نقد
أ.د. أحمد سعيد عبيدون
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 72
رابط العدد 29 : اضغط هنا
مقدمة:
اطلعْتُ على ديوان الشاعر عبد القادر الشعيرة الذي صدر بجزأين هذ العام([1])، وقرأت فيه نماذج من الشعر الفصيح، الذي يمثل نسبة قليلة من ديوانه، كما قرأت نماذج من شعره العامِّيّ، أما شعره الفصيح ففيه أخطاء كثيرة في الأوزان والكلمات والمعاني والتشكيل، بعضها يستسيغه نظم الشعر ومعالجة معانيه، وبعضها لا يستسيغه فيهبط به عن التحليق في سماء الجودة والجمال، وأعتقد أن الأستاذ علي بارجاء – رحمه الله تعالى – لم ينتهِ بعدُ من ضبط الديوان وتحقيقه بشكل نهائي يرضى عنه ويطمئن، ورغم الجهد الذي بذله الدكتور أحمد باحارثة مشكورًا في المراجعة والتدقيق فإن هناك كثيرًا من الأخطاء والهنات والكلمات والمناطق تنتظر التحقيق والتدقيق غير تلك المواضع التي أشار إليها في الهامش، وأرجو أن يُقدَّم الديوان من جديد لإعادة تحقيقه في جامعة سيئون في قسم اللغة العربية؛ ليكون موضوع رسالة لأحد طلابنا لإعادة ضبطه وتدقيقه ومراجعته وتحقيقه، أما قسمه الآخر في الشعر العامي، وهو الذي يحتوي النصيب الأوفر من الشعر، فهو الشعر الذي يميز الشاعر بحق، ويعطيه صفة المبدع، وهو الشعر الذي أبدع فيه وبرّز بشكل يدهش القارئ، ويستجلب اهتمامه وإعجابه. يبقى التشكيل الموجود في الشعر العامي حبذا لو خُفِّف قليلًا، وتم الاقتصار فيه على الكلمات الغامضة؛ لأن كثيرًا من الكلمات التي شُكِّلت نحا بها نحو الفصحى، في حين يعرف الناس نطقها على الطريقة العامية، ككلمة )هُنا) التي وردت مشكَّلةً بالضّم وحقها أن تشكل بالكسر كما هو النطق العامي لها، أو أن تبقى من غير تشكيل؛ فهي معروفة، ولن يخطئ القارئ في قراءتها.
وقد اخترت منه لهذه الندوة الاحتفائية قصيدة في الحب والغزل، تميز التناول الغزلي فيها بالاتساع والانفتاح بالاستفادة من كل تجارب الغزل التي سبقته، وسوف نحاول كشف هذا الاتساع واكتشافه من خلال هذه القراءة لقصيدته، التي مطلعها: (هام قلبي وضاع العقل من با يرده)([2])
اتساع المحب:
أعني باتساع المحب أنه يفتقد الثبات والتماسك والاستقرار في مكان وزمان واحد؛ بسبب ضغط الحب وثقل معاناته، وهو أمر يزيد من فنِّيـَّة الحركة في القصيدة، وهو ما نراه في هيام القلب وضياع العقل: (هام قلبي)، (ضاع عقلي)، وفي ذهاب الجسم عن ثباته واتزانه إلى كل اتجاه: (هايم بلا عقل ندّه)، وفي وجوده في أكثر من مكان :(سير في كل بلده)، وهذه كلها هي صفات المحب المجنون. والجميل أنه عند هذا المفصل من الأبيات يتحول من خطاب التكلم (قلبي، عيوني، مشهدي، أنا)، إلى خطاب الغيبة، فكأنه قد تشبع من إدراك نفسه وأفعاله بالقلب والعقل، فلما غاب عنه الحضور صار يرى نفسه شخصًا آخر، ويجرِّد من ذاته ذاتًا أخرى، يستطيع وصفها ومراقبتها ورؤيتها منفصلة عنه، وكأن اسمه اسمُ شخص آخر يراه ويراقب حركته وهو يتنقل من مكان إلى مكان: )ذا مسيكين بن شيبان لي به يسده)، )بن عمر بن مبارك لي ذكر أهل وده)، (وسط كبده)، (هام قلبه)، ورغم أن المحقق اختار الرواية) :يا مسيكين) بدلًا من) ذا مسيكين (في النسخة :ج فإنه كما يبدو قد تردَّد الشاعر وحار بين التعبيرين بالنداء والإشارة، فكلاهما يكشفان عن تجريد شخص آخر يحتاج للنداء والإشارة إليه عطفًا وحنانًا ومشاركة وجدانية للحالة التي يعيشها يؤكد ذلك بالتصغير: (مسيكين)!.
تركز القصيدة في جزئها الأول بصورة واضحة على المتكلم وتجعله محور الحديث، أكان في حالته الأولى قبل الالتفات والتجريد أم بعدها، وهي حالة تجعل للوظيفة الانفعالية حضورًا واضحًا([3])، كما تجعل من الأحداث المسندة للذات المتكلِّمة والكلمات الدالة عليها أحداثًا مضاعفة الفعل والتأثير مرَّتين: مرة على سبيل (الخصوص)، ومرة على سبيل (العموم) 🙁هام قلبي /ضاع العقل)، )في عيوني /في مشهدي)، (مكة /جدة(، ) بن عمر بن مبارك /بن شيبان(، (شبت اكيار حمرا / أشعلت ألف وقدة)، )ضيقة /سدة(.
اتساع المحبوب:
في هذه القصيدة لا نجد جهة واحدة للمحبوب الذي يتجه نحوه خطاب الحب؛ بل نجد جهات مختلفة، كلها تجعل الحب أكثر انفتاحًا واتساعًا، يتجاوز الشخص إلى الزمان والمكان، ويتجاوز المحبوب إلى الآخر الإنسان، نجد المحبوب يكتسب بعدًا دينيًّا (مكة وجدة)، فهما مهوى القلوب ومحط الأفئدة، ثم نراه يكتسب بعدًا غزليًّا جماليًّا يأخذ من قاموس الغزل الحسي والعذري معًا، لكنه يفتحه على صور وكنايات ذات بعد كوني شامل ومتسع، فهو: (محبوب /منسوع جعده /تام الأوصاف /مدته يا خير مدة /البدور الطوالع كلها فوق خده /النجوم الزواهر لي تضي فوق عقده /السيول القوية من بروقه ورعده. ثم : كامل الزين /حبيب القلب(، ثم نراه يطلب من المحبوب أن يفتح له الدار، ويفتح له فيه) ضيقة وسدة)، ثم أن (يفتح له الدار كله)، ثم لا يجعله يقتصر في فتحه على المحب وحده؛ بل يفتح داره على كل من جاء يقصده) /وافتح الباب كله من وصل لا ترده(، ثم يماثل ويقتدي في بابه بباب الرجاء في الله تعالى المفتوح دائمًا على عباده / (تحت باب الرجا مفتوح والعبد عبده)، ثم لا يقتصر على الوصال من حبيبه فقط، بل يدعو لكل حبيب أن يجتمع مع من يحب وأن يقرُب منه / (من بعد من حبيبه قرب الله بعده)، ثم يؤول الحب إلى المودة والتواصل والصفو والتآلف بين الناس في كل مكان) / كأس خمر الوفا به خضرت كل فنده).
هكذا يتسع الحب والمحبوب في دوائر أكبر وأكبر؛ فالمحب يتصل بمحبوبه، وبكل محب، وبكل إنسان، والمحبوب كريم يتسع لمحبه ولكل محب، ولكل إنسان يقصده من أي مكان في وحدة واحدة على التواصل والقرب والوداد، ومن هذه الوحدة الإنسانية ينبع المعنى الصوفي في القصيدة، معنى وحدة الإنسان والزمان والمكان.
لقد وردت الإشارة إلى الحب بألفاظ مختلفة ومتسعة: الود /الزين /حبيب القلب /عذب/ الحبيب/ القرب /الوصل/ الصفاء.
أما محل الحب ومكانه فقد وردت فيه ثلاثة مواضع :القلب /والعقل/ والكبد في مقامات مختلفة: فللقلب الهيام، وللعقل الضياع، وللكبد الحرارة والنيران. أما الجسم فقد صار نحيفًا ضعيفًا يتمايلُ، تحرِّكه الأقدام لتأخذه إلى كل مكان.
اتساع الزمان والمكان:
الزمن في هذه القصيدة زمن مفتوح بين المحب والمحبوب ما دام الحب يجمع بينهما، وما دام اللقاء مفتوحًا على التمني والرجاء، والزمن غالبًا منضبط محدد بالساعات والليالي والأيام، ومدرك بالعقل، فإذا كان المحب قلبه هائم، وعقله ضائع، وجسمه يذهب في كل اتجاه فهو إذن زمن مفتوح ومطلق من كل قيد، زمن لا يعرف القيود ولا الحدود، تلك التي يضبطها العقل، فهو يسير هائمًا، يرتمي في حركته في هذا الاتجاه وفي ذاك :
سير قد لي زمن هايم بلا عقل ندّه
ويتصل المكان بهذه الصفات المنفتحة والمطلقة للزمان، فهو مكان ورد في البداية في كلمتي (مكة وجده)، وهما مكانان ينتميان في تقاربهما وتجاورهما إلى خصوصية مكة ومركزيتها وإلى زمنها القديم والمطلق والمستمر، وحين نرى مكان المحبوبة هنا فإننا نجده مقترنًا بالمكان العلوي في السماء؛ فهي مرتبطة بالبدور والنجوم والبروق والرعود والسيول، فهو مكان سماوي مطلق كذلك.
حتى الدار التي ذكرها بوصفها مكانًا للمحبوبة فقد طلب منها أن تكون مفتوحة أبوابها، التي عبر عنها بـ (ضيقة وسده)، ثم طلب أن تفتح الدار كلها لكل من يقصدها ويرد عليها محبوبًا كان أم غير محبوب:
وافتح الدار كله من وصل لا ترده
فلعل فتح باب الدار يفتح باب الرجاء لهذا العبد الواقف تحته، وحينئذ يتحد المكان المطلق بالزمان المطلق في معية متصلة بالله تعالى:
تحت باب الرجا مفتوح والعبد عبده
اتساع اللغة الشعرية:
تقوم اللغة في القصيدة على نظامين متآلفين :نظام التجاور الأفقي، ونظام الاستبدال العمودي، في النظام الأول نجد اللغة تتكامل وتترادف وتنسجم في دلالات متجاورة ومتقاربة:
العقل والقلب / الهيام والضياع / العيون والمشهد/ شيبان وبن عمر بن مبارك/ شبت واشعلت / الأكيار والوقدة / البدور والنجوم / الخد والعقد / البروق والرعد / شدة وعدة / ضيقة وسده / باب الدار وباب الرجاء / شنف واطف /
وقد تمت الإشارة إلى بعضها سابقًا من زاوية الخصوص والعموم.
كما نجد التراكيب عبَّرت عن المعاني بمجموعة من الكنايات التي توسّع المعنى الواحد إلى دوائر مختلفة من الدلالات التي تظل تتسع وتتسع :
– (بلا عقل ندّه) كناية عن الجنون والتمايل في الحركة وعدم الاتزان.
–(لي به يسده) كناية عن الفقر والكفاف في العيش.
– (شبت اكبار حمرا كلها وسط كبده) كناية عن حرارة العشق وآلامه.
– (مدته يا خير مده) كناية عن الطول الكريم والجميل.
– (البدور الطوالع كلها فوق خده) كناية عن البياض والإضاءة.
– (النجوم الزواهر لي تضي فوق عقده) كناية عن جمال اللمعان وزينته.
– (والسيول القوية من بروقه ورعده) كناية عن بياض الأسنان وحسن الصوت وحلاوة الريق وعذوبته.
– (شدوا الهجن) كناية عن التأهب والتهيؤ والاستعداد.
– (فك لي يا حبيب القلب ضيقة وسده) كناية عن سعة الكرم وحسن الاستقبال وكثرة الضيوف.
أما النظام الثاني نظام الاستبدال العمودي فتكون الاستعارة أساسًا فيه /
– (مقابيس الهوى) جعل الهوى نارا تقبس.
-(درّت به ضروع المودة) المودة حليب أبيض يرضعه المحبون من أم واحدة.
– باب الرجا / حبل الوصل / خمر الصفا.
وكلها استعارات على أمل الوصول وقوة الوصل ولذة التصافي والاتصال الحميم بالناس.
وهكذا تتسم هذه القصيدة بخصيصة الاتساع في المحبة، ووحدة في الزمان والمكان والإنسان، وصوفية في اتجاه الإنسان موحدا نحو الله تعالى.
نص القصيدة:
وله رحمه الله في ٥ جمادى الآخرة سنة ١٣٤١
هام قلبي وضاع العقل من با يرده
سير قد لي زمن هايم بلا عقل ندّه
في عيوني وفي مشهدي مكة وجده
والله انّا مهايم سير في كل بلده
(يا) مسيكين بن شيبان لي به يسدّه
بن عمر بن مبارك لي ذكر أهل ودّه
شبّت اكيار حمرا كلها وسط كبده
واشعلت من مقابيس الهوى ألف وقده
من هنا هام قلبه عند منسوع جعده
تام الاوصاف لي مَدّته يا خير مَده
والبدور الطوالع كلها فوق خدّه
والنجوم الزواهر لي تضي فوق عقده
والسيول القوية من بروقه ورعده
كامل الزين درّت به ضروع المودّه
شِدّوا الهجن ما ذا الحين شِده وعدّه
فك لي يا حبيب القلب ضيقه وسدّه
وافتح الدار كله من وصل لا تردّه
تحت باب الرجا مفتوح والعبد عبده
من بعد من حبيبه قرّب الله بُعده
من هنا مُدّ حبل الوصل يا زين مُدّه
شنّف الكأس با اشرب واطف نيران كبده
كأس خمر الصفا به خضّرت كل فنده
[1] ) ديوان عبد القادر بن عمر بن شيبان التميمي (الشعيرة)، ضبط وتحقيق: علي أحمد بارجاء، مراجعة وتدقيق: د. أحمد هادي باحارثة، الطبعة الأولى: 1444 – 2023 ، مركز تريم للدراسات والنشر.
[2] ) ينظر المصدر السابق ج: 1 ، : 248 – 249.
[3] ) ينظر: قضايا الشعرية: 27.