م. محمد سالم مصيباح
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 94
رابط العدد 29 : اضغط هنا
من خلال ما تم عرضة يتبّين أن الفكر الثقافي المحلي بهذه الكيفية مغلق تمامًا، ولا يفكر أصلًا في إصلاح ما يجب أن يتم إصلاحه؛ لكونه يؤمن بأن الأقدمين أتقياء وأكثر معرفة بالعلم، وحتى النقل بالتواتر في القضايا الدينية المصاحبة للكثير من العادات التي غُلِّفت بغلاف كثيف من التراث الإسلامي المتناقل وصارت ملزمة كعادات تمارس بحرص[6]، وهي عناوين لقضايا مرشحة للبحث.
إن الجيل الذي يحاول نقد الواقع هو من يدعو إلى إثارة الفتن والنعرات، وهذا بنفسه سُورٌ جديدٌ آخر نبنيه خارج هذه الصناديق؛ حتى لا يرى للباحثين شيئًـا منها، وللأسف يتم بناء هذه الأسوار في أروقة الجامعات التقليدية التي تتفاخر في منح الشهادات العليا في المنقولات النصية، وتزيد من أسوار النقولات غير المفحصة دون أن يتم تفحصها كخطوة أولى، وهذا هو بنفسه تكرار للفكر التناقلي الذي يهدف كله إلى إبعاد فكرة النقد عن الواقع المتناقل، وهذا ليس حلًّا لمشاكلنا، التي ندَّعي أن سببها عدم تسليمنا لما جاء عمَّن سبقنا، لكن الإطار الذي نريده من هذا البحث هو نقد المحتوى والتحقق منه، وبخاصة أن بعض هذه المراجع بها متناقضات، لا تستقر في نسقها البحثي؛ لفقدها الكثير من المرتكزات، ولغياب قنوات النقد من وقت مبكرٍ عليها، فالنقد لهذه المراجع من وجهة نظر الباحث لا ينبغي بالضرورة أن يقدم نسفًـا للحقائق السابقة، أو يبدلها بجديدة، وإنما قد يؤكد على صحتها، وقد يتيح لها رؤية جديدة قد لا تَـسُرُّ في بعض الأحيان خصوصًا عندما يمس الأعمال الباطنة، التي أُخذِت كمُسلَّمات، وهي بذاتها تنقلات لم تخضع لعملية التفحص، وبهذا فهي عاجزة على أن تخطو خطورة واحدة إلى الأمام، وبهذا فإن اقتحام أنفسنا في سبيل الظفر بشيء من الأمل في نقد التنقلات المحلية، وبعض المعلومات التاريخية، أو الكميات المقاسة تنتج مقارنة أفقية تحمي نفسها بالعقول، التي يؤمن بها من شيوخ علم في المفهوم المحلي وأساتذة بعض الجامعات وأبحاث مجازة في المفهوم العلمي، في الوقت نفسه تخسر الجهاتُ الناقدة المحلية كثيرًا من قوَّتها، خصوصا إذا جاء النقد من الباحث الأجنبي وفي زمن غير متوقع, فتصبح عملية التصحيح واجبة وحتمية تفرضها البيئة الضاغطة, وهكذا يختفي حدث الأغلاق وتفتح بعض المراجع من صناديقها ليتبين ما فيها من الصح, ويبتعد الحرس عنها ويستسلمون دون مقاومة تذكر وتفسر حالة فتح المراجع من صناديقها بأنها مماحكات معاصرة لأفكار العولمة التي غزت العالم, ولي أن اضرب مثال عن ذلك حتى يكون كلامي جلياً لما اقول كان الناس يؤمنون علم اليقين بحسب التنقلات التاريخية أن قبر عباد بن بشر الأنصاري يقع حضرموت في موضعه الحالي وعاشت على ذلك أجيال و اعتمدوا على هذا على النقل التاريخي دون أن يعلموا أن لهذا الشخص قبراً في بلد آخر, واستمر الأمر يُتناقل بين الأجيال وفي الكتب البحثية ويُغلف بشئ من القداسة الدينية, وتشد الرحال إليه وتحرق لأجله البخور, وفي وقت ليس ببعيد بعد التواصل البحثي والتقصي لشخصية الرجل تبين أنه من شهداء اليمامة[7] ولم يكن قد جاء إلى حضرموت اصلاً. ونحن هنا لا نريد أن نصدق أو نكذب الواقعة ولكننا نضربها أنموذج لمادة نقلية بحثية كان يتم تناقلها تاريخياً على أنها امراٌ مسلم به دون تفحص وذلك لقصور البحث الشامل فتم تقبلها كمادة مسلمة بها تم تصديقها وتناقلها في المراجع. وبهذا فلا ينبغي التنازل عن محاولة إدخال الفكر الناقد إلى عقول الباحثين حتى يتصدوا للمشكلات والمتناقضات التاريخية المختلفة التي يدعون لبعضها الثبات بدافع من أهل الخطاب النقلي المسلَم, من هنا يشرق وميض جديد لفعالية الفكر المتداخل الذي عجن محتوى هذه المراجع ومحاولة فهمها في مفاهيم افتراضية تتيتح لهم فهم ذاتية جديدة .
أن تحفظنا عن نقد الواقع النقلي البحثي في الابحاث العملية يؤكد مدى قدرة العجن الذي حدث للمراجع خلال حقب وسنوات مضت استنفرت قوى عدة تعاونت ضد ايه احتفاليه ولو اسمية تحاول الاشارة او التشكيك في أي بحث نقلي وتقبله على أنه مسلَم به, وهنا علينا أن نؤسس مراكز بحثية حقيقة علمية منزوعة العاطفة توجب عليها أن تسبح في مناخ منفتح حتى تقدم لنا افكاراً ذات مقدرة كبيرة على تشخيص القضايا شديدة الحساسية والتعقيد أو تلك القضايا التي يخاف الاقتراب إليها، وأن نتحلى بالشجاعة لنفحص المسلمَات والتنقلات، لا لنسخر منها أو نكذبها؛ لكون الواقع الفكري اليوم يمنعنا ألَّا نكون باحثين ساذجين، فالابتعاد الفكري والانغلاق على ما في الصناديق الفكرية من مراجع يباعد بين طرفي المعادلة النقاشية ؛لأن النظرة الساذجة لم تعد مفيدة اليوم، ويجب أن نعي مدى العمق في يقيننا بأننا متورطون في عدم الشك في المنقولات التاريخية والحقائق الأخرى التي نعدها ثابتة يجب علينا أن نطرحها بوضوح تام، وأن نبتعد عن الخوف الذي ترعرعنا عليه، وهو الخوف من إشعال نار الفتن التي ستأكل الأخضر من وجهة نظرنا وخصوصًا فيما يتصل ببعض القضايا الدينية. إن عجلة التاريخ تتحرك ولا أحد يستطيع إيقافها حتى تتقدم الحضارة، يقول المفكر الألماني هيجل[8]: (إن الحضارة تتقدم بالتنكر للتاريخ)، ولهذا فعلينا أن نؤمن أن القضايا التي نتحفظ عليها لابد أن تظهر للجميع، وأن ظهورها مبكِّرًا وتصحيحها في الوقت الحاضر يكون أفضل من ظهورها في فترة متأخرة من الزمن؛ لنتخلص مبكرًا من تداعيات التصحيح الحتمية، التي ستتم عليها، في الوقت نفسه، علينا ألَّا نستحيي من إظهارها؛ لأن ما كان قويًّـا منها هو الذي سيصمد أمام المتغيّرات، أما الذي فيه من الزيف علينا أن نبعده؛ لأنه تاريخنا المحلي ليسَ كلُّه مبحوثًـا بحثًـا معمّقًـا مدقَّـقًـا، وليست كل قضايا واقعنا المحلية وحتى التاريخية موضوعة على الطاولة، ولكن الموضوع هو ما اتفق عليه في وجهة النظر الجماعية الفكرية، فمثلًا أصبحت عملية صناعة الأبحاث اليوم، ومنها التاريخية والأدبية مجرَّد إعادة إنتاج، ونجد الباحث ملزمًا هنا بالرجوع إلى المراجع المصبوغة بصبغة واحدة، ويصبح بحثه في نهاية المطاف مشوبًـا بعاطفة أهل زمانة، ولا يمكن أن يحيد عنها؛ وذلك لكثرة المراجع المتكرّرة وغير المراجعة، وكلها مؤيّدة في هذا الإطار، هذه الأمثلة وغيرها ما هي إلا انعكاس لحالة الفكر الثقافي، الذي يعيشه الواقع المحلي البحثي، والذي يُبحِر في عصر المسلَّمات، ويستلذُّ بإعادتها كما هي، وهو إعادة الإنتاج الذي اعتادت عليه الجامعات التكرارية، التي تنتج المنتج نفسَه، وخاصة في الأبحاث الأدبية والدينية، وتدريب الطلاب على إنتاج الكتب التكرارية، التي إذا تم وضعها بالمنهج العلمي الحديث لصارت بضعة كتب، فعلى سبيل المثال وليس إنقاصًا منها أن ما يدرسه طلاب الدراسات الإسلامية في غالبها كتب مكرَّرة، من الرؤية البحثية، فمجال الدراسات الإسلامية يحتاج إلى توسيع أفق الباحث، وتوسيع الأبحاث في الاتجاه الرأسي لا في الاتجاه الأفقي السطحي العاطفي، المنطلق من تقديس الأشخاص، بمعنى أن طالب الدراسات الإسلامية يفترض أن يدرس لغات الأجنبية أخرى؛ حتى يُغني تفكيره، ويسهل تعامله مع غير المسلم؛ لأن اقتصاره على اللغة العربية التي يدَّعيها ويدافع عنها ويضفي لها شيئًا من القداسة كلغة للقرآن لا تفي في مواجهة غير المسلَّم، وتجعل بحثه مقتصرًا على الناطقين باللغة العربية فقط، فالبيئة العربية نراها لا تحتاج إلى عددٍ كبيرٍ من المختصين أو الوعَّاظ، وهذا ليس بهدف الإقلاق منهم، ولكنها مؤشر في مكوِّن الجودة لافتقار المتخصص إلى لغة التواصل مع العالم، وماذا عسى أن يكون زيادة العدد الكبير من الوعاظ الذين يتلقون لغة واحدة فقط، هل سيخلق ذلك كله مجتمعًا ملائكيًا! أو نشر للدعوة الاسلامية لكل العالم! بالتأكيد لا؛ لأن الفهم وحاجة الجامعات المحلية يتأثر بقوة الفكر الثقافي والبيئة المحيطة، فمثلًا حينما انضوت حضرموت تحت الفكر الصوفي صارت أعلى درجات الباحثين في كتبهم ومراجعهم تكون في إشباع التغذية الروحية، وكانت النتيجة النهائية بلوغ المرام النفسي والرضا العاطفي، وهو ما انعكس على المجتمع في أعلى صورة له في ظهور علوم دينية، مثل (المكاشفات، والمنامات)، والتمسك بالأقدمين، ولا نريد أن نصل إلى خلافات معهم، ولكننا نرصد المحصلة النهائية على الرغم من أن الفكر الصوفي عاش قرونًا من الزمن وإلى الآن لم يخلق لنا مجتمعًـا ملائكيًّـا! كما يُظَنُّ منه، بل خلق لنا جيلًا قيل عنه إنه اشتغل بالآخرة وترك حطام الدينا.
إن النظرة العامة للدينا هي السبب في تشكيل الفكر الإنساني، فقد اشتغل هذا الجيل بالآخرة ولكن جيل اليوم يعيش متناقضات وقضايا متتابعة، ولا زالت تُصدَّر للجيل الجديد عبر تكرار الأبحاث، فلم تخلق تلك الفترة مفكِّرًا أو عالمًا، يصوِّر سلبيات توجهات عصرهم الفكرية، باستثناء بعض الشعراء والمفكرين القلَّة، الذين نعدهم علامات التميز في التاريخ المحلي، وأصبح الفكر المتحصل عنهم إعادته تمجيد هؤلاء، ومنحهم هالة مجانية من العلوم في شكل استنتاجات وتنبي آراء قالوها بأنها امتداد لهم، وهذا المفهوم في الاتجاه البحثي يُعد دورانًا حلزونيًا، يهدف إلى تعليب آراء الماضويين، وإضافة شيءٍ من القداسة لها، والأرشفة وإخراجها في شكل أبحاث حديثة؛ حتى يتم اعتمادها أبحاثًا مضافةً عنهم للجيل الجديد.
أعتقد أنني بهذا الطرح قد اقتربت من حيز شديد الحساسية لدى الأوساط الفكرية والثقافية، وأعلم أنني قد أُتَّـهَمُ بالانفصال أو الانفلات أو غيرها من القيم، التي اعتادت عليها النخبة المثـقَّـفة أن تطلقها على من يحاول التأمل في الفكر المحلي، ولكنني أدعو الباحثين وخاصة الجيل الجديد إلى التبصُّر والتأمل العميق في الثورة العلمية الحديثة التي لن تترك لنا شيئًا إلا وتحققت منه، وهي إشارة يجب أن تصل اليوم قبل أن تصل في الغد؛ لأنه من المؤكد أن التعليم اليوم قد انتقل من سلطة المعلِّم والكُتَّاب الأوحد إلى الفضاء الإلكتروني ولم تعد طريقة التربية التبعية الوعظية بدون سؤال تنفع بشيء، وأن الحقيقة التاريخية والوقائع التي نتحفظ عنها ونخاف عليها من المناقشة أو الظهور أو إعادة النظر فيها هو اختيار ظالم لنا وللأجيال القادمة، فالجيل القادم لن يترك شيئًا إلا وتفحَّصه، وسيعرف أنَّ هناك كثيرًا من الحقائق غير صحيحة، كنا نخفيها عنه يجب الاعتراف بها وتصحيحها، فلم يعد ينطلي على أحد اليوم أن تريم بها 360 مسجدًا[10] في زمن القرن الثالث عشر الهجري، ولم يعد ينطلي على أحد قداسة عادات وتقاليد ساذجة نعيد تكرارها، فهذه سطحية كنا نُغَلَّف بها خوف الاعتراف، وما نعمله وننقله في كثير من الأبحاث الحديثة ما هو إلا إعادة تثبيت الخطأ، مستأنسين بقداسة الجيل السابق، الذي أوصل من عاش فيه إلى مرتبة أبعد من القداسة في بعض الأحيان من كثرة المبالغات في الطرح، الذي نجده بكثرة في الأبحاث الأدبية الوصفية، وحتى ما يأتي ملتصقًا بالتراث الإسلامي، ووجدنا أنفسنا لم نستطع أن نبلغ شيئًـا منها، كالقدرة على العبادة المستمرَّة لقصورنا كبشر، وهي صناعة شكلية للحث على العبادة.
لقد اصبح اليوم من غير المستبعد أن تفلتر الكثير من المراجع والكتب، وتوضع تحت بعضها خطوط حمراء؛ لتكون مادة للمراكز البحثية؛ للنظر فيها، وتصويب ما يمكن تصويبه، وحتى التاريخية منها، والتي بها متناقضات مختلفة أن نقلِّـل قدر الإمكان منها؛ لأن أمامنا ملصقات فقدت قوَّتها على الالتصاق، وبعضها في طريقه إلى فقد الالتصاق. فنحن بحاجة إلى أن ننقل الحقائق الصحيحة، وأن نعترف بأن المدارس التي نؤسسها ونغدق عليها الأموال الكثيرة، ونسميها بحسب ردة فعل التوجهات الفكرية[8] هذه كلها محاولة للبقاء في الطابور، والخوف من سحب بساط الاعتراف؛ لأن غالب هذا المنتج المحمول على أكتافنا به الكثير من القضايا والمتناقضات نخشى عليها من التفحص، والذي هو جهاز المناعة لها، وأن الاستمرار في إخفائها سيكون وبالًا علينا إذا لم نتحرَّ المصداقية فيها، ونلغي فكرة الانتماء لتوجهات المذهبية الفكرية، ونسلط الضوء على التحقق من الأبحاث بعين الناقد، لا بعين العاطفة التي نكرر وجودها بسطحية أفقية، متخذين من تقنية النسخ واللصق خير أداة، ومع هذا كله فإن هدف الباحث العام من هذا البحث هو رصد حالة جزئية من نافذة الفكر النقلي، واستشراف الرؤية المتوقعة للغد من خلال اليوم، وهي بمثابة اختبار الأدوية التي لم تعد صالحة للاستعمال اليوم، ولا يعني أنَّ مَن استعملها نعدُّه مذنبًـا، أو أنه سقط من مفهومنا الفكري، بل نعدها دواءً تمَّ تناولُه وفق وصفةٍ كانت مفيدةً في حينها، أمَّا اليوم فقد ظهرت أمراضٌ أخرى علينا أن نحصن مراجع كتبنا منها بفلترة الصحيح منها، فلو أن خبراء الطب والصيدلة بقوا على الأدوية نفسها، والتي استخدمت قبل 50 سنة لمَا تمكَّنوا من الحصول على علاجات ناجعة، وحتى إذا تم التصحيح لم يُعَدَّ الذي ابتكر الدواء في بداية التعرف على المرض منقوصًا من شيء، ولكنه يعد درجةً في سُلَّم طويل، رُبَّما نحن نكون درجة فيها، وسيأتي آخرون يرتفعون عنَّا درجاتٍ، وهذه طبيعة العلم؛ فالعلم ينمو أفقيًّـا ورأسيًّـا، وليس كما نعتقد عاطفيًا، وهكذا فإنه حينما نعظّم من شأن معلومات في مراجعنا وهي خطأ وأثبت العلم ذلك فما الخوف من تصحيح الخطأ، ولا يعني ذلك إنقاصًا من قيمة هذه المراجع، لكن الأداة التي استخدمت في تلك الفترة كانت لا تكشف عن كل الصورة، ولم تخترق الجلد لتصل العظام، فكان فحص الأداة في ذلك الزمن بدائيًـا سطحيًـا، وهي درجة من درجات التفحص تمَّت في زمنها، أمَّا اليوم فإن الحاجة ملحة إلى تحديث مراجعنا وتفكيكها، وأن نكون قادرين على الوقوف وسط الحقيقة في الواقع، وأن جمع المعلومات والمعارف التي يتم تجميعها بصورتها الحالية تظل لا ترقى إلى مرتبة المعرفة حتى وإن كانت هذه المعلومات ضمن متطلبات الامتحانات التي تركز وتحشد لها المعلومات والمعارف بطريقة تجعل منها ذات أهمية كبيرة، لذا يبقى الباحث مرتبكًا ومحتارًا في حضرة الواقع الحقيقي، والذي يظهر مختلفًا؛ لأنه لا يملك المعرفة التي تؤهله لأن يكون قادرًا على تحدِّي بعض المسلَّمات، التي يرى أنَّ بها خطأً، وذلك لأن المعرفة في بعض القضايا سبق وأن تم إسنادها للسابقين الذي يرون أن العارف منهم هو الذي يجب ان يخلّد رأيه حتى وإن تبين خطأ ما عنده طالما وأن رأيه منقوش على المراجع، وأن على الباحث اليوم مواصلة التكرارية على أساس هذا الفهم، وهكذا تكون المعرفة غير عملية في تأثيرها وامتلاكها للقوة؛ كونها مملوكة من سابق، ولا يجب ادِّعاء أحد من تملُّك جديدٍ نؤوِّل به متطلبات الباحث. ونحن نرى كباحثين في جيلنا أن مهمتنا تطوير السؤال المهم للباحث، وهو لماذا لا نطوِّر فكرة النقد المعرفي السابق؟ وبأي معنى من المعاني يمكننا فهم المعرفة المسبقة؟
في الواقع إن طرح هذا السؤال يثير لبسًا كبيرًا ينبثق من تحدي بعض المراجع، بما فيها مراجع التراث الإسلامي، والذي سيتم سحبه من السجل؛ لأن الجميع يسعى جاهدًا بصيغة صارمة إلى أن أي خطوة إلى الأمام في هذا المسار هي فتنة في نظرهم، ومَنْ يتولَّى هذا الفكر هو شخص غير عقلاني، ويذهب بعيدًا، ويفتح على نفسه باب التهم والإساءة، والواقع أن هذا هو غلق التفكير الحر، الذي ستؤدي خطواته إلى معرفة أوسع، وعلى أساس هذا الاعتبار علينا أن نشطب من فكرنا الكلمات الدالة على السببية والبحث كيف؟ ولماذا؟ وهذا في الواقع هو الحال الذي به من المغالطة لا تبدو أمرًا عرضيًّـا، بل إنها تضرب بجذورها في تاريخ موغل في القدم، وهذا هو الإخفاق الحقيقي الذي سوف يؤدي إلى دفع فاتورة مضاعفة من الجيل القادم ويصبح من الصعب جدًا أن يتم تفكيك الأخطاء بسهولة. فالباحث الذي يرغب بالصدق في الحيادية في الطرح العلمي يتعذر عليه الوصول وبلوغ الهدف الممكن، وهذا يُعبر عن سوء التفكير المحرز بطريقة صارمة بنصوص وروايات قُدِّس قِـدَمُها الزمني وجودها في المراجع، وأصبحت رقمًا يجب عدم مخالفته حيث تمضي قدمًا إلى تجميد صيغ علمية وقوالب دينية؛ لأن المفهوم المجتمعي يرى أن التفسير الديني المقدَّس يسبق العلم، وتصبح عملية السؤال أو التجديد أمرًا مرعبًا ورهبيًا ولا معقولًا بالنسبة للفكر في الوقت الحاضر. ومع أنه بصرف النظر عن نوع الباحث الذي يرغب في التحقيق التاريخي أو الديني فأنه يتطلب منه أحيانًـا أن يعمل بدون قواعد صارمة معتادة، وذلك بسبب أن المركب المبحوث في مراجع التراث الديني أو التاريخي هو مركب بهذه الكيفية، مما يستدعي أدوات تفكيك أخرى غير أدوات التركيب المسبقة؛ لكي تتم عملية التحقق من المراجع.
الخاتمة:
استعرض البحث رؤية عامة لما عليه واقع التناقل البحثي، وهذا البحث لا يعد كافيًا للعبور إلى المستوى الناضج للتحقق من معلومات المراجع، ولهذا كان على الباحث أن يقدم سؤاله في شكل مبحث يجرِّب فيه صيغة جديدة، يصعد بالقراء من الأسفل إلى الأعلى، وفي كل درجة من الصعود يتحقق من ماهية ما يقصده من عملية التحقق من التناقل في المراجع وجوهره، وبحقيقة الأمر فقد كانت الدعوة للتحقق من معلومات المراجع هي بذاتها مشكّلًا أكبر مما تم رسمه ذهنيًا للتوصل فيما يقصده، فقد اتضح أن هناك علاقات تشابكية معقدة، وحالة من الغموض معقودة بين الباحثين التقليدين وأبحاثهم، والتي قد تفهم في ميدان المعارضة أو الضد، ولكنها حالة أراد الباحث منها توضيح التمايزات التي تحوُل دون التحقق من معلومات المراجع في الأبحاث، التي يجب أن تكشف وتحقق، فهي تظهر في شكل تقاطعات متناوبة من التناقض في المراجع البحثية وتقربيها من المحك هو بيت القصيد؛ حتى تكون الأبحاث المقدمة رصينة، وغير متذبذبة، وغير مهتزة بمجرد نقد جزء منها، وهذا في معناه يمثل حالة من عدم الرضى نسوقها ونحن نعلم أنها محاطة بشيء من عدم القبول لدى كثير من المثقفين، وقد تلقى بعض المعارضة أو ردة الفعل المعاكسة، وهي حالة يجب أن نقبلها كما هي لأن شعبوية التفكير التقليدي هي الضاغطة على واقعنا المحلي، وقيود عدم التحرر فارضه نفسها، في الوقت نفسه، نحن ننظر إليها خطوة أساسية أولى مبكرة للعلم الحديث في خطوطها الرئيسة، ويُريد الباحث في كل الحالات أن يطفوا ببحثه في ظل تنامي طالبي الدراسات العليا، وهي حالة متقدمة يحتاجها مجتمعنا في حضرموت بولادة الجامعات الجديدة، ومع ذلك يظل هذا الانجذاب متوقفًا على نوع الجودة في المنتج البحثي والجديد فيه، وهو معيارٌ نادرٌ للحالة الصحية فيه تكون ناتجة عن تصادمات معلوماتية وتحقيق المغامرة في مراجع عتقية تشاهد كمسلّمات، وهي مليئة بالأخطاء المقصودة وغير المقصورة، كما لا يمكن أن نتجاوز مقولة (إن التاريخ يكتبه المنتصر)، هذا الزخم الكبير من المعلومات غير المراجعة هي التي تواجه الفكر اليوم، وتحدد مساره دون أن نشعر بها وهي المسبب الأبرز لحدوث النزعات، وإن كنا قد بالغنا هنا، لكنَّ شيئًـا حقيقيًّـا يجب أن يكون في حالة ما إذا ما روجعت هذا المراجع، وتم انتشالها مما بها ولو بنسبة ممكنة من الشوائب الواضحة كحد أدنى يمكن أن يُرى طافيًـا على السطح بدون نظارة طبية أو مكبِّـرًا يدويًّـأ، وقد تستمر هذه الحالة لفقد مثقفينا التفكير في إنشاء قسم في مراكز النشر الكبرى كحالة إسعافية قبل نشر الكتب والأبحاث؛ لأننا نعيش اليوم في مرحلة زادت فيها المساحات المخصصة للقُـرَّاء، وبالتالي زادت رقعة التناقل للمعلومات منذ ظهور النشر الإلكتروني، وتحوَّل القارئ إلى شريك متفاعل إيجابي لا يمكن حجبه عن الواقع، وقبل هذا كان من المفترض انتزاع عقدة الأنا، التي تقود إلى عدم الاعتراف بما هو مشاهد في بعض معلومات مراجعنا من أخطاء لكي تصحح، والإشارة موجهة إلى أعلى مَنْ في السلم الثقافي وهم أستاذة الجامعات.
وينتهي بحثنا هذا بوضع الأصبع على الجرح وضعًا مؤقَّـتًـا، مطالبين بإنشاء مراكز التصحيح للمراجع السابقة، والفرز قبل النشر، ريثما يأتي الوقت المناسب للتصحيح باقتحام المراجع، وإزالة عقد النقص والخوف، التي يُقيَّد بها أساتذة الجامعات المحلية طلابهم نتيجة انغلاق الفكر الذي تربَّوا عليه، واقتصاره على ما قدمه الأقدمون، وإراحة الطالب من التفكير الحر والاكتفاء بترديد عبارات منقولة عن المراجع وبعيدة عن الحقيقة، والتي فيها من علامات الاستفهام الشيء الكثير، وهي حالة مؤلمة تحتاج إلى مشروع نهضوي كبيرة لإزالتها، ورفع الستار عنها حتى نسهم في النضوج الفكري.
الهوامش :
[6] ينظر الى كتاب الكامل في التاريخ, 2, صفحة 247.
[7] فريدريش هيجل مفكر وفيلسوف الماني عاش في اوخر القن الثامن عشر الميلادي .
[8] بعض المؤسسات التعلمية تطلق على نفسها (الوسطية الشرعية).
[9] يقصد به الكثير من القصص التي تتكرر عن تاريخ التراث الاسلامي التي رسخت في الفكر المجتمعي كعادات لدى السذج من الناس والتي بها من المتقاضات ما تنفيها وما تبين خطائها ويتم تناقلها كمسلمات.
[10] ينظر الى كتاب فان دانيال و ميولين در, ص 163 ص183.
المراجع العربية :
االشاطري, محمد احمد .[1983]. ادوار التاريخ الحضرمي, دار المنهاج, ط2.
بامؤمن , كرامة مبارك. [2001]. الفكر والمجتمع.
الحارثي, فهد العرابي. [2010]. المعرفة قوة. الدار العربية للعلوم,الرياض.ط1.
الصبان. محمد عبدالقادر.[1998]. زيارات وعادات نبي الله هود. المعهد الامريكي للدراسات اليمينة,
مؤسسة الفكر العربي. [2018]. الابتكار أو الاندثار في البحث العلمي العربي واقعه وتحدياته وآفاقه، التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية.
فان دانيال و ميولين در. [1998]. حضرموت إزاحة النقاب عن بعض غموضها, ترجمة القدال محمد,دار جامعة عدن للطباعة والنشر,ط,1.
المراجع الاجنبية:
م. محمد سالم مصيباح. ماجستير عمارة وتخطيط جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا