دراسات
د. زهير برك الهويمل
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 85
رابط العدد 29 : اضغط هنا
مهــــاد:
لقد اعتمد البحث كتاب (جنوبي جزيرة العرب) ـ تأليف ثيودور ومايبل بنت، ترجمة: هناء خليفة ـ مصدرًا رئيسًا له، مسلّمًا بأن السياقات اللغوية الراسمة لملامح الصورة الحضرمية، فنيًّا وسرديًّا، هي سياقات صادرة عن المؤلف الحقيقي للكتاب؛ وهو الكاتبة (بنت)، وسيُكشف ذلك في أتون النقاشات الداخلية للبحث، ولن يتم الركون لإسهامات الترجمة في رسم تلك التصويرات، وإن كانت احتمالات ذلك واردة؛ لأن الصورة المرسومة هي أعمق بكثير من أن تكون أثرًا لسهوِ مترجمٍ، أو إضافته أو إنقاصه.
وقعت حدود البحث في إطار رحلة الزوجين (بنت) من المكلا إلى مدينة شبام. كما سيتجنب البحث ذكر الأسماء ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ لأن الغاية منه هي دراسة أسلوب البناء فالهدم، المتقصِّد لتشويه الصورة الحضرمية، أرضًا وإنسانًا، مجتمعًا وجغرافيا، والذي بدا نهجًا فنيًّا دقيقًا أظهرت فيه الكاتبة حسًّا عميقًا، وقدرة صياغية فائقة، في معالجتها لكثير من قضايا التشويه والإساءة لحضرموت أرضًا وإنسانًا.
لم يكن الزوجان (ثيودور، ومايبل بنت) بِدعًا من الرحالة الذين قدموا إلى حضرموت بهدف الاستكشاف والمسح، بل سبقهما قبل ذلك عدد من الرحالة الأجانب، فقد كان أشهر ممن استطاع منهم التوغل إلى حضرموت (فون فريدة)، و(ليو هيرش)، وسواهما..
في تلك الأثناء كان الزوجان بنت قد حازا سمعة فائقة كمستكشفَين؛ لذا في عام 1893م اقترحت عليهما الحكومة البريطانية أنّ مسحًا لحضرموت بواسطة رحالة مستقل سيكون ذا فائدة مشهودة(1)، وكانا تواقَين لرؤية البلاد التي يعتقدان أن سكانها قد أدَّوْا دورًا مهمًّا للغاية في تاريخ أفريقيا، الذي كانا لتوِّهما يقومان باستكشاف غوامضه.
لقد سبقهما (فريدة) قبل ذلك بالتسلل إلى حضرموت بخمسين عامًا، متخفيًّا بشخصية إسلامية، فتم اكتشاف حقيقة نصرانيته فنجا بأعجوبة؛ ربما ليس لتعصب الناس كما يُحكى(2)؛ بل لأنه تقمّص ثوب ديانة وهو يدين بأخرى، الأمر الذي زرع شكًّا كبيرًا في نوايا مَقدمِهِ لدى القاطنين المحليين.
لقد فُصّلت رحلة الزوجين (ثيودور ومايبل بنت) إلى حضرموت في كتاب (جنوبي جزيرة العرب)، الذي ألفه الزوجان كلاهما، وإن كان الذي قام بسرد أحداثه هي (مايبل بنت) بعد وفاة زوجها، إلا أنها تقرُّ بأن معظم مادة الكتاب قد قام زوجها بجمعها وتدوينها، وأنه المؤلف الحقيقي للكتاب كما تنص قائلة: »لو أن رفيقي في السفر قُيِّض له أن يبقى حيًّا، لكان في نيَّته أن ينشر كتابًا يستوفي جميع المعلومات التي قمنا بجمعها في جنوبي جزيرة العرب، لكن بما أنه قد توفي بعد أربعة أيام من عودتنا من رحلتنا الأخيرة هناك، فقد توجب علي القيام بهذه المهمة. ولكن ما شد أزري على القيام به هو علمي بأن هذا الكتاب، حتى ولو كان غير فائق المستوى، سيبقى بلا شك عونًا لكل من يريد أن يقوم برحلة مماثلة…«(3).
لكن هذا لا يمنع أنّ دورًا كبيرًا قد قامت به بنت، وإسهامًا معلوماتيًّا قد قدَّمته في تأليف هذا الكتاب، كما تقول: »إن العديد مما نرويه هنا في هذا الكتاب قد تم نشره مسبقًا، غير أن ثمة جديدًا هنا؛ كان زوجي قد كتب عدة مقالات في صحيفة (القرن التاسع)، وبموافقة طيبة من المحرر أمكنني استخدام هذه المقالات، كما أنني أضفت أشياء من المحاضرات التي ألقاها أمام الجمعية الجغرافية الملكية، والرابطة البريطانية. وما تبقّى من ذلك مصدره دفاتره الشخصية، ومن (اليوميات) التي كنت أدونها دومًا خلال الرحلة«(4).
كما هو جلي من العبارة الأخيرة أنها كانت كثيرة التدوين لأحداث الرحلة، وأنها مؤلفة لهذا الكتاب مثلها مثل زوجها، ولا يقتصر دورها على مجرد سرد ما كتب زوجها؛ ولأن ما يعني بحثنا هي الرحلة إلى حضرموت ومحاولة الوصول إلى الداخل حتى قبر نبي الله هود، وبئر برهوت، فإنه سيقف على دراسة السياق الوصفي التصويري للمجتمع الحضرمي في الكتاب بأنه خطاب صادرٌ عن (بنت) الزوجة ـ وإن تضمن سياق زوجها الميت ـ حتى يتساوق التحليل النقدي لسياقات الخطاب السردي في حضوره الحي لغة، بضمائر الحاكي السارد وفواعله (مايبل بنت) فهي التي تقول، وهي التي تسرد، وهي التي تصوّر، وهي التي تمدح وهي التي تذمُّ، وهي التي تحلّل وتناقش، كما جاء ذلك في ضمائر شرحها وسردها للكتاب, حيث هُمِّش فيه زوجها الكاتب الحي, وإن بدا فهو عنصر مسرود في سياقات سردها المعروض.
بعيدًا عن السرد التاريخي للأحداث التي تضعف حركة التاريخ في حركة تدويرها، كلما دارت من لدن كثير من الأبحاث التاريخية التي تكتفي بالمسرود، وعرض تفاصيل الأحداث كما حدثت بزيادة هنا، أو نقصان هناك، فإن بحثنا سيحاول ما استطاع أن يحلل لغة السياق الوصفي والتصويري للكاتبة (بنت)، وهي ترسم صورًا وصفية، أو حتى فنية للمجتمع الحضرمي الواسع على نطاق عام (البلد)، أو خاص (القبيلة)، أو أخص على مستوى الأفراد.
حيث سيحاول البحث أن يكشف البُعد الثقافي العميق المستتر خلف لغة تلك السياقات الوصفية التي تبدو بسيطة في تلقيها السطحي، لكنها قد تضمر أبعادًا دلالية أعمق من المتبدّي.
إن من الإنصاف القول إن مثل ما للرحالة القادمين إلى حضرموت من دور في تشويه الصورة الاجتماعية الحضرمية في كتاباتهم ـ وإن كان لغرض تسويقي لكتبهم برسم لوحات عبثية مشوَّهة أحيانًا تستقطب كثيرًا من القراء، فإن لهم دورًا مهمًّا في كشف بعض المطمورات من الحقائق في تاريخنا الحضرمي الداخلي، والذي يخص البنى الطبقية الحاكمة من سلاطين وشيوخ قبائل، ومرجعيات دين، وغيرها من أصحاب القرار، وتعرية بعض الحقائق التي لا يمكن لكاتبٍ محليٍّ أن يكتشفها؛ لأن الرحالة ذو لغة مغايرة، ومجايلته لتلك البنى ذات القرار والحكم والمرجعية في حضرموت تكون مرافقة آنية في حدِّ علمهم، ثم ستسافر تلك المعلومات المجموعة إلى بلدان بعيدة، بلغات أبعد عن هذه المنطقة المنفصلة جغرافيًّا ولغويًّا عن أولئك الكرام السائحين المستكشفين، فدخلوا إلى قصور السلاطين وتعاملوا مع خصوصيات شيوخ القبائل، وعرفوا كثيرًا من معاملات رجال الدين والسيادة، وخصوصيات المرأة الحضرمية في داخل بيتها، وفي مجال بيئتها الواسع والضيق، وهي تفاصيل لحقائق لا ينبغي علينا دحرها وبطلانها، لمجرَّد أن الحاكي لها غير مُسلم، بل علينا أن نتقبلها كباحثين كوقائع مسرودة، كتبتْها أيادٍ كانت حينئذٍ أقرب إلى عمق تلك المكونات الاجتماعية، من بعض أفراد أسرها، فنحلّلها وندرسها بكل حيادية وموضوعية، بعيدًا عن العاطفة النابعة عن علائق الدين والعرق والمكان، فنقبل بصحة ما أيّدتْه القرائن الملموسة والمنطقية والعقلانية، هكذا نستطيع دراسة تاريخ حضرموت دراسة علمية آيبستيمولوجية.
من جانب آخر إن قراءاتٍ تنحو هذا المنحى من شأنها أن تكشف ما يحاول خطاب السياق السردي الأجنبي أن يلصقه بالصورة الاجتماعية الحضرمية (في عمومها وخصوصها) من زيفٍ وتشويه وتعالٍ ـ وهو ليس منزَّهًا من ذلك ـ فكان اختيارنا لعنوان البحث تأكيدًا على هذه الرؤية، ومحاولة قراءة لغة سياقات التوصيف والتصوير للحالة الاجتماعية الحضرمية، وهي تتأرجح بين البناء والهدم؛ بقصد الهدم المترصّد لخلق صورة مشوَّهة في نمطها الخاص والعام، في ماهياتها السردية والفنية التصويرية.
المقصود بأسلوب البناء فالهدم:
معلوم أن الهدم فالبناء إعمارٌ، لكن البناء فالهدم خراب، وأن انتسال الشيء من نقيضه يجعله أجلى وأوضح رؤيةً وصورة، فأسماه القرآن بيانًا بالفعل المضارع، حين يتبيّن البياض من السواد (النقيض من نقيضه): «…حتى يتبيَّنَ لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ…«(5)، لذا تبدو الكتابة باللون الأسود على السبورة البيضاء أكثر بهاء وجلاء، هكذا حين يتهدّم الموجود يترك أثرًا سلبيًّا، لكنه لا يُقاس بالأثر الذي يتركه هدم ما يقوم الإنسان ببنائه بيديه، فيبقى أثره الأليم الموجع في أقوى درجات إيلامه من جهة، ومن جهة أخرى يصل ذلك المعنى الأليم أو المضحك أو المزري ـ على حسب حالات تأثر المتلقي لذلك الأثر ـ فيبلغ مداه، ويحقق أسمى غاياته، لعله القانون الفيزيائي الذي يزيد من سرعة سقوط الجسم ووصوله لنقطة سقوطه كلما ازداد ارتفاعًا؛ كما هي الحال في قصة المؤتفكات ـ التي جُعل عاليها سافلها ـ في النص القرآني، وهي معلومة لكل متدبر(6)؛ أي الارتفاع من أجل الوصول إلى عمق الدنوِّ. وممكن الاستشهاد عليها كذلك بقانون الفعل ورد الفعل الفيزيائي الشهير، وقد حرص البحث على اختيار (الفاء) حرفًا عاطفًا بين البناء والهدم؛ حفاظًا على التوالي التراتبي في الحدث.
تبني لغة سياقات السرد والوصف هرمًا من الأوصاف الجميلة، المادحة للإنسان أو المكان أو سلوكيات المجتمع، هذا هو المعني بقولنا (البناء↑)، في أسلوب المدح ونماء الوصف الجميل، ثم يلتفت ذلك الأسلوب مباشرة بهذا الهرم المبني نفسِه ـ مكانًا أو إنسانًا ـ في شكله أو سلوكه فتهدم صورته الجميلة السابقة، وتقوّض خصاله السردية والفنية الرائعة بأخرى سيئة قبيحة، وهو المعني بقولنا: (الهدم↓). فتكون الكاتبة فيه كالتي تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثًا. فقام هذا النهج عندها على مجابهةالبناء الشكلي (السطحي) بالهدم الباطني من الداخل.
إذن ممكن أن نسمّي ما سبق بالهجاء والقدح ـ في السرد والتصوير ـ بعد المديح والثناء، فلم يكن تقدّم البناء على الهدم في العنوان تقدمًا عبثيًّا، بل هو تقدُّم تراتُبِيٌّ متوالٍ، وهو النّهج الذي سلكته الكاتبة الرحالة (بنت)؛ وهي تمارس رسم صورة اجتماعية لحضرموت مشوَّهة بكل ما أوتيت من لغة، سنتتبع هذه الآلية في سياقات وصف تصويراتها السردية والفنية، فأسلوب المؤرِّخ السردي لم يعد مجرّد تقارير يكتبها، كما ترى ليلى فاضل حسن(7) حين قالت: «تحوّلت الرحلة إلى وثيقة اجتماعية وثقافية، يسعى فيها الرحّالة إلى وصف عادات وثقافات المجتمعات الأخرى، ونقلها فابتعد أسلوبه عن الأسلوب التقريري، واقترب من الأسلوب الأدبي»(8). وليس معنى ذلك أننا ندحر كل عيب ألصقه سياق الكاتبة بالمجتمع الحضرمي، بل نحاور ونحلل سياق العرض لديها، وهي تستمتع بتفصيل الحديث عن كل (مُشاهٍ) اتسم به المجتمع الحضرمي في بنائه الإنساني، أو الجغرافي أو حتى العمراني، والأيديولوجي، فضلًا عن العادات والأعراف المتعلقة بالمجتمعات الحضرمية، في شتى مشاربها المتنوعة والمتعددة.
لكننا ونحن نحاور ذلك السياق الوصفي التصويري، ونحلل لغته بمستوييها: السطحية والعميقة، لا يغيب عن بالنا أن ثمة دوافعًا شكّلت ذلك الصوت الخطابي لدى الكاتبة، ونحَتْ به نحو ذلك المنحى، سنتعرف عليها في خاتمة البحث.
أولًا: التصوير البشري:
ونعني به تبدّي صورة الرجل الحضرمي في أسلوب البناء فالهدم، في لغة السياق السردي في توصيف الكاتبة (بنت)، وهي تترصّد رسم صور ولوحاتٍ مشوَّهة لهيئة البشر في حضرموت، بعدما تبني وصفًا جماليًّا لهم، تنحدر بتلك الصورة وتتحول فجأة ومن دون أية مقدمات نحو الوصف السيِّئ، فتوحي بانتقالٍ عن وصف إلى وصف، في أسلوب يؤكد آلية الترصّد لاتباع هذا النهج الذي أضحى رتيبًا في كتابها، لا سيما في المحور المستهدف بالدراسة من الكتاب؛ الرحلة إلى حضرموت.
الصورة الأولى (السلطان القعيطي في المكلا):
من هذا النسق التصويري للصور البشرية توصيفها للسلطان القعيطي في المكلا، قائلة: «هذا ويحكم المكلا سلطان من آل القعيطي، حيث إن صلة العائلة بالهند جعلت منها إنكليزية جدًا في حالاتها الوجدانية، ويميل شكل فخامته العام بسترته المخملية وخناجره المرصعة بالجواهر إلى أن يكون هنديًّا…»(9)↑(بناء).
إن هذا السياق الوصفي للسلطان وعائلته يعدُّ وصفًا إيجابيًّا مادحًا من جهتين؛ الأولى: أنه صوّر هذه العائلة عائلة منفتحة ومتقبلة لحركة التطور الحاصلة في العالم، على خلاف كثير من القبائل والعوائل التي طالما يصفها سياق الكاتبة (بنت) بالتعصُّب؛ سواء عنتْ به تعصّبًا دينيًّا أو عُرفيًّا، ومن جهة أخرى أظهر الوصف السلطان في هيئة فخمة بسترته المخملية، وخناجره المرصّعة بالجواهر، وهو تصوير وصفي خاص بمظهر فخامة السلطان.
إن ما تقدّم يرسم هرمًا وصفيًّا تصويريًّا إيجابيًّا عاليًا للسلطان وعائلته، وهو ما عنيناه بـ(البناء) في هذا الأسلوب السردي للكاتبة، ولكن حين نكمل الوصف السياقي لهذا الموصوف الممدوح نرى أن السياق يرمي بالموصوف من أعلى ذلك المكان المرموق، والمنزلة العالية إلى أسفل الهجاء، والذم في الوصف، فيتجسد مفهوم (الهدم) لذلك الهرم العالي المبني آنفًا بالوصف الجميل، والتصوير الأجمل للعام (العائلة)، والخاص (السلطان)، يتبدّى مبدأ (الهدم) في قول السياق: «… يعتبر أكثر الأشخاص نفوذًا في البلدة أولئك السارقون للنقود، العابرون من بومباي،… تقع حكومة البلد الآن تحت السيطرة شبه الكاملة لعائلة القعيطي، التي تعتبر حاليًّا أكثر العائلات نفوذًا في المنطقة…»(10)↓(هدم).
لقد تجاوز القدْح مجرّد الهجاء إلى اتهامات خطيرة بالسرقة لعموم العائلة، وهو ما يدفع بحثنا أن يكون على يقين من وجود مكوِّن باطني ناقم وكاره، يغذّي حبر سياقات الكاتبة لرسم تلك الصور السردية والوصفية، التي تتقصّد من خلالها تشويه الصورة الحضرمية؛ بمفاصلها الأساسية المتمثلة في رمزياتها وقدسياتها، حيث ضربت النمط السطحي (جمال مظهر السلطان وفخامته)، بالنمط الباطني السلوكي العميق (السرقة العامة عبر القارات). والأسرة القعيطية من الركائز الحضارية السيادية، التي سادت وحكمت في حضرموت، الأمر الذي يجعل كل ناقم أو حاقد لحضرموت أن يكيد ابتداءً من بوابتها، قد يقول قائل: ألا يمكن أن يكون قولنا هذا نابعًا من مناطقية، وغيرة حضرمية؟ نقول: إن في لغة السياق الوصفي للكاتبة ما يدحر الذهاب إلى هذا المذهب؛ كون لغة السياق ألصقت الاتهام بصيغة العموم، وهو أمر ينافي الحيادية والمنطقية في التناول الاجتماعي والتاريخي، الأمر الذي يجعل مَن في قلبه أدنى قبولٍ تصديقيٍّ للخبر أن يدحر قبوله، بيقين القول بالمبالغة القادحة في صميم الحيادية السردية.
الصورة الثانية (أفراد من قبيلة الحلكي):
ومن نهج البناء فالهدم الوصفي في سياقات الكاتبة، في تجسيد الصورة الحضرمية البشرية، قول الكاتبة تصف أفرادًا من قبيلة الحلكي: «…ووجوههم صافية وهادئة، وكان يمكن ظنهم نساء؛ بسبب وداعتهم وجمالهم …»(11)↑(بناء).
ستحسن قراءتنا الظنَّ في وصف السياق، وتشبيه الرجال بالنساء هنا بالمديح والوصف الحسن للمظهر الجمالي لأولئك الرجال، مثلما تحدد الوصف في جمال الوجوه، وهدوئها وصفائها، ووداعتهم وجمالهم، بهذه الكلمات جاء وصف جمال الوجوه فأخذ السياق بُعدًا جماليًّا، يرسم بناء الوصف الإيجابي الجميل لهؤلاء الرجال، الأمر الذي أسماه بحثنا بـ(البناء) السياقي الوصفي، حيث يرتقي الموصوف مكانة عالية في الوصف المدحي، ثم ينسف سياق الكاتبة هذا البناء مباشرة بهدمه وتقويض إطلالته الجميلة؛ حين قالت الكاتبة بعد السياق السابق مباشرة دونما فاصل أو تحوّلٍ كلاميٍّ: «…كان لونهم الأسمر طبيعيًّا وازداد سُمرة؛ بسبب الاتساخ واللون النيلي، وقد جدل شعرهم الأشعث الطويل إلى الأعلى بعقدة، وتم تثبيته بحبل مضفور طويل يشبه رباط الحذاء…»(12)↓(هدم).
يتحوّل السياق هنا من سموِّ الوضاءة والنور والصفاء والوداعة والجمال لوجوه الرجال أنفسهم، إلى ظلمات الوصف وقتامته، أي من أسلوب البناء إلى أسلوب الهدم التصويري، فتتجلَّى تلك الوجوه إلى اللون النقيض تمامًا (الأسود)، وبالتأمل في لغة السياق الوصفي يتجلّى أمامنا سماران أو سوادان، سواد طبيعيٌّ وسواد طارئ؛ بسبب الاتساخ: (كان لونهم الأسمر طبيعيًّا، وازداد سُمرة؛ بسبب الاتساخ واللون النيلي)، في نسفٍ لملامح الصورة المشرقة التي رسمها السياق السابق (مرحلة البناء)، وكأنه يتحدث عن موصوفين آخرين سوى السابقِين، على الرغم من أن الموصوفين هم أنفسهم، يعدُّ هذا النهج من أقوى أنماط الهدم، حين تتحوّل الصورة من حالة إلى نقيضها تمامًا.
لو لم يسبق هذا الهدمَ بناءٌ مغايرٌ، ولو لم يتحدّث أسلوب الوصف عن السمار بسبب الاتساخ، وظل يشرح السمار الطبيعيّ، لأعطى السياق القارئ حضورًا منطقيًّا وواقعيًّا أقرب للقبول والتصديق؛ لأن البيئة العربية بيئة حارة مقارنة بالبيئة الأوربية، الأمر الذي يخلق بونًا واسعًا، في لون البشرة، الذي يدركه الأوروبي جليًّا قبل سواه، لكن السياق على الماهية التي ورد عليها، يخرج التصوير الوصفي عن توصيف لحالة مرئية من لدن الكاتبة إلى صورة مختلقة، أو لنقل: مبالَغ في رسم قتامتها وسمارها من لدن الكاتبة، وليس أدلَّ عل ذلك من توالي ألفاظ تحمل دلالات السمار والسواد مثل: (لونهم/ الأسمر/ ازداد سمرة/ الاتساخ/ اللون النيلي…).
إن هذه اللغة تكشف عن مدى القتامة، والسواد الذي يشكل الفكر المكتنز عند الكاتبة، والمغذي لسرد الحياة الاجتماعية الحضرمية في شتى مناحيها، من دون التصريح به، فتفلّت في سياقات لغة الوصف والتصوير.
وإذا أكملنا قراءة السياق الوصفي للكاتبة، نستطيع أن نتبيّن ما هو أعمق من مجرّد التصوير الوصفي، من خلال اللجوء إلى التصوير الفني؛ (التشبيه)، لمدّ جهة عمق الدنوّ التي وصل إليها ذلك الهدم، كعادة السياق في مجابهة البناء الشكلي، بالهدم الباطني، وهي آلية تضع الهرم البنائي الشكلي مجسّدًا لصورة مموّهة ووهمية غير حقيقية، يتم نسفها من الداخل والباطن، حين يكون الهدم في صفات باطنية غير مسطحنة، هذه الرؤيا يمكن استكناه حقيقتها إذا تتبعنا اكتمال سياق الهدم السابق حين قال: (وقد جدل شعرهم الأشعث الطويل إلى الأعلى بعقدة، وتم تثبيته بحبل مضفور طويل يشبه رباط الحذاء).
تظل الصورة محافظة على الطابع المظلم بالسواد بالحديث عن الشعر، إضافة إلى ما ترسمه لفظتا (الأشعث + الطويل) من ترصُّدٍ وامتداد تكميلي لإبداء الصورة الشكلية المكبِّرة لسطح ذلك السواد ـ التي قد تكون حقيقية ـ، لكن السياق هنا يخلق صورة فنية أخرى، حين شبَّه الشعَر المعقود برباط الحذاء، فيتراءى أمامنا مكوِّنان لطرفي هذه المماثلة أو المشابهة؛ الأول: رؤوس مربوطة بحبل. والآخر: حذاء مربوط بحبل. أو بمعنى آخر؛ (الرؤوس = الحذاء) + (حبل العقد = خيط الحذاء)، ليس ثَمَّ قيمةٌ من إبداء ملمح الخيط والحبل؛ إذ لا وجه شبه مشترك يمكنه الربط بينهما، لكن القيمة وكل القيمة في تشبيه رؤوس أولئك القوم بالحذاء، بقصدٍ تحقيريٍّ، يفرغ تلك الرؤوس من محتوى الفهم والفكر، ويمدُّ في إهانتها، بجعلها حذاءً يُداس بأقدامٍ، هي أقدام المستعمرين، فتحضر الذات الآنائية المضمرة، في نسقٍ خفيٍّ تغيَّا السياق إضماره، وإن لم يصرّح به التشبيه جليًّا، إلا أن ما وراء الجملة كان باديًا(13).
إن الهدف هنا هدفٌ باطنيٌّ؛ هو ترسيخ صورة (الجهل) و(الإذلال) معًا من دلالة التصوير التشبيهي الحاضر في السياق، وهو ما عنيناه من قولنا: إن أسلوب البناء عادةً ما يجسّد الجانب الشكلي، على النقيض تمامًا من صورة الهدم التي تأخذ في تبدّيها منحًى باطنيًّا أعمق وظيفة، وأرسخ دلالة. هذا الأمر يجعل بحثنا يرسم رؤيته القرائية القائمة على أن أسلوب البناء الوصفي الذي يسبق أسلوب الهدم، في كل مرة ما هو إلا نسق هدميٌّ يتراءى في صورة بناء في وِجهةٍ مغايرة، وما تشكيله السطحي في ملامح صورته إلا دليل على تلك الهلامية، والوهم الذي يشكّلُ لبناتِ جدرانه، فتتكشّف حقيقة تلك الجدران بأنها لا تعدو صورةً علوية معكوسة لصورة الهدم قبل حدوثه.
الصورة الثالثة: صورة السادة (الأشراف):
تقول الكاتبة واصفة إياهم: «توجد طبقة السادة الأشراف، نوع من تسلسل هرمي أرستقراطي، ترجع أصولها إلى ابنة النبي وأسباطه. وتتمتع هذه الطبقة في حضرموت بنفوذ هائل، وتهيمن على الناس بالمعتقد الديني الذي تدين بوجودها إليه. تتفاخر هذه الطبقة أن نسبها أنقى من عائلة أي سيّد آخر، حتى بالنسبة لأسياد مكة والمدينة… حتى أن سلاطين العرب يظهرون لهم احترامًا واضحًا، ويقبِّلون أياديهم عندما يلجون إحدى الحجرات. ويتمتع هؤلاء بنطاق من السلطة خاص بهم، حيث تحال معظم نقاط الخلاف على الملكيات وحقوق المياه وما إلى ذلك إليهم؛ لكي يصدروا قراراتهم فيها»(14)↑(بناء).
تُعدُّ هذه الشريحة من المجتمع الحضرمي أشد مجابهةً لمحاولات الاستكشاف الأجنبية للعمق الحضرمي، فقد أسهمت ـ بسعة نفوذها الاعتباري والديني لدى السلطات الحاكمة والقبائل ـ في تعطيل محاولات عددٍ من الرحالة الأجانب وإفشالها لتحقيق بغيتهم الأسمى؛ المتمثلة في الوصول إلى عمق حضرموت شرقًا؛ حيث قبر النبي هود، وبئر برهوت؛ وعلى وجه الخصوص الزوجين (بنت)؛ لذا تقرأ ثقافة كره شديد لدى الرحالة (بنت) في سياقات تعبيرها، وسرد أي نمط من أنماط التوصيف لهذه الطبقة الاجتماعية الحضرمية، لعلّ هذا التفسير يكشف للقارئ ما كان جليًّا من علامات الهدم المبثوثة في لغة تشييد ذلك البناء، الراسم لهذه الطبقة الاجتماعية.
لكننا سنمضي مع نهج البحث باعتبار أن الفقرة السابقة هي فقرة بناء وصفي لطبقة الأشراف، وأن الكاتبة ترسم منزلة عالية من التوصيفات الجمالية المادحة لهذه الطبقة، لكن المكنون العدائي الباطني يتفلَّت نسقُه في بعض الألفاظ التي تصنع ثلماتٍ وكلومًا في جدران ذلك البناء أحيانًا؛ لذلك لم يقوَ أسلوب البناء صامدًا حتى بلوغ نهاية اكتماله، والتحوّل إلى أسلوب الهدم، ولبيان الصورة البنائية نلمحها في رسم منزلة السادة (الأشراف) على النحو الآتي: لفظتا السادة والأشراف بلفظين يدلان على مدلولٍ واحدٍ في العُرف الحضرمي/ وصفها بـ(الأرستقراطية)/ تمتعها بنفوذ (هائل)/ هيمنتها على الناس بمعتقد الدين/ أن نسبها أنقى الأنساب/ أن السلاطين وهم (الطبقة الحاكمة) يقبّلون أياديهم/ يتمتعون بنطاق خاص من السلطة …الخ.
هذه السياقات ترسم بناءً وصفيًا يرتقي بهذه الطبقة إلى منازل عليا من الوصف، لكن في صميم هذا البناء نقرأ بعض الجمل والألفاظ الكيدية التي توجه الاتهام لهذه الطبقة بالتعالي مثل؛ قولها: (تتفاخر على أي سيّد آخر…)، وهو فعل يقود جملة ترسم مبدأ ديمومة التفاخر على الآخرين بهيئة الاتهام لا المدح، وقبلها قالت: (تهيمن على الناس…) على الآلية نفسها، من رسم صورة الاستعلاء بوصفها جهة راجحة لكل شرائح المجتمع، بفوقية يرسخها الحرف (على) في المرتين، في الأولى على نمط الأسياد الآخرين من سواهم، وفي الثانية على جميع الناس، حيث يتجلى هدم في صميم البناء؛ الهدف منه بيان أن ثمة شرخًا اجتماعيًّا في الصورة المرسومة، بقصد التشويه.
وإن كان الوصف السياقي لا يبتعد عن الحقيقة كلِّها في كثير من سمات الوجاهة والمكانة (السلطدينية) التي تتبوَّأها طبقة الأشراف في العرف الحضرمي، إلا أن السياق عرضَها هنا ببغية مغايرة، وغاية مجابهة مانحًا إياها هيمنة الفاعلية السردية في الوصف؛ كما تجلَّى في قوله: (تتفاخر…+ تهيمن…) حتى يقوّي حجته في نسق الإقناع للمتلقي بفحوى المسرود.
إذا اعتبرنا السياق الوصفي السابق راسمًا ملمح أسلوب البناء، فإننا نراه يلتفت بلا مقدمات ـ فجأةً ـ إلى آلية الهدم الصريح، لرسم الأسلوب المتَّبع من لدن الكاتبة، حين قالت: «ينظر هؤلاء بارتياب خاصٍّ إلى أي سلطة خارجية، يتم دخولها إلى بلدهم المقدّس، وهم يمثلون العقبات في حضرموت…»(15)↓(هدم).
هنا ينسلخ الهجاء والوصف الهرمي المقلوب لصورة طبقة الأشراف العالية السابقة؛ الذين أسماهم السياق السابق بلفظتين (السادة/ الأشراف). في أسلوب الهدم انبنت سياقات الوصف على جملتين ترتكنان إلى مسانيد إليها مبهمة في ذاتها؛ (هؤلاء): اسم إشارة للجمع، و(هم): ضمير غائب مجموع، وكلاهما مبهمان في ذاتيهما، تحيلان على السادة (الأشراف) حين قالت الكاتبة:
ـ ينظر هؤلاء بارتياب خاصٍّ إلى أي سلطة خارجية، يتم دخولها إلى بلدهم المقدّس.
ـ وهم يمثلون العقبات في حضرموت.
إن هذا الإبهام الذاتي في اللفظتين اللتين تلعبان دور الفاعلَينِ الحقيقيين في الجملتين ـ أعلاه ـ رسمتا ـ لغةً ـ طابعَ الإبعاد والتجاهل لمكانة السادة (الأشراف)، في أسلوبٍ هدفه التقليل والانتقاص من تلك الرتبة السامية المرسومة سابقًا بأسلوب البناء، الأمر الذي يعقبه التصريح بذلك الانتقاص، بإلقاء التهم التالية لهاتين اللفظتين السابقتين، فالتهمة الأولى: الارتياب من أي سلطة خارجية، تدخل إلى بلدهم المقدّس.
والريب من السلطات الخارجية الدخيلة، يستوجب أن يكون لدى السادة (الأشراف) ما يخشونه من دخول تلك السلطات، هذا الشيء الذي يحاول السياق بيان سبب الارتياب منه، ليس خوفًا على الدين كما هو مَشيع، بل هو حب السلطة، لم يصرّح بذلك السياق بل يكشفه نظم الوصف مضمرًا، في سياقات مثل: (إلى أي سلطة خارجية/ بلدهم المقدس…) في حدّ تعبير الكاتبة. وإذا عدنا إلى نهاية فقرة أسلوب البناء السابقة: (ويتمتع هؤلاء بنطاق من السلطة خاص بهم، حيث تحال معظم نقاط الخلاف).
يتجلّى مفهوم السلطة مطلبًا ملحًا للسادة (الأشراف) في سياقات الكاتبة، لتظهره هدفًا ساميًا يسمو حتى على البُعد الديني الذي يمثلون رمزيته.
أما التهمة الأخرى التي ألصقها سياق الوصف بالأشراف في أسلوب الهدم، تعدُّ أخطر التهم، حين وصفهم بأنهم يمثلون العقبات في حضرموت. إن القارئ لهذا الوصف المنفتح على كل أشكال العقبات ترتسم في ذهنه صورة سيئة جدًّا، فهم عقبات في وجه التطور الاجتماعي الحضرمي بشتى مجالاته؛ لأن تجريد لفظة العقبات من نعتٍ يحجّم حدودها يفتح دلالتها على كل العقبات التي تقف أمام كلّ إيجابي، من شأنه أن يسهم في نهوض المجتمع الحضرمي، هذا التعميم يضع المتأمل أمام مبالغة، تحيل على ضعف في التصديق والتسليم بهذه الرؤية؛ وتكشف ميل الكاتبة عن جادة الإخلاص لمصداقية المعلومة المسرودة، وتكشف عن مضمرٍ من الامتعاض المكتنز لديها تجاه هذه الطبقة السيادية اجتماعيًا في حضرموت (الأشراف)، بل إن سياق التعبير المكمّل لتلك العبارة الاتهامية، يكشف سرَّ ذلك الامتعاض وحقيقته إلى حدِّ الكره تجاه الأشراف، صحيح أن لأشراف مثَّلوا عقباتٍ لكن أمام طريق الأجانب المستكشفين في حضرموت، القاصدين بلوغ العمق منها.
ليس بحثنا معنيٌّ بتأكيد الحقائق المسرودة في كتابات الزوجين (بنت) وسردهما، من حيث الصدق والكذب، بقدر ما يحاول أن يعيد قراءة تلك الكتابات وفقًا لمستويات عميقة، ترسمها لغة تلك السياقات جملًا وألفاظًا، كاشفًا زوايا تشير إليها تلك الكتابات كانت مطمورة في التعاطي التاريخي التقليدي المدوّر لحركة التاريخ، فليس للكاتب سلطة على آلية القراءة والتأويل للخطاب الذي ينتجه، كما يرى د. محمد عابد الجابري: «والنص رسالة من الكاتب إلى القارئ فهو خطاب. فالاتصال بين الكاتب والقارئ إنما يتم عبر النص… الكاتب يريد أن يقدم فكرة أو وجهة نظر معينة في موضوع معيَّن، وهذا خطاب، والقارئ يتلقى هذه الفكرة أو الوجهة من النظر كما يستخلصها هو من النص وبالطريقة التي “يختارها” (بفعل العادة أو بوعيٍ وإرادة)، وهذا تأويل للخطاب أو قراءة له. هناك إذن جانبان يكوّنان الخطاب: ما يقوله الكاتب وما يقرأه القارئ»(16).
وبالعودة إلى التساؤلات المطروحة: هل جسّدت تلك العقبات التي أسهم في رسمها الأشراف ـ وكل مكونات المجتمع الحضرمي ـ وإن كانت نابعة عن حسن نية تقوم على عدم السماح بتدنيس المقدس، كما هي نظرة الوعي الجمعي الحضرمي تجاه من ليس على دين الإسلام، سواء كان كتابيًّا أم غير كتابيٍّ ـ أمام وصول المستكشفين الأجانب فعلًا في تأخر كشف المكوّن الحضاري الحضرمي، وإعاقته عن مواكبة حركة التاريخ الحضاري في الجزيرة العربية، والعالم أجمع؟، كما تحاول الكاتبة أن تقول من خلال نسقها غير الحميد تجاه الحضارمة على وجه العموم، وطبقة السادة (الأشراف) على وجه الخصوص، أم أن ذلك التحامل على هذه الطبقة؛ كان وليدًا لتلك المجابهة لقيادة الرأي المجتمعي الحضرمي للحيلولة دون وصول المستكشفين الأجانب إلى أماكن تُجسّدُ رمزيةً خاصة لدى التيارات الدينية السائدة آنذاك في حضرموت؟
لكن في المقابل ترى الكاتبة أن في وجهة نظر السادة (الأشراف)، ومن اتبع نهجهم من المشائخ والفقهاء، في قضية عدم السماح بدخول الأجانب حتى عمق حضرموت، أنها كانت نابعة عن تعصُّبٍ، بل تغالي في الوصف بأن وصفتهم بالحماقة، التي قادتهم إلى تكفير السلطان نفسه، الذي يحاول أن ينهض بالوضع الاجتماعي الحضرمي؛ لتقنع القارئ بأن ذلك الرفض لم يكن مصدره خوفًا من تدنيس مقدسٍ، بل هو نابعٌ عن تعصُّبٍ وحماقة(17). هذه التساؤلات ظلت منذ ذلك الحين إلى اليوم تراوح مكانها، في حاجة إلى دراساتٍ تجيب عن غامضها وتفتح مغاليقها، وإن كان بحثنا يدرس أسلوب البناء والهدم في رسم ملامح الصورة المشوهة للمجتمع الحضرمي وحضرموت، فهو يؤمن أن الواعز الأقوى لتلك الحملة التشويهية تنطلق من هذه القضية الرئيسة؛ الحيلولة دون وصول الزوجين للنقطة التي بذلا جهودًا مضنية، وأموالًا طائلة لبلوغها، فتعسَّر عليهم ذلك، إضافة إلى دوافع أخرى سيكشف عنها البحث في حينها، وإن حاولت الكاتبة الاستخفاف بعقول البسطاء بتبريرات واهية، تصل إلى حدِّ الكذب والسذاجة، حين ادّعت أن هدفها وزوجها من القدوم إلى حضرموت هو قضاء وقت الشتاء في مكان دافئ؛ لأن بلدها بلد بارد(18) فهي تجسّد أعذارًا أقبح من ذنوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ جنوبي جزيرة العرب, ثيودور ومايبل بِنت, ترجمة هناء خليفة, تحرير وتعليق, د. أحمد إيبش, ط(1), 1434هـ ـ 2012م, دار الكتب الوطنية, أبوظبي, ص9.
2ـ السابق:9.
3ـ السابق: 23.
4ـ السابق: 23.
5ـ سورة البقرة: 187.
6ـ ينظر, سورة هود: 82.
7ـ أكاديمية عراقية, جامعة بغداد.
8ـ بحث الرحلات الأندلسية والرحلات الأوروبية في تقارب الثقافات, ليلى فاضل حسن, كتاب النقد الحضاري في الوطن العربي, ط(1), 2018م, دار فضاءات للنشر والتوزيع, الأردن: 1/ 333.
9ـ جنوبي جزيرة العرب: 109.
10ـ السابق: 109.
11ـ السابق: 112.
12ـ السابق: 112.
13ـ ينظر, التحليل البنيوي للقصص, رولان بارت, ترجمة د. منذر عياشي, ط(1), 1436هـ ـ 2015م, دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع, سوريا, ص 23.
14ـ جنوبي جزيرة العرب: 114ـ 115.
15ـ السابق: 115.
16ـ الخطاب العربي المعاصر, دراسة تحليلية نقدية, د. محمد عابد الجابري, ط(5), 1994م, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, ص 10.
17ـ ينظر, جنوبي جزيرة العرب: 88.
18ـ ينظر, السابق: 133.