نقد
شفيق علي القوسي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 77
رابط العدد 29 : اضغط هنا
من يقرأ الأدب العربي القديم، يجد في قصائد الكثير من الشعراء تشابهًا كبيرًا، سواء كان في صورهم الشعرية أو في موضوعاتهم المتنوّعة، بَيْدَ أنَّ هناك بعض الشعراء تساوت تجربتهم الشعرية من خلال محنةٍ ما تجمع بينهم، ومن أولئك الشعراء، الشاعران الكبيران، والعلمان الشامخان، الملك الشاعر/ المعتمد بن عباد الإشبيلي المتوفى 488هـ، والأمير الشاعر/ أبوفراس الحمداني المتوفى 357هـ؛ إذ نلمح في قصائدهما إب ان مرحلة الأسر تشابهًا كبيرًا، فكلاهما كان لهما المجد في موطنه؛ المعتمد ملكًا، وأبو فراس أميرًا، وكلاهما وقع في الأسْر، وقد خلَّفا عددًا من القصائد البديعة، والمقطوعات المؤثرة في وصف الأسر ومِحنه المظلمة، فكل واحد منهما أثخن بالجراح قبل أسره، وتكبد مرارة المرض في محبسه، وقد كانت مدة الأسر لكلٍ منهما متساوية، غيرأن أبافراس تمَّ إطلاق سراحه، أما المعتمد فقد مات أسيرًا في منفاه البائس.
وقد كان لقصائدهما في تلك المرحلة تأثير بالغ في تشكيل الحزن، ورسم آلامه، واستقراء تنوُّع انكساراته، وتتابع زفراته المحرقة، هذا ما جعلنا نقارن بين تلك الأشعار، ونرصد تشكيلات الحزن فيها.
ونفتتح المقارنة بينهما من قول المعتمد بن عب اد عندما هاجم المرابطون عاصمة ملكه,وحاصروه في قصره سنة484هـ, وقد كان أشار عليه وزراؤه بالخضوع والاستعطاف, فخرج مدافعاً عن نفسه وأهله وأخذ يقول (1):
ما تماسكت الدموع *** وتنبِّهُ القلب الصديع
وتناكرت هممي لما *** يستامها الخطب الفظيع
قالوا الخضوع سياسة ٌ *** فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضوع *** على فمي السمِّ النقيع
إن يسلب القوم العدا *** ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه *** لم تسلم القلب الجموع
لم أستلب شرف الطباع *** أيسلب الشرف الرفيع
ما سرت قط إلــــى *** وكان من أملي الرجوع
شيم الألى أنا منهم *** والأصل تتبعه الفرو ع
هذا النص يتفق مع قول أبي فراس عندما وقع أسيرًا في أيدي الروم بعد أن طالبه أصحابه بالفرار(2):
وقال أصيحابي الفرار أو الردى *** فقلت هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا ي عينني *** وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
فلا خير في دفع الردى بمذلةٍ *** كما ردها يومًا بسوءته عمرو
نلاحظ تشابه المعاني بين النصين، فكلاهما تنضح منه النفس الأبية العزيزة الرافضة للتولي والفرار، بل حتى الاستسلام، وقد فضَّل كل واحد منهما الموت على ذ ل الخضوع، وقهر اليأس، على الرغم من أن المعتمد أُسِرَ هو وأسرته، وخلع من ملكه وسلطانه، أما أبو فراس فقد تمَّ أسرُه في سريَّة فرسان في إحدى ضواحي منبج، ومع ذلك تظلُّ نفس العربي أبيَّةً جامحة، لمحْنا ذلك في النصَّينِ السابقين لكلا الشاعرين.
وقد جاء نص المعتمد على تفعيلات مجزوء الكامل المرفل “متفاعلن متفاعلاتن”، حيث بدا الإيقاع أكثر رونقًا، وأرقَّ وقعًا من مقطع أبي فراس، الذي جاء على وفق تفعيلات البحر الطويل ذي النفس الطويل، والمقاطع الكثيرة، كما أن المعتمد استخدم تقنية الازدواج الصوتي عبر تناوب حرفي القافية “الياء والواو”، ما أعطى النصَّ بُعْدًا نفسيًّا، وتناغُمًا إيقاعيًا، يمفصل النص بحركة دؤوبة تخلق القدر الكافي من الشعرية.
وفي نص آخر يقول المعتمد(3):
بكيت إلى سرب القطا إذ مررْنَ بي *** سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
ولم تك والله المعيذ حسادة *** ولكن حنينًا إن شكلي لها شكل
فاسرح لا شملي صديع ولا الحشا *** وجيع ولا عيناي يبكيهما ثكل
هنيئًا لها إن لم يفرق جميعها *** ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهـل
وإن لم تبتْ مثلي تطير قلوبها *** إذا اهتزَّ باب السجن أو صلصل القفل
لنفسي إلى لقيا الحمام تشوفٌ *** سواي يحب العيش في ساقه كبل
ألا عصم الله القطا في فراخها *** فإن فراخي خانها الماء والظل
نلاحظ هذا النص يتماثل صياغةً وإيقاعًا مع نص أبي فراس وهو يخاطب حمامة في سجنه، ويبثها همومه قائلاً (4):
أقول وقد ناحت بقربي حمامة *** أيا جارتا هل بات جالك حالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى *** وما خطرت منك الهموم ببالي
أتحمل محزون الفؤاد قوادم *** على غصن نائي المسافة عالِ
أيا جارتا من أنصف الدهر بيننا *** تعالي أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة *** ويسكت محزون ويندب سالِ
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة *** ولكن دمعي في الحوادث غالِ
ونجد التشابه إلى حدٍ كبيرٍ بين النصين السابقين يكاد يكون جليًّا، فالمعتمد يتمنَّى أن يكون كسرب القطا؛ كي ينطلق محلِّقًا بلا أغلال ولا قيود، وأبو فراس يخاطب حمامة على غصن، ويريد أن يقاسمها همومه؛ لأنه كما يقول أَوْلى بالدمع منها غير أنَّ دمعَه غالٍ إذا دهمته الحوادث. بْيْد أن الحزن الراعف يتشظَّى بقوة في نص المعتمد؛ فقلبه يطير إذا سمع باب محبسه أو حتى قفل الباب يتحرك!! حتى أنه تمنى الموت؛ لأنه لا يطيق العيش حبيسًا، كما أنَّ حُزنَه على ملكه وأهله كبير، بدليل قوله:(فإن فراخي خانها الماء والظل) كناية عن أبنائه واسرته التي باتتْ تعاني الأمرَّيْنِ في ظلمات سجن أغمات. وهذا يذكِّرنا بنص الحطيئة وهو يعتذر لسيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه بقوله (5):
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ *** زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة *** فاغفرْ عليك سلام الله يا عمر
ولم يكتفِ المعتمد بذلك بل أخذ يصف قمريَّةً أمامها طائران يغرِّدان في دعة وعذوبة (6):
بكت إن رأت إلفين ضمَّهما وكر *** مساءً وقد أخنى على إلفها الدهـرُ
بكتْ لم ترق دمعًا وأسبلت عبرة *** يقصر عنها القطر مهما همى القطـر
وناحت فباحت واستراحت بسرها *** وما نطقت حرفًا يبوح به سِـرُّ
فما لي لا أبكي أم القلب صخرة *** وكم صخرة في الأرض يجري بها نهـرُ
بكت واحدًا لم يشْجِها غير فَـقْـدِ هِ *** وأبكي لآلاف عديدهم كثـرُ
بنيَ صغيــر أو خليل موافق *** يمزّق ذا فقرٌ ويغــرق ذا بحــرُ
ونجمان زين للزمان احتواهما *** بقرطبة النكداء أو رندة القبـر
فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي *** لمثلهما فلتحزنِ الأنجُـمُ الزُّهْــرُ
إن الحزن يكاد يقفز من هذه الأبيات، كما أن الأسى يقطر حسرة، ونحن نقرأها؛ حيث وفِّق المعتمد في اختيار تفعيلات البحر الطويل التي تساعد على تصوير الحزن واستيفاء عناصره، ليتشكَّل البكاء المر والجزع الشديد من هول الفاجعة وفداحة المصير. ذلك يتجلَّى من خلال: (وأسبلت عبرة، فما لي لا أبكي، وأبكي لآلاف)، وتصوير هول المصاب لفقد الأبناء، حتى إنه طلب من النجوم أن تبكي معه لفقد وَلدَيْه، وهنا يبرز ما يسمِّيه النُّـقَّاد: (المعادل الموضوعي)؛ حيث سعى الشاعر إلى إضفاء ما ينتابه على ما يعادله أو يساويه في حزنه وشكواه، ولا يوجد مثل الطيور معادلًا لحالة شاعرنا، فهو حزين بائس أسير يتوق للحرية والانعتاق، والتحليق والانطلاق، كحال الطيور في جوِّ السماء.
والنص السابق يتفق مع نص أبي فراس (أراك عصيَّ الدمع) وزنًا وقافيةً، بل وحتى مضمونًا وسياقًا، وهذا لا يُعَدُّ غريبًا إذا ما أخذنا في الاعتبار أنَّ المعتمد متأخر زمنًا وأحداثًا عن أبي فراس، ولا غَرْوَ إنْ تأثَّـر المعتمد بأبي فراس في هذه القصيدة؛ لأنها قصيدة ذائعة الصِّيت، سارت بها الرُّكبان، وتحدَّث عنها الزمان، والمعتمد بائس حزين ولا بأسَ إن التمس من تلك القصيدة زاد الأسى وماء التفجُّع.
وقد أثار النصَّانِ السابقان فينا انتباهًاعجيبًا، لما فيهما من وزن متناغم، ودفق إيقاعي لافت، ليكوِنا معًا سلسلة متصلة الحلقات لا تنبو إحداها عن مقاييس الأخرى؛ لأن الكلام الموزون ذا النغم الإيقاعي المتدفق تتشرَّبه القلوب قبل الآذان، وتخفق له المشاعر، وتطرب له الخواطر. لذلك كان الإبداع الفني في جانبه الحدسي وجانبه التعبيري متصلًا بالحالات الشعورية والانفعالات والوجدان والعواطف؛ لأنه ما مِنْ عملٍ فنيٍّ يستجيب له الفكر إلا وله أصوله النفسية، بمعنى آخر: وجود منبِّه أو باعث أومثير يُثِيرُ الوجدان فيؤدي إلى الانفعال. وفي تشكيلات الحزن لدى الشاعرَيْنِ نجد مثيرات متعددة، منها على سبيل المثال: مجيء العيد وهما مكبَّلانِ بالقيود، تعلوهما الحسرة، وتقطع كبدَيْهِما آلام الأسر؛ إذ يقول المعتمد عندما دخلتْ بناته ليهنئنه بالعيد، ورآهن حسيراتٍ بائساتٍ، حافيةً أقدامُهن، خاشعة أبصارُهن، في موقف يطيش العقل منه حُزنًا وألمًا(7):
في ما مضى كنت بالأعياد مسرورا *** فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة *** يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة *** أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية *** كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا
لا خد إلا تشكى الجدب ظاهره *** وليس إلا مع الأنفاس ممطورا
أفطرت في العيد لا عادت إساءته *** فكان فطرك للأكباد تفطيرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلًا *** فردك الدهر منهيًا ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به *** فإنما بات بالأحلام مغرورا
أما أبوفراس قيقول في حسرة وحزن،وقد أدركه العيد وهو في محبسه(8):
يا عيد ما عدت بمحبوبِ *** على معنى القلب مكروبِ
يا عيد ما عدت إلى ناظر *** من كل حسن فيك محجوبِ
يا وحشة الدار التي ربها *** أصبح في أثواب مربوبِ
قد طلع العيد على ربها *** بوجه لا حسن ولا طيبِ
مالي وللدهر وأحداثه *** لقد رماني بالأعاجيبِ
والشاعران يتفقان في تصوير أحزانهما، وبث آلامهما، مع أول عيد يطل عليهما وهما يرسفان في القيود، فلا أهل ولا عز، لا مجد ولا سعادة. إلا أن نص المعتمد كان الأكثر حزنًا، والأشد وقعًا، فإذا كان أبو فراس وحيدًا في الأسر، فإن المعتمد معه أهله!!، ويا لهول الصدمة، وفداحة الفاجعة، عندما يرى بناته في تلك الصورة البائسة الحزينة وهُنَّ بائسات حسيرات، جائعات، خاشعات البصر، كأنهن لم يطأن المسك والكافور!! (9)، ولم يتمتعن بالحظوة والسرور!!!، وكم كان قوله: (فكان فطرك للأكباد تفطيرًا) ملائمًا في استدعاء كل عناصر الأسى والندم، واستقصاء كل مناحي الوصف الدقيق لتلك الحالة المؤلمة.
كما اتفق الشاعران في شد انتباه القارئ عبر تقنية (الازدواج الصوتي)(10) من خلال تعاقب حرفي القافية: الواو والياء، في نص المعتمد: مأسورا، قطميرا، مكاسيرا، كافورا…، وفي نص أبي فراس: مكروب، محجوب، مربوب، طيب، بالأعاجيب…، هذا أعطى النصَّيْنِ السابقَيْن بُعْدًا إيقاعيًّا متناغمًا، وحقَّق لهما قدرًا كبيرًا من الجمال الفنِّي، على الرغم من أن قافية المعتمد رويُّها راء متبوع بألف الإطلاق، وقافية أبي نواس رويُّها باء مكسور، وكلاهما تُوحِيَانِ بالحزن والألم، وحبِّ التحرُّرِ والفكاك من الأسر.
وقد كان أبو فراس موفَّقًا في اختيار حرف الباء رويًّا لنصه السابق؛ فالباء حرف شفوي انفجاري، يأتي في حالة إغلاق الشفتين، ثم فتحهما فجأة، ومن المعروف أنَّ الباء من حروف القلقلة عند علماء التجويد والقراءات، والأصوات المتقدمة في الفم توحي بالاستصغار والازدراء، أما الجر: فيفيد الانتقاد، والإلحاق، ولعل هذا ما قصده أبو فراس من ازدراء الأسر، والقلق من تأخُّر ردِّ ابن عمِّه سيف الدولة.
كذلك نلمح توفيق المعتمد الذي اختار الراء المفتوح المتبوع بألف الإطلاق رويًّا لنصه، وما لهذا الحرف من صفات كالتكرير والاضطراب، وهو ما يترجم تلك الحالة القاتمة المرعبة التي يعايشها المعتمد، من خوف دائم، وقلق مستفز، وخاطر مضطرب، وما حضور ألف الإطلاق إلا دليل واضح على رغبة الشاعر في التحرر والانعتاق، والانطلاق بعيدًا من القهر والوصب.
ولمَّا كان الشعر صناعة، فقد أجاد الشاعران في إقامة الوزن، وتخيُّر الألفاظ، وانتقاء المخارج المعبرة عن الحالة الشعورية، بما يؤكد على أن الإبداع الفني يتصل في جانبه التعبيري بالحالات النفسية للشعراء والمبدعين، عبر المؤثرات المتعددة، التي تذكي العواطف، وتؤجِّج المشاعر، وهذا ما لمحناه في النصين السابقين من تصوير المأساة في أول عيد يطل على الشاعرين وهما في غياهب السجن.
كما أن التحول الإيقاعي في النصين السابقين سار وفق منظومة من الحركات الإيقاعية المتناغمة، وهو ما خلق الحيوية والدينامية في البنى السياقية بما يتفق مع الحركة الداخلية للنص، في تتابع نسقي بديع، يسمح بتوليد دفقات شعرية، تفيض عذوبةً وجمالًا. وذلك نلاحظه من خلال تناوب التفعيلات في النصين السابقين، فتفعيلات البحر البسيط: تتحول من مستفعلن إلى متفعلن في نص المعتمد، وفي نص أبي فراس: تتحول تفعيلات البحر السريع: مستفعلن أيضًا إلى متفعلن ومستعلن. بما يجسد الحضور الإيقاعي لدى الشاعرين في تصوير الانفعالات، وتفسير عذابات الضمير الملتهبة.
ومن تشكيلات الحزن عند الشاعرين: رثاء الأقارب، حيث ورد على أبي فراس وهو في الأسر نبأ وفاة أبي المكارم ابن سيف الدولة سنة 354هـ، فاشتدَّ جزعه على ابن أخته، وأرسل قصيدة يعزّي فيها سيف الدولة، وقد استهلَّها بالدعاء لسيف الدولة بطول العمر ونعته بالصبر والجلد فقال(11):
يا عمر الله سيف الدين مغتبطًا *** فكل حادثة يرمى بها جلـل
من كان عن كل مفقود لنا بدلًا *** فليس منه على حالاته بدل
يبكي الرجال وسيف الدين مبتسمٌ *** حتى عن ابنك تعطى الصبر يا جبل
لم يجهل القوم منه فضل ما عرفوا *** لكن عرفت من التسليم ماجهلوا
و يُظهِرُ أبو فراس على الأمير الفقيد شتَّى ضروب اللوعة والحزن والتفجُّع، ولا غرو في ذلك؛ فالفقيد يمتُّ بصلة قريبة إليه، كما أن أسر الشاعر وبُعْدَه عن الأهل والوطن أضفى على نفسه كآبة ووحشة، وفي ذلك يقول (12):
هل تبلغ القمر المدفون رائعة *** من المقال عليها للأسى حُلَـلُ
ما بعد فقدك في أهل ولا ولد *** ولا حياة ولا دنيا لنا أمَـلُ
يا من أتته المنايا غير حافلة *** أين العبيد وأين الخيل والخولُ؟
أين الليوث التي حوليك رابضة *** أين الصنائع أين الأهل ما فعلوا؟
أين السيوف التي يحميك أقطعها *** أين السوابق أين البِيض والأسلُ؟
وقد جاء إلى أبي فراس وهو أسير نبأ موت أمه؛ فرثاها بقصيدة تفيض لوعة وحزنًا، تعبر عن ألمه العميم، وحزنه العميق، ويبدو تأثرُه واضحًا في ترديد الدعاء بالسُّقيا لجدثها حيث يقول(13):
أيا أمَّ الأسير سقاكِ غيثٌ *** بكرة منكِ ما لقي الأسير
أيا أمَّ الأسير سقاكِ غيثٌ *** تحير لا يقيم ولا يسير
أيا أمَّ الأسير سقاكِ غيثٌ *** إلى من بالفدا يأتي البشير
أيا أمَّ الأسير لمن ت ربى *** إذا مت الذوائب والشعور
ويحرم على نفسه أن يكون هادئ البال، مرتاح النفس، بعد أن لب ت أ مه نداء ربها، حيث يقول(14):
حرامٌ أن يبيتَ قريرَ عينٍ *** ولؤم أن يلم بهِ سرور
وقد ذقتِ المنايا والرزايا *** ولا ولدٌ لديكِ ولا عشير
وغاب حبيب قلبِك عن مكانٍ *** ملائكة السماءِ بهِ حضور
ويمزج بين البكاء على أمه، وبين الحديث عن مناقبها كالسماح، والتقوى، والأخلاق الكريمة، فيقول(15):
لِيَبْكِكِ كُـلُّ يومٍ صمْتِ فيه *** مصابرة ً وقد حمي الهجي ر
ليبْككِ كلَّ يومٍ قُمْتِ فيه *** إلى أن يبتدي الفجر المنير
ليبْكِكِ كلُّ مضطَهدٍ مَخوفٍ *** أجَرْتيه وقد قلَّ المُجِير
ليبْكِكِ كلُّ مسكينٍ فقيرٍ *** أغثْتِيه وما في العظم زير
ويرسل الشاعر ذوب نفسه، ونفثات حشاه الجريح، وصبابات قلبه الراعف بالحزن والأسى، حتى نكاد نسمع نشيج بكائه عندما يقول(16):
أيا أُمَّاه كم همٍّ طويل *** مضى بكِ لم يكن منه نصي ر
أيا أُمَّاه كم سرٍّ مصون *** بقلبكِ مات ليس له ظهور
أيا أُمَّاه كم بشرى بقربي *** أتتكِ ودونها الأجل القصير
إلى من أشتكي ولمن أناجي *** إذا ضاقت بما فيها الصدور
أ م ا المعتمد، فقد تش كل الحزن لديه وهو في أسره، في ضوء الآلام التي سيطرت على خواطره، واستحوذت على أفكاره، لذلك نجده يرثي ولديه: المأمون الذي قتل في قرطبة سنة 484هـ، والراضي الذي قتل في رندة بعده بأيام، حيث يقول(17):
يقولون صبرًا لا سبيل إلى الصبرِ *** سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
هوى الكوكبان الفتح ثم شقيقه *** يزيدٌ فهل عند الكواكبِ من خبرِ
ترى زهرها في مأتم كل ليلة *** تخمش لهفًا وسْطَهُ صفحةَ البدرِ
ينحني على نجمين أثكلت ذا وذا *** وأصبر ما للقلب في الصبر من عذرِ
أبا خالد أورثتني الهمَّ خالدًا *** أبا النصر مُذْ ودَّعت ودَّعني نصري
وقبلكما قد أودع القلب حسرة *** تُجَدِّد طولَ الدهر ثكلَ أبي عمرو
وهنا نلاحظ الحزن الشديد، والتفجع الوبيل، والحسرة المحرقة على وَلدَيْه، وهذا أثار الحسرات الكامنة على فقد ابنه أبي عمرو سراج الدولة الذي كان على قرطبة، وظل بها إلى أن هاجمه ابن عكاشة سنة468هـ، فدافع عنها، وخرج لملاقاة عدوِّه، وقتل بعد أن سقط عن جواده.
وقال المعتمد في إِثر ثورة ابنه عبد الجبار(18):
كذا يهلك السيف في جفنه *** إلى هز كفي طويل الحنينِ
كذا يعطش الرمح لم أعتقله *** ولم تروه من نجيع يميني
كذا يمنع الطرف علك الشكيم *** مرتقبًا غرة في كمينِ
كأن الفوارس فيه ليوث *** تراعي فرائسها في عرينِ
ألا شرف يرحم المشرفي *** مِمَّا به من شمات الوتينِ
ألا كرم ينعش السمهري *** ويشفيه من كل داء دفينِ
ألا حِنة لابن مَحنية *** شديد الحنين ضعيف الأنينِ
يؤمل من صدرها ضمة *** تُبَوِّئُهُ صدر كف معينِ
وعندما تمَّ إخمادها، انقطع حبل الأمل الذي كان المعتمد متمسِّكًا به، وانطفأ بصيصُ النور الذي كان يُمَنِّي نفسه بأن يصبح شمسًا ساطعة، فأكل الحزن قلبه، وسكنت الحسرة كل جسده، حتى أطلق ليأسه العنان صارخًا بكل قوة(19):
تؤمِّل للنفس الشجية فرجةً *** وتأبى الخطوب السود إلا تماديا
لياليك من زاهيك أصفى صحبتها *** كذا صحبت قبل الملوك اللياليا
نعيم وبؤس ذا لذلك ناسخ *** وبعدهما نسخ المنايا الأمانيا
من كل سبق نلاحظ أن الشاعرين شكَّلا حزنيهما تبعًا للمثير، وتماشيًا مع كل البواعث، وقد تشابها في وصف الألم، وتصوير المأساة، حتى أضحى للحزن تشكيلات متنوعة عند كل واحد منهما، يتشذر منها الشجن، ويقطر منها البوح البائس الحزين.
ومما يجدر ذكره في هذه الدراسة؛ هو أن أبا فراس كان يضع أمله وثقته في دولة قوية كدولة بني حمدان، وفي فارسٍ بطلٍ ومحنك كابن عمه سيف الدولة، لذلك كانت ملامح الانفراج والخروج من السجن تبدو أكثر قربًا، على عكس المعتمد الذي فقد الأمل واستسلم للأسر؛ لأنه كان تاج ملوك الطوائف، وبسقوطه انفرط عقد الأندلس في ذلك الوقت، لذلك نجده ينوِّع في تأصيل أحزانه ويقوم بتشكيلها بطرائق متع دّدة، حتى أصبحت مرحلة الأسر هي الأكثر إنتاجًا، والأغزر سبكًا، والأقوى عاطفةً، من كل مراحل حياته.
غير أن تأخُّر إطلاق سراح أبي فراس أثار تساؤلا ٍتٍ عدَّة عند غالب المؤرخين، والإجابة عن الإبطاء في فداء أبي فراس تستدعي النظر في الحال التي كان عليها سيف الدولة بعد أسر أبي فراس؛ فلقد سقطت حلب بأيدي الروم، ونهبت أموالها وأسلحتها وأمتعتها، والفداء يتطلب المال الكثير، والروم كان في أيديهم فضل ثلاثة آلاف أسيرمن العرب، ولم يكن سيف الدولة ـ بافتداء أبي فراس وزمرة قليلة معه ـ ليبقي بين أيدي الروم هذا العدد الضخم من رجاله، لهذا ظل ينتظر الظروف المواتية التي تسمح بافتداء الجميع. وعندما سنحت الفرصة سنة 355هـ، أقام الفداء بشاطئ الفرات، وأنفق عليه خمسمائة ألف دينار، وأخرج كل من قدر على إخراجه من أسارى المسلمين من سجون الروم، ودفع المال الذي لزمه لفداء الأسرى من ماله دون أن يعاونه أحد من الملوك ولا غيرهم، وقد بلغ به الأمر أن يرهن درعه الثمين المعدوم المثل لما نفد ما كان معه من مال(20).
وختامًا، يمكننا القول: إن أوجه التشابه بين المعتمد بن عباد الإشبيلي، وأبي فراس الحمداني في محنة الأسر، كان لها الأثر البالغ في ظهور عددٍ من الصور المتشابهة بينهما، من خلال الموضوعات الشعرية، وتشابه المعاني والمفردات اللغوية، وتقارب الصور البيانية والأساليب البلاغية، بل وحتى الإيقاع وموسيقى الشعر.
ومما أعطى تجربة الشاعرين بُعدًا صوفيًا، أكثرا فيه من الحكمة وشكوى الزمان، وذكر الموت والفناء، دخولهما السجن بعد سن الأربعين، فقد كان دخول المعتمد السجن وهو في آخر عقده السادس، أ ما أبو فراس فكان دخوله للسجن في مستهل العقد الرابع من عمره، مع الأخذ في العلم أن تجربة المعتمد كانت الأكثر قسوة من تجربة أبي فراس؛ لأن المعتمد فَقَدَ كل شيء في محنته: الملك، والعرش، والسؤدد، والعز، وحياة القصور، وعظمة السلطان، وغدا أسيرًا كسيرًا قابعًا في سجن أغمات، حيث توالت النكبات على كاهله، ممَّا جعل شعره يمتاز بالصدق العاطفي، ولا غرو! فالمعتمد يمتلك ثقافة شعرية واسعة مكَّنتْه من تصوير تلك المرحلة المُرَّة القاسية. هذا يجعلني أقول: إن المعتمد بهذا قد فاق أبا فراس في تشكيل أحزانه، مع أ ن أبا فراس كان يسبقه زمنًا ونبوغًا!!، إلا أن المعتمد حلَّق بعيدًا في تصوير عواطفه، وأثبت أنه ملك كبير، كما أنه شاعر عظيم، فقد كان من أسرة تقرض الشعر، وكان لا يستوزر إلَّا مَنْ كان شاعرًا، وقد حاولت هنا إظهار بعض صور التشابه بينه وبين الأمير الفارس والشاعر أبي فراس الحمداني، من خلال تجربة الأسر التي كانت من أهمِّ المحطات الأدبية عند الشاعرَيْنِ، ويمكن أن نطلق عليها: {أغماتيات المعتمد، وروميات أبي فراس}(21).
لقد كانت مرحلة الأسر عند كلا الشاعرين، بمثابة المحطة التي توقَّف عندها الشاعران كثيرًا، والجذوة الملتهبة التي اصطلى بضوئها وجدان كلُّ واحد منهما، حتى وإن كانت اللحظات صعبة، والساعات مريرة، فقد شكَّلا إنتاجًا شعريًّا مصبوغًا بالحزن والأسى، ونبرات التوجُّع والتفجُّع والكآبة، لتخرج إلينا قصائدُهما في تلك المرحلة ذات شجن عميق، وتوجُّع راعف، على الرغم من أنها كانت قصيرة في الوقت، فإنها كانت طويلة من حيث غزارة الإنتاج، هذا ما أكَّده المؤرخون، وشهدتْ به مؤلفاتهم(22).
الهوامش
1ـ ديوان المعتمد بن عباد، ملك إشبيلية، جمعه وحققه: أحمد أحمد بدوي، وَحامد عبد المجيد، المطبعة الأميرية، القاهرة، ط/1، 1951م، ص 88ـ 89.
2ـ شرح ديوان أبي فراس الحمداني، ابن خالويه، دار صادر، بيروت، 1959م، ص 107.
3ـ ديوان المعتمد، ص 110ـ111.
4ـ ديوان أبي فراس، ص 130.
5ـ ديوان الحطيئة جرول بن أوس، شرح ابن السكيت والسجستاني، تحقيق: نعمان أمين طه، القاهرة، ط/1، 1378هــ ـ1958 م، ص 98.
6ـ ديوان المعتمد، ص 68ـ69.
7ـ نفسه، ص 100ـ 101.
8ـ ديوان أبي فراس، ص 145.
9ـ ((في هذا إشارة إلى القصة المشهورة لزوجته اعتماد الرميكية، حين رأت الناس يمشون في الطين، فاشتهت المشي فيه، فأمر المعتمد بأشياء من الطيب فسحقت وذرت في ساحة القصر، ثم صب ماء الورد على الطيب، وعجنت بالأيادي حتى صارت كالطين، فخاضتها اعتماد مع بناتها وجواريها)) ينظر: ديوان المعتمد، ص 101.
10ـ معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، د.أحمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1403هـ ـ 1983م، ص 97.
11ـ ديوان أبي فراس، ص 275ـ276 .
12ـ نفسه، ص 276.
13ـ نفسه، ص 276.
14ـ نفسه، ص 276.
15ـ نفسه، ص 277.
16ـ نفسه، ص 277.
17ـ ديوان المعتمد، ص 105.
18ـ نفسه، ص 116.
19ـ نفسه، ص 117.
20ـ ينظر: نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، للمحسن بن علي التنوخي، تحقيق: عبود الشالي، دار صادر، بيروت، ط/2، 1995م، 1/ 182، و زبدة الحلب من تاريخ حلب، لابن العديم، تحقيق: سامي الدهان، دمشق، 1370هـ ـ1951 م، ط /1، 1/ 46، و نخب أدبية وتاريخية، ماريوس كنار، الجزائر، 1934م، ص 315.
21ـ معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة، كامل المهندس، مكتبة لبنان، بيروت، ط/2، 1984م، ص 190. وجاء في المعجم: “الروميات: هي أشعار أبي فراس الحمداني (ت357هـ)، التي نظمها في القسطنطنية حينما أسره الروم وسجنوه فيها أربع سنوات، وهي تفيض بعواطف الحنين إلى أمه العجوز وبنيته الوحيدة، والحب لسيف الدولة”.
22ـ تحدَّث الأدباء والنقاد عن هذه الأشعار، فرأوا فيها صفوة إنتاج أبي فراس، فهذا الثعالبي صاحب يتيمة الدهر، يقول “إنها غرر جادت بها قريحة الشاعر الأسير، وكانت أشعاره تصدر في الأسر والمرض، وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه وأحبابه والتبرم بحاله ومكانه عن صدر حرج، وقلب شج، فتزداد رقة ولطافة وتبكي سامعها، وتعلق بالحافظة لسلاستها”، يتيمة الدهر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، ط/2، 1973م، 1/61. وقال التنوخي في النشوار: “ولأبي فراس كل شيء حسن من الشعر في أسره، ويروى عن أبي الفرج الببغاء قوله: وله (أي أبوفراس) في أسره مراثٍ يظهر فيها التعطُّف لسيف الدولة، وله شعر كثير حافل بمعانٍ مخترعة لم يسبقْ إليها. نشوار المحاضرة، 1/112.
ويقول ابن الأبار صاحب الحلة السيراء عن المعتمد بن عباد: “ومحاسن المعتمد في شعره كثيرة وخصوصاً مراثيه لأبنائه،وتف جعه لزوال سلطانه”. الحلة السيراء، تحقيق: حسين مؤنس، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، ط/1، 1963م، 2/63. وجاء في مقدمة ديوان المعتمد، بتحقيق: أحمد محمد بدوي: “وكان عزاؤه في محبسه، وغذاؤه الروحي في أسره، إنما هو الشعريبثُّه كامنُ حزنه، وينفث فيه ذاهبُ مجده، ويتوجَّع فيه لمصرع بنيه، وفلذة كبده”مقدمة الديوان، ص 12.