حديث البداية
د. عبدالقادر باعيسى - رئيس التحرير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 4
رابط العدد 29 : اضغط هنا
كثيرًا ما نغرق في التجريد والمثالية مما يبعدنا عن ملاحظة كثير من مفاصل الصراع، فنخسر تحت وهم المثاليات، وبعض هذه المثاليات أو القيم المثالية عبارة عن أفكار مغلوطة لأن الذين وضعوها غير مخلصين لمصداقيتها إذ لا تخلو من رغبة في الاستبداد والتسلط، وتقوم على رؤية الذين وضعوها لذواتهم من الداخل ومحاولة تعميم هذه الرؤية قسريًا على الخارج، ومثل هذه الأفكار موجودة في التاريخ، ومازال بعضها ينمو تاريخيا، ومن ثم تدخل -لتاريخيتها- في إطار القيم الاعتبارية، وهي مغالطات بالأساس مما يتورث عنه مزيد من ردود الفعل العنيفة على مر التاريخ.
وفي أثناء هذا يحدث -وعلى مر التاريخ أيضًا- مصالحات شكلية تتم على مستوى الظاهر، وفي هذه الحالة لا يكون التسامح هو الحالة الثابتة في المجتمع، بل الحروب والصراعات. والتسامح مفهوم ديني وإنساني عظيم، لكنه يشتغل وفق طبيعة المراحل التاريخية وصراعاتها، فليس له معيار معين، ولا يتجلى التسامح في المصافحات والقبلات الإعلامية، فتلك شكليات، بل في تأثيره الفعال وازدهار تأثيره على مستوى الواقع، فالفرقاء قد يتصافحون في وقت يكون فيه عدم التسامح مشتعلا في أعماقهم، وفي قوة أوجه وتوقده، وهذا جزء من إشكالية القول والفعل الماثلة في وجودنا الإنساني بشكل عام.
ومن المهم أن ننظر إلى المجتمع في كيفية تأطير مفهوم التسامح فيه تاريخيا بوصفه جزءا من التكوين الاجتماعي والنفسي المعقد للجماعة أو الفرد، وقد يكون عدم التسامح جزءا من الضرورة الوجودية لجماعة معينة، كما في حال القبيلة العربية في الأخذ بالثأر، فيأتي الإعلان عن التسامح بتأثير ضغط معين، أو مصلحة معينة، لكنه سرعان ما ينهض عدم التسامح من تحت السطح، فإذا ما اتسم التسامح بالاطراد في تاريخ جماعة معينة، فذلك مؤشر جيد على إمكانية تواصله مستقبلاً، أما إذا كان بعكس ذلك فالنتيجة مختلفة.
ويتصل التسامح بسيادة مفهوم العدل في المجتمع، وتاريخه في ذلك، كما يتصل بطبيعة تصورات الجماعات عن ذواتها التي تغدو أشبه بالمعايير الثابتة لرؤية الآخرين والحكم عليهم والتي لا تتفق مع أي معايير موضوعية للتفاهم وتقارب وجهات النظر، ففكرة عدم التسامح تنطلق أساسا من فكرة المواجهة، والرغبة في الانتصار للذات على الآخر، وعادة ما تبرز فكرة التسامح مع الأزمات والمنعطفات التاريخية الخطيرة لأن كل طرف من الأطراف المتصارعة يضطرب وجوده فيها فيحاول أن يبرز التسامح كوجود أمثل، فالمفاهيم التي تتولد في الأزمات لا تملك من المصداقية مثل أن تكون سارية في إطار تطور الوعي التاريخي للجماعة، فيأتي التسامح في إطار مرحلة التحشيد في مواجهة خطر أكبر، ولكنه سرعان ما يقفز إلى عدم التسامح عند بروز المواجهات الخاصة، ذلك لأن المفهوم غير مؤصل تاريخيا في سياق التحولات التاريخية التي مرت بها الجماعات المتصارعة، ومن هذا المنطلق يتم التعامل المسطح مع فكرة التسامح، وتتم المواجهات، ويتم ترحيل مفهوم التسامح إلى مراحل تاريخية قادمة عند انتهاء دوره المؤقت.
إن خطر إبراز المفاهيم عند الضرورات وترحيلها إلى مراحل قادمة عند انتهاء الصراعات يعني أنها لا تتأهل التأهيل الكافي الذي يدرجها في وعي الجماعة تاريخيًا، فلا تغدو في هذه الحالة كونها شكلاً تعبيريًا مؤقتًا، أو ظاهرة اجتماعية مؤقتة في أحسن الأحوال.