أضواء
أ.د. علي صالح الخلاقي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 16
رابط العدد 29 : اضغط هنا
سوء العلاقة ونشوب الحرب بين يافع وابن مقيص
لم تستمر هيبة دولة ابن مقيص وقوتها طويلًا، والتي هوَّل وبالغ فيها العلويون حال ظهورها، بل إنها تعثرت منذ يومها الأول لقيامها، وحاول القوم جهدهم أن يدفعوا بأميرها المستجد إلى الأمام، إلى الغزو، إلى الفتح، إلى قهر الظالمين، إلى إيقاف الباطل عند حده، إلى رفع لواء العدل… إلخ. ولكن مجهوداتهم ذهبت سدى. ولسنا ندري السبب الحقيقي خلف هذا الإحجام الفاضح، ولكن التاريخ يذكر أن هذا التعثر وذلك الإحجام كان بسبب ما حل بقلب المقدم من التردد والاضطراب، وما حل بقلوب قبيلته من التمرد والخور([1]).
وفي ظل ذلك التردد والاضطراب ساءت علاقة ابن مقيص مع يافع، وبشكل خاص مع لبعوس المسيطرين على تريم، وتبيّن أن وصولهم إليه منذ البدء حال إعلان دولته لم يكن برغبة منهم أو طواعية، إذ وصل إليهم “أنّ عمر بن مقيص استولى على سلطنة تريم، وأن يافع أذعنت له بالطاعة، وألقت إليه أَزِمَّة الرياسة عن طوع واختيار”. بل الأقرب إلى الصواب أنهم قبلوا به كأمر واقع في عز قوته، التي هوَّل أمرَها وبالغ فيها العلويون حال ظهوره، اتِّقَاءً لشره وتجنب عداوته “وطمعًا في الراحة على يده من المشاغبات الداخلية، مع شيء من خشية الموقع الذي جاء به، وما كان ليصعب على يافع الانقياد لواحد من غير جلدتها، مع هذه الدواعي بعد انقيادها، ومع قوتها، ومنعتها لأمراء آل كثير… وإنما ضحكت يافع على ابن مقيص، كما ضحك آل عبد الله وآل كثير على الشاووش بدر حتى أفقروه، وركبوا ظهره حتى أدبروه”([2]).
وبمرور الأيام أخذت هذه الهيبة تتقلص تدريجيًا وتقل، وربما كان ذلك لاستنفاذ موارد ابن مقيص المالية، التي كانت وراء (سلطنته)، كما بدأت مهابته العسكرية التي كان يخشاها الناس في التلاشي والاضمحلال بعد أن أقدم على الرمي من المدفع الذي كان معه دون أن يؤثر شيئًا، وبدأ يفقد سيطرته على الأمور، الأمر الذي دفع بابن غرامة، صاحب تريم، أن يرسل أحد السماسرة يجس له نبض ابن مقيص، فسار إليه، وناداه باسم السلطنة فخفَّ للغاية إلى باب الحصن، فقال الدلَّال في نفسه: هذه الأوَّله، ثم قال للدّلال تقدم في الدرج لِمَا سرّه من مبالغته في مدحه، وقال في نفسه: وذه الثانيه، ثم أدخله إلى منزله الخاص، وزوجته من وراء الستر، حُبًّا في أن تسمع ما يجازف به الدّلال من الثناء عليه، ولـمَّا عاد إلى ابن غرامة قال له: ما قدَّامك حَدْ، فلم يكن منه إلا بعث عبيده إليه فاستولوا على جميع ما كان معه([3]).
وما يؤكد سوء العلاقة وتدهورها بين لبعوس وبن مقيص وصولًا إلى نشوب حرب بينهما، ما جاء في الوثيقة المؤرخة 16شعبان 1243هجرية؛ إذ ورد فيها بالنص([4]): “وإن سألتم عن أخبار حضرموت لبعوس تفاسلوا هم وبن مقيص، وجاء شور لبعوس الجميع واحد وبن همام، وحصل حرب هم وبن مقيص وآل تميم، وحال صدرت وآل تميم في دمون مكان بن سلمة وفي الرملة، ويافع قابضين تريم وخَلَاها، وبنوا أربعة أكوات لبعوس، وحصل حرب بينهم، وكسروا آل تميم ومن معهم، والذي قتلوا من آل تميم أربعة، وواحد من آل كثير عند بن مقيص، وعبد على بن مقيص وجملة أفعال، وأصحابنا سَلَم، وكذلك نفذوا لبعوس في كل عرب، ودخلوا سيئون، وطلبوا رجال، ونفذوا مقدار سبعين نفر من أهل سيئون، ونفذوا إلى القطن بغوا رجال وآل عبدالله والعوامر مع يافع ويافع شور واحد الجميع والخصم إن شاء الله مكسور”.
تفيد الوثيقة حسب النص أعلاه ما يأتي:
وهناك أخبار خاصة وعامة في بقية الرسالة، لكن ما يهمنا منها إشارتها إلى موقف حاكم المكلا حينها وهو النقيب عبد الرب بن صلاح الكسادي، الذي ساءته أخبار سلطنة ابن مقيص، وأنه (متعور)([5])، أي: مستنكر ما حدث لأنه – كما جاء في الرسالة – عمل وقدم الكثير، ولا هو طارح قليل وحضرموت اليوم خيره جم والخصم ضعيف.
رسالة عينات وفرحة النصر على ابن مقيص:
سبق أن عرفنا أن سادة عينات لم يكونوا متحمسين لسلطنة ابن مقيص، بل وغير راغبين أو فرحين لقيامها؛ لأنهم أكثر المتضررين من ظهورها، على عكس بقية السادة العلويين، الذين كانوا الداعمين والمؤازرين لابن مقيص؛ ليكون حاكمًا عادلًا منصاعًا لهم، يعمل بما يشير عليه أعيان العلويين وعلماؤهم. وما أغاض سادة عينات أكثر فقدانهم لنصف موارد مطبخهم، من النذور والهبات بالإكراه لصالح سلطنة بن مقيص، واهتزاز مكانتهم الروحية، ووضعهم في موقف لا يحسدون عليه أمام أتباعهم، ولذلك كانوا فارين منها وغير فرحين بها.
ومع اقتراب العد التنازلي لأفول نجم سلطنة ابن مقيص تنفَّس سادة عينات الصعداء، وأزيح كابوس جثم على أنفاسهم، خاصة بعد أن توحَّدت يافع مع قبائل حضرمية أخرى ضد ابن مقيص وآل تميم، ودخول الطرفين في حرب، أضعفت ابن مقيص وألحقت هزيمة بأتباعه من آل تميم، وعودة تريم إلى قبضة يافع، والأهم بالنسبة لسادة عينات هو عودة توافد يافع مجددًا إلى حوطة عينات؛ إذ جاء تطور الأحداث لصالحهم، ولعودة مكانتهم الروحية، وكانوا أكثر ابتهاجًا وفرحًا من غيرهم، كما تفصح عن ذلك الرسالة المهمة لصاحب عينات التي أرسلها إلى بني بكر – يافع إلى كل من: الشيخ الفقيه عبد الحبيب بن أحمد حيدر والشيخ عبدالله بن عوض دينيش وكافة المحبين بني بكر والمحب محمد صالح، وهي بدون تاريخ، ومختومة برسم (الواثق بالرب العالم أبوبكر بن أحمد بن سالم)([6])، وهو أبو بكر بن أحمد بن سالم بن أحمد بن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين بن أبي بكر بن سالم ، خلف والده سنة 1242هـ ، وتوفي سنة 1261هـ.
الرسالة مكتوبة بورقة مستطيلة وبصفحتين أمامية وخلفية، وأصابها تلف في نهاية صفحتها الأمامية أفقدها بعض الكلمات، وقد كُتبت بخط واضح، لعل كاتبها الفقيه عبد الله بن أحمد بن عبدالرحمن باوزير، الذي خص المُرسَل إليهم بالسلام في نهايتها، مع سالم شقيق المنصب، ونجله سقاف. ولأن الرسالة طويلة، وتشمل عبارات التبجيل، ودعاء مسجوع، وأخبار متنوعة أخرى منها، خبر حصول الرخاء بخيره العميم، واستلامه 12 قرشًا منهم بيد المحب الخلاصة حيدر عبدالله، وخبر مخرج سلاطين يافع، وهي غزوات خارج يافع، ربما مع الزيود، وخبر مرض صادق بن هادي ووفاته في غيل ابن يمين قبل وصوله إلى بني بكر وترحمه كثيراً عليه لأنه من يقوم بجمع النذور والأموال للمنصب، وخبر (عرضته)، أي الصُّلح أو الهدنة، على المحبين الجميع، وفرحهم بها، مع التهويل من نتائجها إيجابًا وسلبًا (فمن قبلَهَا سَعُد وظفر ونال كل مطلوب ومقصود ومن خالف كلامنا فيا ويله منا ويخسر ويندم ولا يبلغ لا مطلوب ولا مقصود)، والتخويف ممن يخالف كلامه وكأنما يخالف القدرة الإلهية (وكلامنا ما يخرج من لساننا إلَّا وقد أخرجته قدرة الله ربنا، ويا ويل من خالف القدرة، فالله الله عرّفوا المحبين في الإخلاص لنا والاعتماد على كلامنا تنالوا جبرنا ورضانا ودعانا جمَّلكم الله دنيا وآخرة آمين).
وما يهمنا من هذه الوثيقة المهمة ما له صلة بموضوع بحثنا فقط، حيث ورد فيها بالنص([7]):
“أخبار جهتنا حسب ما قد بلغكم مقام بن مقيص وطابقنا جبرًا للبعوس لسكون البلاد وأمان العباد وأعطينا الوقت حكمه حال الساعة، ومن بعد صار الخلاف بين لبعوس [تلف في الأصل…] وقبايل فلما رأوا ذلك لبعوس علموا أن ذلك بقدرة الله ربنا وسببه سخطنا وغضبنا فأخلصوا معنا بالنية الخالصة [……] ونصرهم الله على بن مقيص وقبايله، ومن بعد أعطاه [……]طلبوا رسول [……] وأخرج دفعة على الجهة فشق علينا [……] ولبعوس وشكينا عليهم عطال الجهة بالدفاع والخراج فشلوا لنا كل وافية إلَّا علي أحمد المساوى خالفت نيته فينا وتبعوه أهل الشرف ورجعنا إلى عينات وحال وصلنا إلى عينات خلع السلطنة بن مقيص، ووردوا جميع يافع موسطي وضُبَي وبعسي إلى عينات زائرين وطالبين الدعاء والرضا وحصل الأنس الكبير والجبر الكثير دون الشرفي. ومن بعد قامت الفتنة عند بن مقيص وبن قرموص وبالقصير شق، وعصبوا المحب علي أحمد المساوى معهم والآخرين بن شملان وبن محمد وبن زيدان شق، ولما علموا أن المحب علي بن أحمد المساوى مع بن مقيص طلعوا وعصبوا لبعوس وشق على رتبة سيئون مسير علي أحمد المساوى إلى عند بن مقيص وجاب معه حملة من آل كثير وقبائل إلى عند بن مقيص وخرجوا لبعوس إلى الخلا ووقعت حروبات وقتل المحب علي أحمد المساوى وناس من آل كثير وعبيد ومصاويب من الجانبين والمحب علي أحمد أجلا رجال ونقض على يافع جم جم، ونحن اشتغلنا عليه إلى غايه لحيث نقض يافع علينا فعسى الله يهديهم ويصلح نياتهم ويجمع كلمتهم ولا يفرق بينهم بحق طه وياسين وجاه السلف المكين آمين.. وحال الرقم والفتن قائمة هذا مما لدينا”.
ورغم أن الرسالة عامة وشاملة لأخبار عدة، لكن أهميتها تكمن في أن مصدرها أرفع مقام في عينات، المنصب نفسه حينها الحبيب أبوبكر بن أحمد بن سالم، وأن الجزء المهم والرئيس فيها كشف لنا بوضوح ما كان غامضًا من مواقف عينات إزاء ابن مقيص منذ بدء ظهوره على مسرح الأحداث وتأسيس دولته، وصولًا إلى فرحتهم الطاغية بتطورات تلك الأحداث المتسارعة التي سحبت البساط منه وأضعفته تدريجيًا، وأعادت لهم مكانتهم وتأثيرهم لدى أتباعهم. وهو ما نوضحه فيما يأتي:
نهاية دولة ابن مقيص
وهكذا تجمعت عوامل متعددة أدت إلى اضمحلال دولة ابن مقيص ونهايتها، فلم تستقم بالكاد على أرجلها، وتفرض هيمنتها بقوة السلاح والمال، ودعم العلويين وإسنادهم، حتى بدأ نجمها بالأفول التدريجي، وحاول العلويون جهدهم أن يدفعوا بسلطانها إلى الأمام ويحملوه على الفتح والغزو، ولكن مجهوداتهم ذهبت سُدًى لِـمَا حل بقلب المقدم من التردد والاضطراب، وبقلوب قبيلته من التمرد والخور، وتحطّمت آمال العلويين، ومن كان يشاطرهم تلك الآمال من الحضارم، في استتباب الأمن ونشر العدل بين الناس على يد ابن مقيص.
والواقع أن العلويين في غمرة العجلة على الإصلاح قد أساءُوا تقدير الموقف الحضرمي السياسي، ولميحسنوا الاختيار، وأساءوا تقدير القوى الفاعلة على الأرض، التي يمكنها أن تسنده، ثم أن موقفهم لم يكن مُوحَّدًا؛ إذ إن سادة عينات ومعهم يافع – لبعوس وقبائل أخرى لم يقبلوا به عن رضا واقتناع، وإنما جاء قبولهم به خشية هيبته حال ظهوره بالمدفع والمال، وتجنُّبًا لشرِّه أو عداوته، وبمرور الوقت انفضُّوا من حوله، بل ودخلوا معه في صراع وحروب، كما كشفت عن ذلك الوثائق التاريخية التي تنشر لأول مرة، وهو ما يتفق مع ما ورد في “بضائع التابوت”، في مكاتبة من الشيخ الكبير محمد بن عبدالكريم بن عبد الرسول العطار، بعث بها للحبيب محمد بن عيدروس بن عبدالرحمن الحبشي بتاريخ الأربعاء من صفر سنة 1244ه، يقول فيها: “وما ذكرتم من قيام يافع الفئة الباغية بحضرموت، ومخالفتهم على السلطان عمر بن مقيص، فالله تعالى ينصره عليهم (أ.ه). وفي هذا ما قد يؤيد ما رواه زربادي من خبر غرامة معه، ومن أخرى منه إليه بتاريخ 14 محرم 1245ه، وتريم ذكرتم أن عسكر يافع فيها نكثوا العهد على بن مقيص وهو في مكانه، إلى آخر ما ذكر”([8]).
وهناك من يضيف إلى أسباب انهيار دولة ابن مقيص حيلة القبائل المسلحة التي لم تستطع أن تواجهه عسكريًّـا؛ لأنها لم تمتلك السلاح مثله فسالمته، ثم اتفقت على أن تأتي ضيوفًا تصابحه وتماسيه قبيلة بعد أخرى؛ استغلالًا منها لسخائه وكرمه، فأهدر أمواله الكثيرة في الضيافات والعطايا، وبدأ الاضطراب يعصف بدولته، ولم يعد يمتلك حينها المال الكافي لدوام استمرارها فانهارت دولته الفتيه تدريجيًّـا([9]). وكانت “أقصر من ظمء الحمار حتّى لقد صارت مضرب المثل في قصر المدّة”([10]).
ومهما يكن من أمر فقد أصبح ابن مقيص مضرب المثل في قِصَرِ مدّة حكمه، وفي هذه الدولة، وفي أميرها، قال وزيرها السيد عبد الله بن أبي بكر عيديد من قصيدة طويلة كلها تأسُّف وتحرُّق:
ولمـَّا رأيت لهاة الهياج
حسبتك فحلًا وأنت خصي
تبرقع فإنك مثل النساء
وصغ لك عقدين من بصبص
لقد هانها الله من دولة
تربت على الدِّجر والحنبص
إلى قوله:
فخلوا البنـادق لأربابهـا
وشلو بديل البنادق عصي
وقولوا عسى الله ينصف لنا
ويرجم أعداءنا بالحصي
ومات السيد عيديد، تغمده الله برحمته، ولم يذكر مصادر التاريخ هل كان يعني ببيتيه الأخيرين العلويين بُنَاة الدولة، أم كان يعني أميرها ابن مقيص ورجاله؟!. ويبدو أن الشاعر كان ذا روح فكاهية باسمة، تضحك في وجه المكاره، وعندما يرين الفشل على النفوس. لقد كان له، على أي حال، نصيب من (دولة الدّجر والحنبص) بحُكم وزارته لها.
وهال الزمان التراب على ابن مقيص ودولته، وبقي شعر السيد عيديد يشيع البهجة في النفوس المكلومة، وينفس عن الناس كربتهم وضيقهم من تذكر تلك الأيام السوداء([11]).
الخلاصة:
تكمن أهمية هذا البحث في كونه يقدم معلومات وحقائق تاريخية جديدة، استنادًا إلى وثائق تاريخية أصيلة، تنشر لأول مرة، تعود إلى زمن الحدث، تكشف تفاصيل مجهولة، وتميط اللثام عن كثير من الغموض واللبس الذي ساد عن دولة ابن مقيص – حضرموت، ذات العُمر القصير. ومن ذلك أن ظهورها ليس في 15/4/1243هـ، كما ورد في كثير من المراجع، بل في الأرجح يعود إلى العام السابق له 1242هـ، وشاهدنا على ذلك الرسالة المؤرخة قبل ذلك التاريخ بشهرين، وتحديدًا في 15/2/1243هجرية([12])؛ لأنها تصف هيبة الدولة ونفوذها القوي حينها، بما يعني أنها كانت قائمة قبل ذلك التاريخ بفترة زمنية لا تقل عن أشهر عدَّة، وهيبتها دون شك سابقة لنشأتها بفترة كافية، ومع ذلك تظل معرفة يوم وشهر نشأتها مجهولًا، وقد تكشف عنه وثائق مماثلة تظهر في المستقبل. ورغم أن الرسائل الثلاث لم تذكر الاسم الكامل لابن مقيص واكتفت بكنيته، ولم تشر إلى نسبه هل من يافع أو تميم، ويظل ذلك محل تنازع بين يافع وتميم، لكنها أشارت بوضوح إلى دخوله الحرب مع تميم ضد يافع وعينات وحلفائهم حينما تطورت الخلاف إلى حرب بين الطرفين، وهذا في تقديرنا يرجح فرضية نسبه إلى آل أحمد التميميين، ولو كان من آل أحمد القعيطيين أو من يافع عامة، لكانوا آزروه ووقفوا معه.
وخلص البحث وفقًا لما بيَّنتْه الوثائق أن ابن مقيص لم يكن رجل دولة، ولا ذا طموح للحكم، وإنما خضع للظروف ولرغبة العلويين، الذين اقنعوه بتقبل دور الحاكم، السلطان، وأنه على غير الشائع مما روّج له العلويون (في أنّ عمر بن مقيص استولى على سلطنة تريم، وأن يافع أذعنت له بالطاعة، وألقت إليه أَزِمَّة الرياسة عن طوع واختيار)([13])، لأن يافع ،كما أفصحت عنه الرسائل وما وأوردته من أحداث وما بيَّنتْه من خلافات قادت إلى نزاعات وحروب، لم تقبل بدولة ابن مقيص عن رغبة وقناعة ومثلها عدد من القبائل، وإنما قبلوا بها خشية لما أشيع من قوتها لحظة ظهورها لتجنب عداوتها. بل بيّنت الرسائل أنَّ العلويين لم يكونوا جميعهم متفقين على دعم دولة ابن مقيص وإسنادها، كما يُشاع، بدليل موقف سادة عينات المعارض لاستئثار ابن مقيص بنصف مواردهم إجبارًا، وبدون وجه حق يروه، فظلوا يترقبون الفرصة لاستعادة حقهم ومكانتهم بين اتباعهم.
وخلاصة القول إن دويلة ابن مقيص كانت حدثًـا عابرًا في التاريخ الحضرمي المعاصر، ومثلما ظهرت فجأة، دون تمهيدٍ كافٍ على الأرض أو إعدادٍ لكامل مقوماتها، فقد دخلت في دوامة الاضطرابات وانتهت سريعًا، قبل أن تحقق المرجو من قيامها في وقف الفتن وإشاعة العدل والأمن والأمان، كما حلم مؤسسوها العلويون، وأصبحت مع حاكمها في ذاكرة الحضارم موضوعًا للسخرية والتندُّر وضرب الأمثال بقصر مدة الشيء.
هكذا أفلت دويلة ابن مقيص والناظرون إليها ينشدون قول التهامي([14]):
يا كوكبًا ما كان أقصر عمره | وكذا تكون كواكب الأسحار |
وبعد أن يئسوا وعادوا فولَّوا وجوههم مرة ثانية شطر منصور بن عمر الكثيري وإذا هو لا يزال منهمكًا في إيقاد نيران الفتن، وارتكاب المناهج العمياء في سلوكه السياسي المذبذب.
[1] – المختصر في تاريخ حضرموت: ص 106.
[2] – بضائع التابوت:2/277.
[3] – بضائع التابوت: ص 279.
[4] – انظر صورة الوثيقة رقم (2)، رسالة عبد الحبيب بن صالح بن محمد سعيد الجحوشي الضُبَي، التي بعث بها من المكلا إلى فقهاء بني بكر.
[5] – متعوِّر: من العار، أي مستنكر، وكأن ما حدث عارٌ لحق به وجب محوه.
[6] – انظر صورة الوثيقة رقم (3).
[7] – انظر صورة الوثيقة رقم (3).
[8] – بضائع التابوت: 2/280.
[9] تاريخ حضرموت: ص90.
[10] – إدام القوت، ص845. الظِّمْءُ والجَمِيْعُ الأظْمَاءُ: حَبْسُ الإِبِلِ عن الماءِ إلى غايَةِ الوُرُوْدِ؛ فما بَيْنَ الشِّرْبَيْنِ: ظِمْءٌ.وظِمْءٌ. وظِمْءُ الحِمَارِ أي يَسِيرٌ لأنه ليس شَيْءٌ أَقْصَرَ ظِمْئاً منه.
[11] – المختصر في تاريخ حضرموت، ص 106. المعلم عبدالحق، ص131.
[12] – انظر صورة الوثيقة رقم (1).
[13] – بضائع التابوت:2/277.
[14] – تاريخ الدولة الكثيرية: ص 195.