ليلة غالب هلسا بالمكلا
كتابات
أ. علي سالم اليزيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 104
رابط العدد 29 : اضغط هنا
ليلة على بحر المكلا برفقة الروائي والمفكر التقدُّمي الأردني غالب هلسا، وكانت عدن قد احتضنت هذا الكاتب والمعارض الأردني مع خروج رجال المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982م، وكان حينها موجودًا في بيروت، ثم غادرها نحو عدن.
في ليلة لا تنسى، في بيت الأديب والروائي صالح سعيد باعامر، كُنَّا على موعد مع هذا الروائي المناضل، وكان الأديب العدني كمال الدين محمد قد أرسل لي برقية بشأن وصوله إلى المكلا برفقة غالب هلسا، وأعطى فرصة لهذا الكاتب العربي للتعرف على حضرموت وأدبائها وتراثها الثقافي من خلال زيارة اقتصرت على المكلا والشحر. وقضيت النهار أطوف بهم بين المكتبة والمتحف، وتجوَّلْـنا في السوق، وتناولْـنا الغداء في أحد المطاعم الشعبية؛ فقد كانت رغبة غالب هلسا أن يتعرف ويلتصق بحياة المدينة، وكان يقول لي: تِكْرَمْ أخي خُذني وين ما بِدَّكْ، خلّني أشوف المكلا كما تعرفونها أنتم. تناولْنا الشاي الأحمر الحضرمي في مقهى بازهير، تحت مسجد عمر، وتفرَّس في ملامح المنازل، وتحدَّث إلى الناس، وحاول أن يبسط كلامه بهدوء معروف عنه، وباقترابه مِنْ كُلِّ ما يراه، وأنْ يفهمَ مَنْ هُمُ الحضارم، وأعطيْنَاهُ -أنا وكمال الدين – ما يُرِيدُ مِنْ حُريَّةٍ ورغبةٍ يحتاج إليها.
كنا في المساء على لقاء في منزل أستاذنا صالح سعيد باعامر، بل سكن غالب هلسا وكمال الدين في بيت صالح باعامر، فقد كان الظرف لا يساعد بالسكن في فندق، ولا تكفي المصاريف التي بحوزتهم، ولهذا فقد اقترحتُ أنْ يَسْكُـنَا عندي أو عند صالح باعامر، مثلما كُنَّا نستقبل سعدي يوسف، وغيرهم في منازلنا، وفور انقضاء النهار اتَّجهْـنا إلى بيت باعامر، ثُمَّ تركْـتُهما على أن نعود في المساء، وخلال هذا الوقت هاتفْـتُ أخي الأديب القاص سالم العبد الحمومي: إنَّـنا على موعد مع ضيفَيْنا الأردنيِّ غالب هلسا وكمال، وأنْ يَمُرَّ عليَّ بدراجته النارية المستعملة حينها.
كان اختيار منزل صالح لإطلالته على البحر مباشرة، وفي وسط المكلا، وهو رحب كعادته، وكان سعيدًا باستضافتهما والسُّكْـنَى عِندَه، حتَّى أنَّـنَا اصطدْنا سمكًا من شُرفـة صالح باعامر طازجًا، ثُـمَّ أضفْـناه لمائدة عشائنا ليلتَـئذٍ.
كُنَّا موجودين أنا وسالم العبد، وقضيْنا ليلةً ساحرة بين موج البحر وشريط قصائد محمود درويش، منها أحمد العربي ومديح الظل العالي. وحديث شيق من غالب هلسا عن أيام بيروت وحياته في المنفى، وقصص رواياته، وأيضًا – وهو ما لم نكن نفهمه حينها – أنَّ الرجل أثناء حديثه معنا وكان سالم العبد ينظر إليه بدقَّـة، كان يُبدِي قلقه عن أزمة العرب، التي بدأت بخروج المقاومة من بيروت، وأن انصياع قادة المنظمة للحلول والضغوطات الأمريكية لها دور خطير قادم، كان يقرأ ما لمْ نكنْ نفهمُ بحماسنا هنا وعَفَويَّـتـنا في بلد مُنزَوٍ صغير، وحتَّى عنَّا قال: إذا ما تخلصوا من هالفقر هيك ما بظلوا على طول شعارات. ومن حالة الشَّتات التي طاف بها غالب هلسا قال: كان بعض العواصم لا تُعجِبُه، فحضنها ضيق، والبعض دور بعض السفارات فيها أكبر من القصر الجمهوري بها. قال: غادرت بيروت وأنا أعلم أنها لن تعود إلينا بعد الآن، وأخاف أن تتبعها بيروت أخرى، هل استوعبْنا ما تحدَّثَ به ليلتَها لنا أنا وصالح باعامر وسالم العبد وكمال، لا أدري؟!، ما زال سالم العبد إلى اليوم يحاولُ أنْ يربطَ ما جرى ليلتَها من قامةٍ أدبيَّةٍ عربيَّةٍ ومُجَرِّبٍ، ويُذكِّرُني كُـلَّما التقينا بها، أجمل ما حكى عن الناس مُعَايشتَه للناس في مدن مختلفة، وأنَّه يعشقُ المُدُنَ البسيطة، والتي لمْ تلمسْها يدُ العصر، أو الاغتيالات والملاحقات، المكلا أتمنَّى أنْ تظلَّ بسيطةً كما عَلِيّ والتفت نحوي وهو يضحك، وبعدَها أُشْبِعْنَـا نُكَاتٍ أضحكتْنا كثيرًا.
في الصباح الباكر انتظرْتُهم في محطَّة سيَّارات الشحر، وكانت تحت مسجدِ جامع الشرج، فأركبْـتُهم سيارة أجرة مع الرُّكَّاب، وأوصيْتُ أحدَهم بالعناية بهما: غالب هلسا وكمال الدين محمد، الذي نجح أن يكتب في هذه الزيارة قصة أبي سعيد طبيب الأسنان اليوناني، الذي عاش بالمكلا، وأحبَّها، وعن بيته الذي يشبه السفينة في منطقة خلف، ونشرَها في صحيفة الثوري فَوْرَ عودتِهِ إلى عدن، أمَّا أنا فاعتذرت لهما عن الذهاب إلى الشحر؛ حتى لا أُثـقِـلَ عليهما مئنَّـةَ الذهاب على حسابهما، ولأني رُبَّـما أُسَافِـرُ إلى عدن عصرًا، ولكني التقيْتُ كمال الدين محمد بعد ذلك حين أَتَـيَـا لزيارتي هو وفاروق علي أحمد ذات ليلة إلى داخلية جامعة موسكو الداس في 1984م.