كحقيقة الهيئة والشكل، وكحقيقة الروح، وكذلك كحقيقة الوجود الإنساني، وكل ما لا يشبهك ابتعدْ عنه؛ فهو لا يمتُّ لك بصلة. فعندما تسمع صوتًا يناديك من مسافة بعيدة فعليك أن تنصت لهذا الصوت، فقد يكون صادقًا، والصوت الذي يصلك من بعيد لا يكذبُ، ولكن كيف يصلُ إليك الصوت من مسافة بعيدة ينادي عليك؟ فهناك صوت الأرض وكل ما فيها من هضاب مرتفعة ونجوم متلألئة في السماء تضيء دربك، وكذلك صوت الأودية عندما تتدفَّق سيولُها في أعماقك لترتوي دماؤك بينبوع الحياة. وعلينا ألَّا نغفل صوت الديار، التي تجسدُ في جدرانها حياتك؛ فالديار ليست الماضي كما يصفُها الآخرون، بل تجسِّد الحياة وكلَّ تحولاتها، فعلينا ألَّا نصف الديار بالماضي؛ فهو وصفٌ سطحيٌّ وعقيم. فهناك أصوات تتشكل في مسيرة حياتك، وبها تميِّز خطواتك وترشدها، وقد صوَّبتِ الأصواتُ التي بأعماقي خطواتي نحو بلدي، الذي سكن بداخلي، الذي كان يناديني في غربتي، أن أعود إلى جذوري؛ فمَنْ لا جذور له لا بلد ولا أعماق له. فصوت الإنسان هو مرتكز الحياة وخاصةً عندما يناديك من مسافة طويلة، فيهز ذلك الصوتُ كِيانَك، وتبحثُ عن مصدره، أو لعلَّه بالقرب منك، ولكنْ بلا جدوى. فظاهرة الصوت الذي يأتيك من بعيد عبارةٌ عن ظاهرةٍ غريبةٍ، قد دوَّنَها سجلُّ التاريخ الإسلامي عام 23 هجري، عن «سارية الجبل»، وهي قصة حقيقيَّةٌ، حصلتْ لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب والقائد سارية بن زنيم، الذي كان في بلاد فارس يقاتلُ المشركين، وقد وصل له صوتُ أميرِ المؤمنين عمرَ بْنِ الخطَّاب يناديه «يا ساريةُ الجبلَ، الجبلَ، مَنِ استرعى الذئبَ الغنمَ فقد ظلم».  وربما البعض لا يصدِّقُ مثل هذا الأمر، وقد حدثتْ هذه الظاهرة للأديب ميخائيل نعيمة شخصيًا، وقد دوَّنها في كتابه «سبعون»، وسمَّاها «خوارق»؛ حيث يقول: ”ولكنَّكَ قد لا تصدِّقُني إذا أنا أخبرْتُـكَ أنَّـنِي سمعْـتُ صوتًا من مسافةٍ بعيدةٍ، وبدون أيِّ جهاز، غير الذي جهزَّتْـنِي به الطبيعة، والذي لا أعرفُ ما هو، وأينَ مكانُه في جسدي“… إلى آخره. وكذلك قد حصلتْ معي شخصيًا هذه الخوارقُ عندما كنْتُ صغيرًا، وقد ذهبْتُ وقتَئذٍ إلى مسافةٍ بعيدةٍ لصيدِ العصافيرِ إذا بصوتِ أبي يصلُ إلى مسامعي يناديني :«ياعمَّارُ… ياعمارُ…»، كان صوتُه يهزُّ كياني وأربكني، ولعلَّ والدي نادى حقًا، ولو نادى والدي فعلًا لنْ يصلَ صوتُه لبُعدِ المسافة، ولكن وصلني، فكيف، ولماذا، ومتى؟ فلسْتُ أدري؟ وعندما عُدْتُ أدراجي ملبِّـيًا للصوت وجدْتُ والدي مُطِلًّا من شُرفَةِ الدارِ منتظرًا خطواتي. فاكتشفْـتُ بعدَ سنواتٍ أنَّ هذه الظاهرةَ هي الجذورُ التي تمتدُّ فيكَ وتُـشْـبِهُـكَ وتكونُ معك حيثما تكون، فصوتُ أبي عبارةٌ عَنِ الجُذُورِ التي تَغُوصُ في أعماقي، والصوتِ الذي يُشْبِهُنِي ويُنَادِيني.