ترجمة
أ.د. مسعود سعيد عمشوش
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 63
رابط العدد 29 : اضغط هنا
يشكل نص (محميات عدن) الفصل الثالث من الجزء الرابع من مذكرات الضابط الإنجليزي ديك إيبرلي: (عدن: سقوط الستار). يمزج فيه المؤلف تقديم هيكل اتحاد الجنوب العربي ومكانة محميات عدن فيه، مع سرد نُتَفٍ من حياته الخاصة في الفترة من 1965 إلى سنة 1967م، مع التركيز على الرحلات الكثيرة التي قام بها إلى معظم مناطق محميات عدن الغربية والشرقية. ويقدم فيه انطباعاته عن الأشخاص الكثيرين الذين قابلهم خلال تلك الرحلات.
“حتى يتنفس اليوم،
والظلال تهرب،
أسرع إلى جبل المر وتل اللبان”.
من نشيد الإنشاد
المصدر: (عدن: سقوط الستار) الفصل 3 من الجزء الرابع من (مذكرات ديك إيبرلي: 1965 إلى 1967)
بات الآن في وسعي التعرّف على المسؤولين السياسيين، الذين يعملون في هذه البلاد، ويداومون في المقر الرئيس لحكومة الاتحاد الواقع خارج عدن، وفي كثير من الأحيان في ظروف صعبة وخطيرة، وقد أعجبت بهم، وأصبحت صديقًا لعددٍ منهم. وعادةً ما يتم استدعاء كبار المسؤولين إلى مقر القيادة العامة في التواهي؛ للنقاش والتشاور، وفي كثير من الأحيان تجمعنا لقاءات الزمالة والصداقة.
في الفترة الأولى من إقامتي في عدن لم تسنح لي، للأسف الشديد، فرصة السفر خارج المدينة، وفي الأشهر الأولى كان من الممكن القيام ببعض الجولات القصيرة؛ لكن بعد ذلك، ومع تفاقم المشاكل وازدياد وتيرة العمل، أصبحت مُقيَّدًا في مكتبي. وفي بعض تلك الجولات المبكرة، كان فهمي لما يجري لا يزال سطحيًا بشكل عام. ومع ذلك، أعتقد أنني شاهدت الكثير، وتعلّمت ما يكفي عن البلد لأستطيع فهم طريقة الحياة فيه، ونظرة الناس إلى العالم من خلال البيئة الوعرة والصعبة التي يعيشون فيها.
محميات عدن الشرقية EAP:
يتكوّن الجزء الشرقي الشاسع من الجنوب العربي من أربع ولايات، تتمتع بالحكم الذاتي، وتشكل سلطنات القعيطي والكثيري والمهرة والواحدي. ويبدو أن شعوب محميات عدن الشرقية قد عانت كثيرًا من المجاعة خلال الحرب، لكنها استفادت لاحقًا من السلام والازدهار النسبيين والحكومة المركزية.
ويتركز عمل الموظفين البريطانيين في سلطنتي القعيطي والكثيري على التنمية، بعكس ما يحدث في محميات عدن الغربية، التي يركز الموظفون البريطانيون فيها على حفظ القانون والنظام.
الوجود البريطاني:
يتجسّد حضور الحكومة البريطانية في المحميات الشرقية بالمقيم (Resident) الذي كان، وقت وصولي إلى عدن، تيد آير Ted Eyre. وكان يعمل مع نائبه المتمرّس جيم إليس، وفريق صغير من المستشارين المساعدين الأكفاء والضباط، الذين يقدمون المشورة لسلاطين المحميات الشرقية، ويشجعونهم على ممارسة الحكم الرشيد، وتحسين أوضاع رعاياهم.
وكان تيد عازبًا، وتقليديًا إلى حد ما، ويفتقر إلى بريق بعض أسلافه، لكن خبرته كانت واسعة، وقد بدأها في السودان، وطوَّرها خلال رئاسة (مشروع القطن في أبين). وكان خَلَفًا لمُقِيمٍ مُستَعرِبٍ، وذي خبرة واسعة، ومداوم على وضع ربطة عنق، اسمه آرثر واتس. وكان آرثر، الذي يحمل لقب سكرتير المحمية، سفيرًا متجوِّلًا في المحميات الشرقية EAP، ويقع مقرُّه في مكاتب المفوضية العليا، التي استفادت كثيرًا من خبرته الواسعة لاسيما في الفترة الأولى من تأسيس المحميات.
ولحراسة الحدود مع اليمن والمملكة العربية السعودية، تم إنشاء جيش البادية الحضرمي (HBL)، ويقع تحت قيادة الكولونيل المتمرس، بات جراي الذي كان في السابق مسؤولًا عن الكتيبة العربية. بعد وقت قصير من وصولي، قُتِل في الصحراء الرجل الثاني في القيادة، الرائد ديفيد إيلز، لكن مثل هذه الحوادث المأساوية نادرة في المحميات الشرقية في ذلك الوقت. فالشائع أن الأمن مُستتبٌّ فيها، وكنت أؤكد للموظفين البريطانيين أنهم ليسوا بحاجة لحمل السلاح في المدن. وبشكل عام كانت علاقة المستشارين السياسيين مع السلاطين سلسة وسهلة.
سلطنة المهرة وسقطرى:
تغطي سلطنة المهرة، التي لم يتم رسم حدودها بدقة، مساحة شاسعة من المنطقة الصحراوية، الممتدة في شواطئ المحيط الهندي إلى جبال عمان وظفار في الشرق، وإلى الربع الخالي في الشمال. وتخضع قبائل المهرة البدوية لحكم السلطان عيسى، الذي على ما يبدو لا يُعِيرُها كثيرًا من الاهتمام، ويفضِّل العيش في جزيرة سقطرى.
كان سعادة المندوب السامي بحاجة إلى مقابلة السلطان عيسى في عدن؛ حتى لا نضطر للذهاب أبدًا إلى المهرة، لكنْ توجَّب علينا أن نذهب إلى سقطرى لرؤيته. وقد تقرر أن نقوم بالرحلة خلال فترة الإضراب العام في أكتوبر 1965م. فعَقِبَ اجتماعات لجنة السياسات الأمنية، شعر سعادته أنه لا يستطيع فعل المزيد في عدن، وأنه سيكون أفضل له التوجه إلى سقطرى. لذلك أخذني معه في إجازة لمدة يومين بعيدًا عن المشاكل المحلية، وحلَّقْنا بطائرة الداكوتا على طول الساحل إلى المكلا. وبإذن من سلاح الجو الملكي البريطاني طِرْنَا جنوبًا لمدة ساعتين ونصف الساعة إلى سقطرى في المحيط الهندي، وهي أقرب إلى رأس جاردافوي منها إلى سواحل جنوب شبه الجزيرة العربية.
هبطْنا فوق شريط مستو وخال يقع على الشاطئ الأمامي للجزيرة. لم يكن المناخ ثقيلًا. وعندما غادرنا الطائرة في الهواء البارد، جاء السلطان الخجول والذكي ليحيِّينا يُخبِرُنا أنه لمْ يكنْ يَتوقُ لرؤيتنا. وبعد تبادل التحايا الهادئة قادنا مسافة ثلاثة أميال سَيرًا على الأقدام عبر السهل إلى أن وصلنا (قصره) في قرية حديبو. وقد قيل لنا إنه يملك الجزيرة ومعظم الأشياء الموجودة عليها، بما في ذلك القرى والماعز والجمال والنخيل، كما أنه يُعَـدُّ الحاكم لأكثر من تسعة آلاف من سكان الجزر، بينهم كثير من العبيد السواحليين، الذين يغطون أجسامهم بقليل من الملابس.
وكان في حديبو مدرسة صغيرة لتعليم القرآن للصغار. وأخبرني المترجم أن هناك قبيلة بدائية من السود تعيش داخل الكهوف في المناطق الداخلية الجبلية المُغَطَّاة بالأشجار، ويتحدَّث أفرادُها بلغتهم الخاصة: السقطرية. وعلى الساحل، كان القرويُّون يعيشون على التمور والأسماك، ويرعَوْن الجمال والماعز، ويتاجرون بأشياء غريبة، مثل: اللبان، وعرق اللؤلؤ. ويُعَـدُّ صُوفُ الأغنام مُنتَجَهُم الأكثرَ رِبحًا على ما يبدو. ويتمُّ نقله إلى البر الرئيس بواسطة مركب شراعي، وهناك ينسجون منه نوعًا من الحُصُر [السجاد].
أمضى السير ريتشارد اليوم في قاعة مجلس السلطان، المفروش ببعض الأثاث الفيكتوري غير المتناسق، الذي فهمْنا أنه قد أُحضِرَ من حطام سفينةٍ، غرقتْ منذ فترة طويلة. لقد كان هدفُ المندوبِ السَّامي إقناع السلطان بأن يكون متعاونًا مع جيرانه في البرِّ الرئيس، وأن يكون أقلَّ استبدادًا، ويقبل فقدان الحماية البريطانية مع اقتراب موعد استقلال الجنوب العربي. ولم يكن السلطان مُهتَمًّا بهذه الأمور. وأوضحَ أنه، بمُجَرَّدِ انسحاب البريطانيين، يُتَوَقَّعُ أنْ يَتِمَّ الاستيلاء على ممتلكاته في البر الرئيس من قبل الدول القويَّة المجاورة، والقبائل الخاضعة له حاليًا.
وهكذا لمْ تُحقِّقْ رِحلتُنا إلى سقطرى سوى تحذير السلطان من حدوث بعض المشاكل الوشيكة. ومع ذلك، كانت الرحلة مثيرةً جدًّا، ومكَّنتْني من التعرُّف على واحد من أكثر الأجزاء بدائيةً وعُزْلةً في الإمبراطورية البريطانية.
أمضينا الليالي التي سبقت السفر إلى سقطرى، والتي تلت العودة منها، في قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني الصغيرة التي يديرها أفراد سلاح الجو الملكي البريطاني في بلدة الريَّان، الواقعة في سهل صحراوي قاحل، يَبْعُدُ حوالي عشرين ميلًا عن المكلا. وقد قيل لنا إن سكان البلدة يقومون بأعمال شغب “تعاطفًا” مع أولئك [الثُّـوَّار] الموجودين في عدن، ونُصِحْنا بعدم القيام بمحاولة شقِّ طريقنا إلى مَقَـرِّ الإقامة [في المكلا]. لذلك قضيْنا أُمسيتين مبهجتين مع الطيَّار وطاقمه الجويّ، ضيوفًا على ضباط سلاح الجوِّ الملكيّ البريطانيّ، الذين يُدِيرُون القاعدة. وعندما باتت المكلا هادئة في المساء، جاء المُقِيمُ تيد آير بسيَّارته لرؤيتنا مع بعض زملائه وزوجاتهم، وجلسْنا جميعًا حول المائدة، وشربْنا وقلنا الكثير من الهُرَاء الجيّد، وأمتعْنا أنفسنا، بعيدًا عن ضوضاء المدن الساحلية المضطربة.
وعندما حان وقت العودة إلى عدن، قُـدِّمَتْ لي أنا ولسعادة المندوب السامي ربطتَي عُنُقٍ رُسِم عليهما طائرُ فينيق أمامَ خلفيَّةٍ خضراء. وقيل لنا إن هذه الربطات لا يرتديها إلا أولئك الذين زاروا سقطرى. كنتُ أعرف أن طائر الفينيق المشهور يأتي من الجزيرة العربية، لكنَّهم لم يكتشفوا أبدًا علاقة سقطرى بأسطورة الطائر. رُبَّما لأنهم كانوا يعتقدون أنه يعيش بين فروع شجرة دَمِ الأخوين العظيمة، التي تنمو هناك. وما هذا إلا جزء بسيط من سرّ ذلك المكان الساحر.
السلطنة القعيطية:
تغطّي السلطنة القعيطية أراضيَ تمتدُّ على طول ساحل المحيط الهندي ومساحات كبيرة في الداخل. وتُعَـدُّ المكلا، عاصمتها الجميلة، ميناء مزدحمًا، يعيش فيه وحكم السلطان العجوز عوض، مُحَاطًا بنصائح مجلسه، ووزيرٍ يُدعى العطاس.
في النصف الأول من سنة 1966، رأى سعادة المندوب السامي أنه من الضروري التحدُّثَ إلى سلاطين محميَّات عدن الشرقية عن خطط بريطانيا للانسحاب ومنح الاستقلال، ولهذه الغاية رتب السفر إليهم وعقد سلسلة من الاجتماعات معهم.
وذات صباح، غادرْنا أنا وهو والليدي تورنبول، والحارس الشخصي، عدن على متن طائرة الداكوتا التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني. وهبطتْ بنا الطائرة بعد الظُّهر على مَدْرَجِ مطار الريَّان، حيث كان في استقبالنا المقيم تيد آير وقافلة من سيارات اللاندروفر. وأخذَنا مباشرة إلى المكلا، ونزلْنا ضيوفًا في مقرِّ (الإقامة Residency).
عند وصولنا اصطفَّ أفرادُ الحرسِ السلطاني، ذوو القامات الطويلة والعمائم الحمراء، بجانب مدافع عتيقة وجميلة، في ساحة المبنى السلطاني الأبيض، الذي رفع في أعلاه علم الاتحاد. وقادنا تيد، مُضِيفُنا اللطيف، في جولة حول هذا المبنى الجميل.
يعيش السلطان القعيطي مع أسرته وخدمه ومجموعة من الأرانب المُرَوَّضة في مُجَمَّعٍ يتكوَّن من مبانٍ قديمة، تُشبِهُ كعكة زفاف ضخمة، بألوان زاهية للغاية، مع مئات النوافذ والشُّرفات، والأبراج والمآذن، وتطلُّ على الطريق المحاذي للميناء. ويطلق على هذا المجمع: القصر.
وقد كان السلطان عوض مُسِنًّا، وفي حالةٍ صحيَّةٍ سيِّئةٍ للغاية. ويقال إن وزراءه كانوا ينتظرون تنازُلَه عن العرش؛ حتى يتمكن ابنُه غالب من العودة من الدراسة في إنجلترا لتولِّي إدارة شؤون الدولة.
دعا سعادة المندوب السامي والمقيم تيد السلطان العجوز وابنه الأصغر وكبار المستشارين؛ ليطلعهم على النوايا المستقبلية للحكومة البريطانية. وأثناء فترة المناقشات المستفيضة مع الوزراء، لمس المندوب السامي أنهم عند مستوى المنطق والمسؤولية، على الرغم من أنهم أكَّدوا له أنهم لن ينضمُّوا أبدًا إلى مجموعة حُكَّام محميَّات عدن الغربية في الاتحاد، الذي يرون بثقة أنه لن يستمر بعد الاستقلال. وبدا السلطان مقتنعًا بأن النفط سيكتشف في أراضيه قريبًا، ولن تجد السلطنة صعوبة الاستمرار والبقاء بمفردها وبدون دعم بريطاني. ولم تكن هذه هي الرسالة التي كان المندوب السامي يودُّ سماعها، لكنه لم يستطع تغيير موقف الرجل العجوز.
وفي أثناء استمرار تلك المحادثات أخذنا أنا والسيدة تورنبول، حرم المندوب السامي، أدواتِ الرسمِ الخاصة بنا، وقُمْنا بخربشة بعض الرسومات للمدينة القديمة. وبعد ذلك تجوَّلتُ برفقة الحارس الشخصي في الواجهة البحرية. ومشيْنا عبرَ شوارع ضيِّقة وملتوية ومُغَطَّاة بالوحل، وارتصَّتْ على جانبيها المتاجر المُظلمة، والمنازل الطويلة، المَطليَّة باللون الأبيض، وذاتُ النوافذِ الصغيرة. وفي لحظة من اللحظات وجدْنا أنفسَنا وسطَ خليطٍ عجيبٍ من الجِمَال والحمير والرِّجَال والأطفال الحُفَاة.
وبدا لنا أنَّ مُعظَمَ أصحاب المتاجر من الميسورين، لكنَّ معظم المشاة في الشوارع كانوا بَدَوْا نصفَ عُرَاةٍ، جاءوا من الصحراء؛ لبيع بضائعهم المتواضعة. وهناك رجالٌ آخرون من نسل العبيد السُّود، يَرتَدُونَ مَآزِرَ قَذِرَةً حولَ خُصُورِهِم، ويندفعون بين حُشُودٍ من الحمَّالين، ينقلون فوق ظهورهم أكياسًا مليئة بالحبوب وغيرها من البضائع. وكانت المجاري بدائيَّةً، وفي الغالب كانتِ المياهُ تَطفَحُ في الشوارع. أمَّا الميناء فقد كان ممتلئًا بالسنابيك والمراكب الشراعيَّة المُتَمَايِلة بفعل المَدِّ والجَزْرِ، والمُحَمَّلَةِ بالأكياس. وبعيدًا قليلًا هناك سُفُنُ شَحْنٍ قديمةٌ وصَدِئَةٌ، تنتظرُ تفريغَ حَمُولَاتِهَا.
وفي الخليج كان هناك شاطئٌ رمليٌّ واسعٌ، تحيط به التِّلالُ المُتَبَاعِدَة. وتَـقَرْفَصَ فوقَ الرِّمَالِ رجالٌ خَشِنُونَ، لهم شعرٌ أشعثُ، وبشرةٌ دَاكِنَةٌ، ورُبَّمَا أنهم يَمْضَغُونَ القات، بجانب جمالهم المربوطة بحبال طويلة. وكان بعضُها محمَّلةً بحُزَمٍ من الحطب أو أكياسٍ ضَخْمَةٍ. كانتِ الجِمَالُ واقفة هناك، في حينٍ ذهب أصحابُها لإنجاز أعمالهم في الميناء. ومن المفروض أنَّ تلك الجمال ومرافقيها قد وصلوا في قوافل طويلة من المناطق النائية في الداخل مع بضائع للبيع لسُكَّان المدينة والتجار في سفن الشحن.
لقد اكتسبت مدينة المكلا، بتاريخها الطويل، كُلَّ مظاهر الميناء التجاري النشط والناجح، وإذا كانت الأمور كلُّها بشكل جيّد، سيكون أمامها مستقبل باهر.
السلطنة الكثيرية:
تخضع المناطق الداخلية لحكم السلطان حسين بن علي الكثيري. ويعرف الوادي الأخضر الطويل، الممتد في الرمال باسم: (حضرموت)، التي اشتهرت ذات مرَّة ببخورها، ولا تزال مشهورة اليوم بعلمائها. وتتميَّز حضرموت الداخل بميزة جغرافية؛ فالوادي الأخضر الممتد لمسافة 350 ميلًا يفصل الصحراء [في الشمال] عن الهضبة المعروفة باسم الجول الجاف والقاحل [في الجنوب]. وفي الشمال تتدحرج الرمال الصحراوية لأميال لا نهاية لها باتجاه المملكة العربية السعودية. وفي قاع الوادي تزدهر منذ سنوات، بل منذ قرون عدة، ثلاث مدن قديمة، هي: شبام، وسيئون، وتريم، وتتميز هذه المدن باعتدال مناخها واخضرارها، وجداول الماء، التي تمرُّ وسطَ الحقول وبين النخيل المثمر.
بعد الغداء في مقر الإقامة بالمكلا في اليوم التالي لمشاورات المندوب السامي مع السلطان القعيطي، توجَّه المندوب ومرافقوه إلى الريَّان، حيث أقلَّتْهُم إحدى طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني فوق الجول صَوْبَ الداخل. وِجْهَتُنَا كانت سيئون، المدينة التي كانت عاصمة السلطان الكثيري، والواقعة وسط وادي حضرموت. في سيئون يبلغ عرض الوادي حوالي خمسة أميال.
بعد هبوط الطائرة في قاع الوادي، تمَّ أخذُنا عبر الحقول المزروعة بالشعير والقمح، إلى بلدةٍ تناطحُ مبانيها السَّحابَ، وبعضُها يتكوَّن من ستة طوابق. وكانت بعض هذه المباني الشاهقة ذات جمال رائع، وتخصُّ التُّجَّارَ الأثرياء، الذين كسبُوا أموالهم من التجارة في بومباي وجاوة وسنغافورة وأماكن أخرى في الشرق، وجاءُوا للتقاعد في هذه الأرض النائية. وتحيط بالبيوت حدائق النخيل والأعشاب الطويلة، التي لمْ أرَها في أيِّ مكان آخر في جنوب شبه الجزيرة العربية. وينتصبُ قصر السلطان الكثيري الضخم والأبيض شامخًا في الوسط اللون، ويتكوَّن من حوالي سبعة أو ثمانية طوابق.
لا شكَّ في أن لقاء المندوب السامي مع السلطان كان مُثمِرًا. ولمْ نُفَاجَأْ أنَّ السلطان الكثيري مثل السلطان القعيطي، كان مُصِرًّا على رفض إنشاء أي علاقة بعدن والاتحاد. في الحقيقة رفض جميع سلاطين محميَّات عدن الشرقية، باستثناء السلطان الواحدي، الذي يحكم ولاية صغيرة، ملاصقة لمحميات عدن الغربية، بإصرار الانضمام للاتحاد، وكانوا مصمِّمين على مواصلة طرقهم القديمة في الحكم دون تدخل من الحكومة البريطانية أو الاتحاديين أو (أصحاب) عدن.
وتمَّ ترتيبُ سَكَنِنَا في دار الضيافة، التابع (للاستشارية). وفي حين استدعى المندوب السامي السلطان لمقابلته ذهبتْ زوجته السيدة تورنبول لمقابلة زوجات السلطان، واسترخيْتُ أنا والحارس الشخصي، واستمتعْنا بالهواء البارد وأشجار الليمون والنخيل التمر في حديقة دار الضيافة.
من دقيق طعام الذرة البيضاء السمراء، التي تنمو في الحقول المحيطة بالمدينة، يتمُّ إعداد نوع لذيذ من الخبز الكامل، وقد قُدِّم لنا طعامٌ جَيِّدٌ هناك المَسَاءَ قبل أنْ نقوم بنُزهَةٍ في المدينة. كانتْ شبكة المجاري الداخلية بدائية، لكنَّ عددًا من المنازل، بما في ذلك دار الضيافة، كانت تمتلك في الطابق الأرضي حمَّاماتِ سباحة (برك) داخلية باردة ولطيفة. |
وفي وقت مبكر من فجر اليوم التالي، قاد سعادة المندوب السامي مجموعة منّا في جولةِ تسلُّقٍ، بدأتْ من قاع الوادي، وانتهتْ في الجزء العلوي من الجانب الشديد الانحدار من الوادي. وصعدْنا تدريجيًّا بين الصخور حتى بلغْنا هضبة الجول العالية والعارية، المُطِلَّة على المدينة، التي كانتْ لا تزالُ في لحظات الاستيقاظ. وكان الجوُّ دافئًا في الأعلى في ضوء الشمس الساطع، وكالعادة، حدَّد سعادة المندوب إيقاعًا سريعًا للسير على طول الجرف، وعندما ننظر للأسفل نلمح سكان البلدة البعيدين وكأنهم نَمْلٌ. لقد كانتْ تجربةً رائعةً؛ حيث استمتعْنا بمشاهدة الوادي العميق وهو ينحدر عبر الصحراء، التي يفترض أن تكون واحدة من عجائب الدنيا.
كان بإمكاني القيام بالسباحة بعد نزولنا من الهضبة في الثامنة في ذلك الصباح، ولكنْ للأسف كان علينا الإسراع في تناول الإفطار، والقفز في سيارة اللاندروفر؛ للوصول إلى طائرتنا المنتظرة للعودة إلى عدن.
لقد كانت رحلُتنا مُمتِعَةً، لكنْ كان علينا أن ندفعَ ركلة الجزاء. فمساءَ ذلك اليومِ عُدْنا للمكلا، ولمْ نَذُقْ أنا والمندوب السامي والحارس الشخصي طَعمَ النَّوم. وفي صباح اليوم التالي قاومْنا التَّعَبَ، وبدأْنا نَئِنُّ في المكتب، ونُعَانِي مِمَّا يُعرَفُ مَحَلِيًّا باسم “بطن المكلا”. لقد كان مقرُّ الحكومة بائسًا طوال اليوم، وعانيْنا ثلاثتُنا من العذاب، وتذمَّرْنا بصمت، وحُمِلْتُ أنا إلى سريري في فترة ما بعد الظهر. لِحُسنِ الحظِّ كُنَّا جميعًا أفضلَ في صباح اليوم التالي، وتوجَّهْنا إلى ظَهْرِ إحدى السفن في الميناء؛ للحصول على قسطٍ من الراحة، ومشروب هادئ في البار. وبالمُقَابِل لمْ تكن السيدة تورنبول تُعَانِي من شيء، وادَّعَتْ أنَّها لمْ تأكلْ شيئًا أبدًا أثناءَ وُجُودِها في المكلا: لقدْ كانتْ حكيمةً جدًّا.