توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 113
رابط العدد 29 : اضغط هنا
النص الكامل للمثل بحسب نطقه باللهجة الحضرمية العامية: ” لا تروِّي البدوي دارك ياديك ويادي جارك “، ويعني: لا تجعل البدوي يرى أو يعرف موقع دارك حتى تتجنَّب وجيرانك أذيته أي مشاكساته المتوقعة، وأصل المثل نصيحة (مدنية) من حضري إلى زميله الحضري، يقصد بها ألا تتعدى العلاقة بين ساكن المدينة (الحضري) مع أفراد البادية الوافدين إليها علاقة تعامل المصالح المشتركة المباشرة في وسط المدينة، أو في أسواقها، والقراءة السطحية للمثل تقدم صورة سلبية للبدو من زاوية نظر الحضر، الذين لهم أيضًا مقولات، يصل بعضها إلى السخرية من تصرفاتهم وهيئاتهم، وفي المقابل نجد للبادية ثقافتها الخاصة، التي تستهين بأهل الحواضر، وتزدري مهنهم، وهكذا نحن أمام كتلتين اجتماعيتين (جغرافيتين)، لهما مفاهيمهما الثقافية والحضارية التي يعتزون بها، ويحافظون عليها، “وكل فريق بما لديهم فرحون”.
وعلى خلاف كثير من الأمثلة الشعبية العابرة للزمان فإن مثل (أذية البدو) ارتبط بالمرحلة التاريخية التي كانت البنية الاجتماعية التقليدية هي السائدة في حضرموت، واستمرت (فاعليته) إلى أربعينيات القرن الماضي قبل ما عرف في الأدبيات التاريخية بصلح انجرامس الشهير، الذي نجح إلى حد بعيد في القضاء على ظاهرة الاقتتال البدوي (الثأر)، وكانت أهم نتائجه تخفيف الهُوَّة الجغرافية الحضارية تدريجيًا بين الأرياف والمدن.
وبهذا فإن للمثل دلالات قبل معاهدات السلام ( صلح انجرامس) وما بعدها، فقبل عصر السلام الحضرمي كانت المدن بالنسبة لرجال القبائل (البادية) منطقة عبور مؤقتة، لا يستطيع الإقامة فيها لأسباب تتعلق بأمنه الشخصي، فعليهم أن يغادروا المدينة، ويستعيدوا أسلحتهم قبل غروب الشمس، أي قبل إغلاق بوابات المدن الرئيسة، كما كانوا ينظرون للمدن بوصفها بلاد (أهل الحضر)، لهذا كانوا يشعرون بالغربة فيها، ويجدون ذاتهم ومنعتهم في المناطق المفتوحة، وهذه الوضعية تساعد على فهم النصيحة الضِّدِّيَّة تجاه البدو، التي تشتغل في جوهرها على الحذر (الثقافي)، وليس على الفعل (الجنائي) كما قد يبدو للبعض، فالمدينة تحترم في البدوي التزامه بكلمته، وأمانته، وشجاعته، لكن طبيعة الإقامة (النهارية) للبدو تجعلهم في عجلة من أمرهم، لهذا إذا لم ينجز البدوي اتفاقه مع الحضري أو تأجَّل، تصرَّف على عفويته، وقد ينادي (غريمه) الحضري تحت بيته بصوت مرتفع دون مراعاة للتوقيت المناسب، كما أنه إذا اضطر إلى المبيت في المدينة فاحتمال أن يصطحب زملاءه بحسب العادات البدوية، فتتداخل ثقافتان شبه متنافرتين.
وكما يعد (الحضري) سلوك البدوي المتعجل في أمره نوعًا من التصرف الأرعن، فإن (البدوي) تدفعه عزة نفسه لإنجاز عمله في المدينة، والخروج منها حتى لا يكون عبئًا عليها، ولا على أهلها، لاسيما وأن الفنادق لم تكن موجودة في المدن الحضرمية وقتئذ، وهكذا إذا بحث (الحضري) في داخل المثل عن سكينته، ففي خارج المثل تتحرك عند البدوي روحه الأبيَّة، التي لا تتسق أحيانًا مع رتابة المُدُن وقوانينها.
لكنَّ الأمور تغيَّرتْ بعد أن نجحت معاهدات السلام في وضع حد للصراع القبلي في حضرموت، وتهيَّأتْ فرص لاستقرارهم التدريجي في ضواحي المدن، وصارت بيوت المستقرين السابقين منهم المتواضعة بمثابة ترانزيت للراغبين من معارفهم للمكوث في المدينة لفترة طويلة، أو الاستقرار فيها، وهكذا تزايدتْ هجرة الأرياف الى المدن، وتغلغلتْ ثقافتُها فيها، وهذه الوضعية الجديدة أحدثتْ تحرُّكات في دلالة المثل (أذية البدوي) داخل المدن، من دور النصيحة الحضرية البينيَّة الضِّدِّيَّة القديمة، الى الاستعارة الرمزية بغرض إنتاج الطرافة المقبولة اجتماعيًّا، فصار سكان المدينة – بدوها وحضرها – أحيانًا يردِّدون المثل عندما يُصِرُّ صديق منهم على ضيافة صديق له في بيته، فيحضر المثل بلسان (الضيف) بنَبْرَةٍ مَشُوبَةٍ بالألفة، والحياء، تختصر صيغة الاعتذار المشهورة (لا أريد أن أُثْقِلَ عليك)، أو بلهجة العراقيين (لا أريد أعمل عليك زحمة)، واستدعاء المثل في ذلك الموقف يزرع البسمة المشتركة، وتدخل لفظة (البدوي) في المشهد التصويري للمثل دخول الكرام المُرَحَّبِ بهم.
لكنْ ما تزال قصة الصراع الثقافي بين البدو والحضر مستمرة في داخل المدن، التي اختلط فيها الحابل بالنابل، بعد أن فُتِحَتْ أبوابها، وهُدِّمَتْ أسوارُها، لهذا نجد المثل يتسلَّل إذا حضرت المناسبة، لاسيما عندما يتخطَّى فيها (بدو المدن) الخطوط الحمراء، من ذلك التباهي بحمل السلاح، وإطلاق الرصاص الحي من فوق ديارهم، ومن تحتها، في مناسباتهم الفرائحية مُعْلِنِينَ في ذلك تمسُّكَهم بثقافتهم البدوية (المؤذية)، فتشهد المُدُنُ وَضْعًا مُشَوَّهًا، فلا بَدْوُ المدينة قبلوا بثقافة الحضر، ولا المدينة تمكَّنَتْ من ترسيخ قيم الحضر فيهم…